الاثنين، يوليو ٠٢، ٢٠١٢

بانكيا: ليمان براذرز إسبانيا


نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 29/6/2012

يعد "بانكيا" أشهر أسماء البنوك الإسبانية التي تتداولها وكالات الأنباء من وقت لآخر، باعتباره أكثر البنوك حاليا المهددة بالانهيار بين لحظة وأخرى واضعا النظام المالي الإسباني بأكمله في مهب الريح. فبعد أن انطلقت الأزمة المالية العالمية في 2008 أخذت فقاعة المساكن في إسبانيا في الانفجار، ولمواجهة المشكلات الكامنة للبنوك الإسبانية طلبت الحكومة الإسبانية من البنوك رفع نسبة رأس المال إلى أصولها إلى 10%، وذلك من أجل تقليل مخاطر لجوء هذه البنوك للحكومة، الأمر الذي يترتب عليه تحويل أموال دافعي الضرائب لهذه المؤسسات، كما عملت على تشجيع عمليات الاندماج بين البنوك الإسبانية لتكوين كيانات أضخم أكثر قدرة على مواجهة تطورات قطاع المساكن.

بانكيا هو مجموعة مندمجة من 7 بنوك ادخار محلية إسبانية تم إنشاؤها في عام 2010 وذلك في محاولة لإنقاذ بنوك المجموعة من الانهيار. باندماج هذه المجموعة تحول بانكيا إلى ثالث أكبر البنوك الإسبانية من حيث حجم الأصول ورابع اكبر بنك في إسبانيا من حيث عدد العملاء (12 مليون عميلا)، ومن ثم فإنه يشكل مجموعة مالية ضخمة تملك 4000 فرعا ويعمل فيها 25 ألف موظف تقريبا، كما يستحوذ على حصة سوقية تقدر بحوالي 10% من سوق الخدمات المصرفية الإسباني، بينما بلغت أصوله حوالي 340 مليار يورو عند الإندماج. غير أنه بإنشاء البنك تم تحويل كافة الأصول المسمومة للبنوك السبعة إلى البنك الجديد، وهذا هو مكمن الخطر الذي يواجهه البنك حاليا.

في عام 2011 تمت محاولة زيادة رأس مال البنك بطرح أسهمه على المستثمرين في العالم ولكن الطرح لم يلق الترحيب المناسب من المستثمرين الدوليين، ولذلك واجهت عملية تسوق أسهم البنك في الخارج مقاومة شديدة ونتيجة لذلك تم طرح زيادة رأس المال لبانكيا على الجمهور، وهو ما عقد الأمور بشكل اكبر، حيث يرى المراقبون أنه ما كان يجب طرح اسهم على الجمهور لبنك يعاني من كل هذه المشكلات في هيكله المالي، وفي مايو 2012 أصبح من الواضح أن البنك في حالة شبه انهيار، وفي محاولة لإنقاذه قامت الحكومة بتأميم البنك بصورة جزئية من خلال تقديم 4.5 مليار يورو في صورة صندوق للإنقاذ في مقابل أسهم تفضيلية تستحق في 2015، وذلك ضمن جهود الحكومة الإسبانية لإنقاذ نظامها المالي وللحيلولة دون إفلاس البنك تحت ضغوط الأصول المسمومة من القروض العقارية.

منذ أن تم إنشاء المجموعة وبانكيا يواجه مخاطر الإفلاس، ففي العام الماضي حقق بانكيا حوالي 3 مليار يورو خسائر، وفي مايو الماضي أعلن المدير التنفيذي لبانكيا أن البنك في حاجة إلى حزمة إنقاذ تقدر بحوالي 19 مليار يورو حتى يتمكن من تنظيف قوائمه المالية من الأصول المسمومة، وهي من هذا المنطلق تعد اكبر حزمة إنقاذ في تاريخ إسبانيا. السبب الأساسي في ارتفاع مخاطر إفلاس هذا البنك هو أنه يعد أكبر بنك في إسبانيا من حيث التعرض للقروض الممنوحة للقطاع العقاري، حيث يبلغ حجم القروض العقارية المقدمة من البنك حاليا حوالي 38 مليار يورو تشكل أصولا مسمومة في قائمته المالية.

في العام الماضي بلغ سعر سهم بانكيا حوالي 4 يورو تقريبا، البيانات المتاحة اليوم تشير إلى هبوط سعر السهم إلى حوالي 0.9 يورو، أي بانخفاض نسبته 87% تقريبا، ووفقا لآخر القوائم المالية للبنك المنشورة في ديسمبر 2011، بلغ رأس مال البنك 12.5 مليار يورو، بينما بلغت أصوله في هذا التاريخ 303 مليار يورو، بالطبع سوف يترتب على إلغاء هذه الأصول المسمومة من القوائم المالية للبنك تراجع نسبة رأس مال البنك إلى أصوله إلى حافة الانهيار، الأمر الذي يقتضي ضرورة رفع رأس مال البنك لضمان سلامته، أو انهيار البنك.

سوف يترتب على حقن البنك ب 19 مليار يورو أن تصل كمية الأموال التي ضختها الحكومة في البنك منذ بداية أزمته إلى 33 مليار يورو، وهو مبلغ ضخم جدا بالمعايير الإسبانية، حيث يمثل حوالي 3% من الناتج المحلي الإسباني. كما سيؤدي ذلك إلى رفع ملكية الحكومة في أسهم البنك بصورة جوهرية تصل إلى حوالي 90%، وهو ما ينظر إليه على أنه أكبر عملية تأميم قامت بها الحكومة الإسبانية.

كما أشرنا مسبقا أن الحكومة الإسبانية ظلت تقاوم الحاجة إلى طلب المساعدة من الاتحاد الأوروبي، غير أن إعلان بانكيا أنه في حاجة إلى 19 مليار يورو لإطفاء ديونه المسمومة، اضطر الحكومة إلى اللجوء إلى طلب المساعدة الخارجية، وأعتقد أن لجوء الحكومة الإسبانية إلى طلب المساعدة يعود إلى أنه بات من الواضح عدم قدرة الخزانة الإسبانية على تسويق قروض بهذا الحجم ولمثل هذا الغرض دون أن تدفع معدلات استثنائية للعائد، خصوصا بعد أن بلغ معدل العائد السوقي على سنداتها استحقاق 10 سنوات حوالي 7% تقريبا وهو معدل غير مستدام لدولة مدينة، هذا إن وجدت من يقرضها أصلا لمثل هذا الغرض.

تنبع مشكلة بانكيا، كما ذكرنا، من مشاركته المكثفة في عمليات تمويل بناء المساكن التي انتشرت في إسبانيا أثناء فورة سوق المساكن في العقدين الأخيرين، لدرجة أنه في عام 2006 فقط نمت محفظة القروض العقارية في أعضاء المجموعة بنسبة 25%، وعلى الرغم من التحذيرات التي كانت تطلق من وقت لآخر حول ارتفاع درجة سخونة سوق المساكن الإسباني، حيث نظر بعض المراقبين إلى سوق المساكن على أنه بالون كبير يتشكل في إسبانيا، إلا أن أعضاء المجموعة تجاهلوا تلك التحذيرات واستمروا في التوسع في الإقراض العقاري مدفوعين بمعدلات الارتفاع السريع لأسعار المساكن. إنها نفس القصة التي واجهتها القطاعات المالية في الكثير من دول العالم بما فيها دبي، والتي ارتفعت فيها أسعار المساكن بأكثر من 200% خلال الفترة من 2003-2007، ومع ذلك لم يفكر أحدا من المتعاملين في قطاع المساكن أنهم يسيرون وسط فقاعة كبيرة على وشك الانفجار، وعلى العكس من ذلك ازدادت عمليات تمويل المؤسسات المالية لمشروعات المساكن مرتفعة المخاطر تحت إغراء معدلات العائد المرتفع التي تحققها المساكن في الأجل القصير دون الأخذ في الاعتبار انعكاسات مثل هذه الاستثمارات الخطرة على متانة والسلامة المالية للمؤسسات المقرضة على الأجل الطويل.

في إبريل الماضي أوصى صندوق النقد الدولي أن تقوم الحكومة الإسبانية بتدبير المزيد من رأس المال للبنوك الإسبانية بصفة خاصة للبنوك الكبرى وذلك لتأمين قوائمها المالية لضمان استقرار قطاعها المالي، وأن تقوم بتحسين إدارات هذه البنوك وزيادة درجة حوكمتها. وتحت ضغط هذه التحذيرات اضطرت الحكومة الإسبانية إلى طلب المساعدة من الاتحاد الأوروبي. غير أنه في اليوم الذي تقدمت فيه إسبانيا رسميا الأسبوع الماضي للحصول على المساعدة المالية، قامت مؤسسة موديز بتخفيض التصنيف الائتماني لـ 28 بنكا إسبانيا على رأسها مجموعة بنك بانكيا، من Baa3 إلى التصنيف Ba2، وهو التصنيف الذي يعطى للمؤسسات المقدمة على الانهيار، وذلك في أعقاب تخفيض تصنيف البنك أيضا من جانب مؤسسة ستاندرد أند بور إلى BB+. السبب الرئيس في عملية تخفيض التصنيف هو ضعف القدرات التمويلية للحكومة الإسبانية على تقديم المساعدة المالية اللازمة لإعادة رسملة هذه البنوك ووقف اتجاهها نحو الإفلاس.

اليوم تعد الحكومة الإسبانية خطة الإنقاذ المالي لبنوكها باستخدام الحزمة التي أعلن الاتحاد الأوروبي عن تقديمها لإسبانيا، غير أن المراقبين يرون أنها ربما لا تكون كافية لطمأنه الأسواق حول الوضع المالي الإسباني، كذلك يتشكك البنك المركزي الأوروبي في أن عملية حقن الحكومة الإسبانية للأموال في بانكيا هي افضل طريقة لإعادة رسملة البنك، ولذلك تدور التكهنات حاليا حول احتمال حاجة إسبانيا إلى خطة إنقاذ كاملة على نفس النمط الذي قدم لباقي دول مجموعة الـ PIIGS، وحتى يتم ذلك سوف يظل الحجم الضخم لبانكيا يحول دول السماح له بالإفلاس، ويفرض على الحكومة الإسبانية ضرورة بذل كافة جهودها للحيلولة دون سقوط البنك، ذلك أن بانكيا بالمقاييس الإسبانية يدخل ضمن قائمة ما يطلق عليه "أكبر من أن يفلس" Too big to fail، لأن السماح لبانكيا بالإفلاس سوف ينشر الدمار الشامل في القطاع المالي الإسباني بأكمله، وهو إن حدث، لا قدر الله، سوف يعيد قصة إفلاس بنك ليمان براذرز ولكن على الطريقة الإسبانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق