الجمعة، يوليو ٢٧، ٢٠١٢

إعادة رسملة البنوك

نشر في صحيفة الاقتصادية يوم الثلاثاء 24/7/2012

لم يحدث أن شهد العالم عمليات إعادة رسملة للبنوك كتلك التي حدثت في الأزمة المالية الحالية، فلقد كان من المفترض أن يشهد العالم سقوط عشرات الآلاف من البنوك والمؤسسات المالية في خضم هذه الأزمة. بصفة خاصة كان من الممكن أن تشهد الولايات المتحدة إفلاس آلاف البنوك مثلما حدث في أثناء الكساد العالمي الكبير، حيث أفلس حوالي 9000 بنكا ومؤسسة مالية خلال الفترة من 1929–1933، وفي عام 1933 وحده، أفلس حوالي 4 آلاف بنك ومؤسسة مالية نتيجة للأزمة، وهو ما دعا الحكومة الأمريكية إلى إنشاء المؤسسة الفدرالية للتأمين على الودائع FDIC. شهدت الثمانينيات أيضا عمليات إفلاس عنيفة للبنوك في الولايات المتحدة بلغت أوجها في عام 1989 حيث أعلن إفلاس 534 بنكا.
عندما انطلقت الأزمة المالية العالمية الحالية كان من بين حزم التحفيز التي قامت بها معظم دول العالم تخصيص مئات المليارات من الدولارات لإعادة رسملة البنوك، حيث طبقت الدول الصناعية بعد عام 2008 برامج مكثفة لإعادة رسملة جهازها المصرفي بما فيها الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، وإيرلندا، وسويسرا، واليابان وغيرها. فقد خصصت الولايات المتحدة حوالي 700 مليار دولارا ضمن برنامج شراء الأصول المضطربة TARP، وبتطبيق البرنامج تم توجيه الاهتمام لبرنامج مشتريات رأس المال لإنقاذ القطاع المصرفي، وذلك بهدف زيادة رسملة البنوك بصورة مباشرة وغير مباشرة لتعزيز الثقة في هذه البنوك. على سبيل المثال قامت الحكومة الأمريكية في اطار برنامج المشتريات الرأسمالية بضخ أكثر من 200 مليار دولارا في مؤسساتها المالية، وقد نجح هذا البرنامج في الحد من عمليات الإفلاس على نحو كبير، فلم تتعد حالات الإفلاس بين البنوك الأمريكية في أحلك السنوات 157 بنكا في عام 2010، من بين حوالي 8300 بنكا تعمل في الولايات المتحدة، وهو ما يعكس نجاح البرنامج في تحقيق مستهدفاته في الحد من عمليات إفلاس البنوك. كذلك من بين برامج إعادة الرسملة الرئيسة في العالم ما قامت به اليابان خلال أزمتها في التسعينيات بتخصيص 30 تريليون ينا لتثبيت قطاعها المالي، منها 13 تريليونا لإعادة رسملة البنوك.
منذ عدة أيام أصدر صندوق النقد الدولي تقريرا نصح فيه إسبانيا بسرعة إعادة رسملة بنوكها، وذلك باستخدام قرض الإنقاذ الذي أقره الاتحاد الأوروبي لمساعدة القطاع المالي الإسباني والبالغ 100 مليار يورو، من خلال ضح المزيد من رأس المال في بنوكها المضطربة وذلك لمواجهة تزايد نسب الأصول المسمومة في القوائم المالية لهذه البنوك. حاليا أيضا تقوم إيطاليا بالموافقة على قانون يساعد على دعم رؤوس أموال البنوك، والذي بمقتضاه تستعد البنوك لبيع سنداتها للحكومة لرفع رسملتها، على سبيل المثال يستعد حاليا بنك Siena لبيع 1.3 مليار يورو من السندات للحكومة. كذلك تستعد اليونان لضخ 18 مليار يورو في بنوكها. من الواضح إذن أن الكثير من دول أوروبا تستعد اليوم بدرجة أو أخرى لمواجهة هذه الاحتمالات، فما هي رسملة البنوك وما هي أهميتها؟
عملية إعادة الرسملة هي عملية تتضمن تغيرا جوهريا في أسلوب تمويل البنوك، من الاعتماد على إصدار المزيد من الأسهم أو بيع السندات إلى مصادر التمويل الخاصة، إلى التمويل من خلال ضخ الحكومة للأموال في البنك، ويتم ذلك إما بصورة مباشرة من خلال قيام البنك بإصدار اسهم تشتريها الحكومة، غالبا ما تكون اسهم تفضيلية والتي قد تؤدي في بعض الأحيان إلى أن تصبح الحكومة هي صاحب أكبر حصة رأسمالية في البنك، وينظر إلى هذه العملية على أنها أحد أشكال عمليات تأميم البنوك. على سبيل المثال قامت الحكومة البريطانية بضخ 82 مليار يورو في عامي 2008-2009، وترتب على عمليات إعادة رسملة البنوك البريطانية أن أصبحت الحكومة هي المساهم الرئيس في رويال بنك أوف سكوتلاند حيث تملك 82% من رأسماله، و75% من رأس مال آنجلو أيرش بنك، و 40% من رأس مال مجموعة بنك اللويدز، كما يمكن أن تتم عملية إعادة الرسملة بصورة غير مباشرة وذلك بأن تقوم البنوك بإصدار سندات طويلة الأجل تشتريها الحكومة.
تستهدف برامج ضخ الأموال الحكومية في البنوك إلى تخفيض مخاطر المؤسسات المالية التي يتم ضخ الأموال فيها، ومن ثم زيادة قدرتها على الاستمرار ومنح الائتمان، ورفع قدرة البنوك على مواجهة مخاطر الإفلاس، ويتعرض البنك لمخاطر الإفلاس نتيجة الخلل الذي يحدث في ميزانيته، حيث تتكون ميزانية البنك من جانبين: الالتزامات، والتي تمثل مصادر الأموال التي يحصل عليها البنك وأهمها بالطبع المودعات والديون ورأس المال، والجانب الآخر وهو الأصول، والذي يمثل الطريقة التي يوظف بها البنك الأموال التي يحصل عليها وأهمها القروض والسندات الحكومية. عندما يتعرض البنك لأزمة فإن هذا الهيكل يختل في صورة تزايد الالتزامات عن الأصول نتيجة لخسارة البنك لجانب من أصوله، هذه الخسارة لا بد وان تخصم من صافي رأس مال البنك، وعندما يخسر البنك نسبة كبيرة من رأسماله يصبح هذا البنك متعثرا، ولا بد وأن يعلن إفلاسه، ولكن لماذا يتعرض البنك أكثر من غيره لمثل هذه المخاطر؟ للإجابة على هذا السؤال لابد وان نتعمق قليلا في طبيعة عمل البنوك.
المشكلة الأساسية التي تواجهها البنوك هي أن مصادر أموالها (عدا رأس المال)، غالبا ما تكون قصيرة الأجل، أو قابلة للاسترداد في أي وقت، بينما تكون عملية توظيف هذه الأموال ذات طبيعة طويلة الأجل نسبيا، وعندما يواجه البنك طلبات من عملاءه بسحب مودعاتهم يواجه البنك مشكلة تدبير المال اللازم لذلك، وهو ما يضطره إلى اللجوء إلى خيارات مختلفة لتدبير السيولة، ومن المعلوم أن كافة هذه الخيارات مكلفة بالنسبة للبنك، وقد تكون التكلفة في بعض الأحوال كبيرة، وهو ما يوقع البنك في مشكلة. من ناحية أخرى فإن سوء تقدير البنك لطبيعة الأصول التي يستثمر فيها أو تعرض هذه الأصول لمخاطر نظامية، كتوقف المقترضين من البنك عن خدمة ديونهم، مثال ذلك التوقف عن سداد أقساط الرهون العقارية، أو خسارة البنك لاستثماراته في بعض الأصول مثل التزامات الديون المرهونة CDOs، وهي أصول ذات عوائد مرتفعة، ولكنها في ذات الوقت ذات مخاطر مرتفعة أيضا لصعوبة تقييم المخاطر المحيطة بالأصول المستخدمة في ضمان هذه الالتزامات، أو تراجع أسعار الأصول المستخدمة كرهون للقروض التي قدمها البنك، مثلما حدث في أزمة قطاع المساكن في الولايات المتحدة، أو ما يحدث حاليا في إسبانيا، وهو ما يؤدي إلى تراجع قيمة الأصول التي يملكها البنك. كل هذه الأسباب سوف تؤدي إلى نتيجة واحدة هي تراجع صافي رأس مال البنك.
المأساة الحقيقية التي سيواجهها البنك الذي يواجه مثل هذه الظروف هي أنه لن يجد من هو مستعد لإقراضه لتحسين وضع ميزانيته، حيث تصبح البنوك اكثر حساسية نحو إقراض البنوك الأخرى التي تواجه أي شكل من أشكال نقص السيولة، وتنخفض الثقة بشكل كبير في البنك وتنحسر بالتالي الأموال المتاحة له للاقتراض. في ظل هذه الظروف لا بد وان تتم استعادة الثقة في البنك، وإلا فإن البديل سوف يكون الإفلاس، وتؤدي عملية إعادة رسملة البنك إلى استعادة الثقة بصورة كبيرة في البنك وترفع من قدرته على استكمال أعماله، حيث ستتوقف عمليات سحب المودعات من البنك، وسيتمكن البنك من جذب المزيد من المودعات، كما سيجد البنك من يقبل بأن يقرضه سواء من البنوك أو المؤسسات المالية الأخرى. وغالبا ما تتم عملية إعادة رسملة البنوك بعد فرض شروط محددة عليها مثل الحد من المكافآت التي تدفع للإدارات، أو فرض شروط محددة حول عمليات الإقراض التي تقوم بها.
ولكن لماذا يجب أن تتم إعادة رسملة البنوك؟ الإجابة ببساطة هي لأن عملية إفلاس البنوك سوف تحدث ذعرا ماليا وارتباكا في النظام المالي يمتد أثره بشكل كبير نحو الأسواق، لذلك لا بد من استعادة الثقة في النظام المالي من خلال سرعة انقاد البنوك المتعثرة وتعويضها عن الأصول المسمومة التي يتم إلغاؤها من قوائمها المالية، حتى لا يضعف الأساس الرأسمالي للبنوك، ويترتب على ضعف الوضع الرأسمالي للبنوك عدد من النتائج التي لها آثار ارتدادية على أسواق المال ومن ثم الاقتصاد الحقيقي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق