نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 1/6/2012
حلزون الديون Debt Spiral هو حالة
تنطبق على الأفراد أو الشركات أو الدول. سوف يكون محور اهتمامنا في هذا المقال حول
مفهوم حلزون الديون وكيف ينطبق على الدول. من المعلوم أن ديون الدول تتعدد من حيث
النوع، فقد يكون دين الدولة مملوكا للجمهور في الدولة، سواء المستثمرين من القطاع
الخاص أو العام وهو ما يعد دينا محليا، أو مملوكا من جانب المستثمرين الأجانب في
الدين العام للدولة، وهو ما يطلق عليه الدين السيادي للدولة، هذا النوع الأخير من
الديون هو دائما الأكثر ترشيحا لجلب حالة حلزون الديون للدولة، لأن المستثمرين
الأجانب غالبا ما ترتفع حساسيتهم لأي تطورات معاكسة في المؤشرات الخاصة بخدمة
الدين الخاص بالدولة، ومن ثم ينعكس ذلك بشكل سريع على المبيعات الذي تتم من سندات
الدولة في السوق، الأمر الذي يضغط على أسعار السندات ومن ثم معدلات العائد عليها،
وعندما تتغير معدلات العائد على سندات الدولة فإن معدلات الفائدة المطلوب أن
تدفعها الدولة على إصداراتها من السندات الجديدة تتغير.
حلزون الديون هو الحالة التي تواجه فيها الدولة تزايدا مستمرا في
مستويات ديونها بحيث تصبح هذه المستويات من الدين والفوائد عليها غير مستدامة إلى
الحد الذي يؤدي في النهاية بالدولة إلى التوقف عن خدمة ديونها وإعلان إفلاسها، ومن الواضح أن حلزون الديون يتفاقم بالنسبة للدولة
عندما يترتب على الأوضاع المالية الصعبة التي تمر بها ضغوطا مستمرة على معدلات
الفائدة التي تدفعها على ديونها نحو الارتفاع بحيث يصبح دينها غير مستدام.
ولكن كيف يتكون حلزون الديون؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد من
الإشارة إلى أن حلزون الديون يتكون من مجموعة من الحلقات المتصلة ببعضها البعض
والتي تؤدي في النهاية إلى تزايد احتمالات التوقف عن السداد أو إعلان إفلاس الدولة.
ففي الحلقة الأولى من الحلزون ترتفع مستويات الدين القائم على الدولة نتيجة مجموعة
العوامل المسببة لتصاعد الدين والتي يمكن أن تكون بسبب ضعف المالية العامة للدولة
نتيجة عدم كفاية الإيرادات الضريبية أو انخفاض كفاءة عملية تحصيلها او ارتفاع
مستويات الإنفاق العام للدولة على نحو لا يتماشى مع قدرتها على جمع الضرائب ..
الخ. ويترتب على استمرار هذه الأوضاع استمرار ارتفاع الدين كنسبة من الناتج المحلي
الإجمالي للدولة.
في الحلقة الثانية للحلزون ترتفع درجة القلق في الأسواق نتيجة تفاقم
مستويات الدين القائم على الدولة، وهو ما يؤدي إلى اهتزاز ثقة المستثمرين في سندات
الدولة نظرا لتراجع الثقة في قدرتها على خدمة ديونها الأمر الذي يدفعهم إلى طلب
معدلات أعلى من العائد على سندات الدين الخاصة بالدولة لمواجهة ارتفاع مخاطر توقفها
عن خدمة الديون، ويعني ذلك بالتالي ارتفاع معدلات الفائدة على إصداراتها الجديدة
من السندات.
في الحلقة الثالثة ترتفع تكلفة خدمة الدين نتيجة لارتفاع مستويات
الدين القائم على الدولة من ناحية وارتفاع معدلات الفائدة على السندات الجديدة من
ناحية أخرى، ومن ثم تكون المحصلة النهائية لذلك هي ارتفاع مستويات الإنفاق العام
للدولة على نحو أكبر ومن ثم ارتفاع العجز المالي إلى الناتج في الدولة.
في الحلقة الرابعة يترتب على ارتفاع تكلفة الاقتراض محاولة الدولة
السيطرة على إنفاقها العام من خلال محاولة زيادة الضرائب أو رفع درجة كفاءة التحصيل
لها، أو من خلال طلب المساعدة من المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي، أو
تلجأ الدولة إلى خيار التقشف حيث تقوم الدولة بتخفيض مستويات الإنفاق بهدف السيطرة
على العجز المالي ومن ثم النمو في الدين العام للدولة، غير أن تلك السياسة يترتب
عليها انخفاض معدلات النمو وقد تدخل الدولة في حالة كساد، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع
نسبة الدين إلى الناتج.
في الحلقة الخامسة ونتيجة لهذه التطورات يصبح من الصعب على الدولة أن
تقوم بخدمة دينها القائم ويقل إقدام المستثمرين على شراء سندات الدولة وهو ما قد يؤدي
إلى توقف الدولة عن خدمة ديونها، ومن ثم استمرار تلك الحلقات مرة أخرى بحيث ينتهي
الأمر بالدولة إلى إعلان إفلاسها.
ولكن إذا كان الوضع كذلك فكيف يمكن أن تكسر الدولة حلزون الديون
وتتجنب بالتالي النتيجة النهائية للحلزون وهي إعلان الإفلاس؟ لكسر حلقات الحلزون يفترض
أن تتعامل مع عجزها المالي في محاولة لتخفيضه من خلال زيادة الضرائب، أو رفع كفاء
عملية تحصيلها، وخفض الإنفاق الحكومي أو ما يعرف بسياسات التقشف، ولكن سياسات
التقشف، كما أثبتت التجربة الأوروبية، ربما يكون لها آثار خطيرة على النمو وتؤدي
بالدولة إلى الدخول في حالة كساد، لذلك فإن محاولات خفض العجز المالي للدولة لا بد
وان يصاحبها سياسات مساندة تساعد على تحفيز الطلب الكلي، على سبيل المثال من خلال اللجوء
إلى سياسات النقود الرخيصة إما باستخدام السياسات التقليدية مثل طباعة النقود أو
زيادة عرض النقود من خلال السياسات غير التقليدية كالتيسير الكمي، كذلك يمكن
للدولة العمل على خفض قيمة عملتها لرفع تنافسيتها وزيادة الطلب الخارجي على
ناتجها. المهم أن سياسات كسر حلزون الدين لا بد وأن تضع في الاعتبار الآثار
المحتملة على النمو. الخيار الآخر المتاح للدولة لكسر حلزون الدين هو طلب المساعدة
المالية من المصادر الثنائية Bilateral مثل مؤسسات
المعونة الثنائية، أو المؤسسات الدولية متعددة الأطراف Multilateral مثل
صندوق النقد الدولي، غير أن مثل هذه المؤسسات غالبا ما تشترط ضرورة أن تقوم الدولة
بتبني برامج للاستقرار المالي قد يؤثر بصورة سلبية على النمو.
الشكل رقم (1) يوضح دول العالم الأكثر عرضة لحلزون الديون حاليا، لاحظ
أن جانبا كبيرا من هذه الدول هي الدول الأعضاء في منطقة اليورو، ولكن لماذا تكون الدول
الأعضاء في اليورو هي الأكثر عرضة لحلزون الديون من بين دول العالم خلال الأزمة
الحالية؟ الإجابة على هذا السؤال تتضح من طبيعة الاتحاد الذي تنتسب إليه هذه
الدول، والتي تحرم هذه الدول من أن تتبنى سياسات نقدية مستقلة تمكنها من زيادة عرض
النقود للامتصاص الجزئي لآثار التقشف على الطلب الكلي في الاقتصاد وذلك من خلال
زيادة عرض النقود بأي صورة من الصور، كذلك فإنه بالطبع عندما تكون الدولة عضوا في
اتحاد نقدي، فإن هذه الدولة تفقد سيطرتها على قيمة عملتها المحلية ولا تستطيع
بالتالي إن تقوم برفع درجة تنافسيتها الدولية من خلال خفض قيمة العملة، حيث تصبح
هذه السياسة خارج نطاق سيطرة الدولة. في ظل هذه القيود تنخفض قدرة هذه الدول على
التحرك لمواجهة حلزون الدين، ومن ثم لا بد وان ترتفع معدلات العائد المطلوب على
سنداتها وهو ما يعقد أوضاع الدين بالنسبة لها.
من أمثلة حلزون الدين في الحالة الأوروبية حالة اليونان، حيث ترتفع
نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، على الرغم من اتباع الدولة لسياسات
تقشفية لفترة طويلة نسبية بعد أزمتها، وهو ما أدى إلى كساد طويل الأمد في اليونان
ترتب عليه انخفاض القاعدة الضريبية للدولة وتزايد العجز المالي إلى الحد الذي بلغ
بها حد الوقوع في الإفلاس لولا المساندة الأوروبية، كذلك تتعرض إيطاليا لاحتمال إصابتها
بحلزون الديون لذلك اتخذت إجراءات صارمة لخفض الإنفاق واستعادة ثقة الأسواق في
سنداتها، ومن هذه الدول التي تواجه احتمال الإصابة بحلزون الدين حاليا أيضا إسبانيا
حيث تميل نسبة الدين إلى الناتج نحو الارتفاع وتميل معدلات العائد المطلوبة على
سنداتها نحو الارتفاع كذلك، وهكذا نجد أن الدول المدينة الأعضاء في اليورو المعرضة
لحلزون الدين تشترك في ذات الخصائص، وقد حاولت دول اليورو اتباع سياسات تقشفية أدت
إلى تراجع معدلات النمو على النحو الذي تناولناه في مقالين هنا في الاقتصادية
بعنوان منطقة اليورو بين الحاجة إلى النمو وضرورة التقشف.
السبب الرئيس في تصاعد القلق من احتمال دخول أوروبا حلزون الدين هو
تصاعد معدلات العائد المطلوب على إصداراتها الجديدة من السندات والتي تصل حاليا إلى
15% في حالة اليونان و6% في حالة إسبانيا وإيطاليا، وهي بكل المقاييس تعد مستويات
مرتفعة للعائد لأنها تزيد عن معدلات النمو الحقيقي الذي تحققه هذه الدول، ولا يمكن
السيطرة على معدلات العائد إلا من خلال طمأنة الأسواق إلى أن الدول قادرة على خدمة
ديونها بسهولة، وهو ما فشلت أوروبا في تحقيقه حتى اليوم. الخلاصة هي أن أوروبا تحتاج
إلى أن تسيطر على معدلات العائد على سندات الدول المدينة والا ستواجه حلزونا
للديون لا تستطيع السيطرة عليه، بالطبع إذا بلغ الحلزون منتهاه في أوروبا فإن ذلك
سوف يعني، لا قدر الله، اندلاع أزمة مالية عالمية تتجاوز في آثارها أزمة ليمان
براذرز بمئات المرات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق