الأحد، يوليو ٢٢، ٢٠١٢

هل نشهد موجة ثالثة من التيسير الكمي؟

نشر في صحيفة الاقتصادية يوم الجمعة  20/7/2012

التيسير الكمي Quantitative Easing هو أحد أدوات السياسة النقدية غير التقليدية التي شاعت تسميتها أثناء الأزمة بسبب لجوء العديد من البنوك المركزية في العالم وعلى رأسها الاحتياطي الفدرالي إلى استخدام هذه الأداة، بعد أن فشلت أدوات السياسة النقدية التقليدية في إحداث الأثر المتوقع منها في دفع مستويات النشاط الاقتصادي، بصفة خاصة الإنفاق الاستثماري لقطاع الأعمال الخاص.
يهدف التيسير الكمي إلى التأثير على هيكل ميزانيات البنوك التجارية بزيادة مستويات السيولة لديها، وتحفيز البنوك نتيجة لذلك على الإقراض بصورة أكبر أو الاستثمار في سندات الشركات، وتتمثل آلية التيسير الكمي في أن البنك المركزي يقوم بشراء أصول مالية، غالبا السندات الحكومية من البنوك. يترتب على شراء البنك المركزي لهذه السندات أثرين، الأول ارتفاع أسعارها السوقية وتراجع معدلات الفائدة على السندات نتيجة لذلك، وهو ما قد يشجع البنوك إلى التوجه نحو أدوات أخرى اكثر عائدا مثل سندات الشركات، أو إقراض الأفراد، الثاني هو أنه لكي يقوم البنك المركزي بشراء هذه السندات لا بد وأن يقوم بإصدار المزيد من الاحتياطيات لصالح البنوك (في صورة قيود الكترونية)، بالطبع مثل هذه الخطوة تعادل عملية إصدار المزيد من النقود، ويترتب على ذلك تزايد كمية السيولة المتاحة لدى المؤسسات المالية، وهو ما يفترض أن يشجع البنوك على الإقراض لاستثمار فوائض السيولة المتجمعة لديها نتيجة عمليات التيسير الكمي.
في الوقت الحالي يواجه التيسير الكمي الكثير من أوجه النقد أهمها بالطبع أنه يمكن أن يتسبب في رفع معدلات التضخم أو ارتفاع التوقعات التضخمية، كما أن هناك احتمال أن تكون استجابة الاقتصاد لتراجع معدلات العائد على الأوراق المالية ضعيفة، بصفة خاصة عندما تكون معدلات الفائدة منخفضة أساسا مثلما هو الوضع حاليا. كذلك ينظر إلى خفض معدلات العائد على السندات في أوقات الكساد على أنه شرط غير كافي لتشجيع البنوك وبيوت الاستثمار على تحمل المخاطرة في إقراض قطاع الأعمال الخاص، حيث تفضل المؤسسات المالية في ظل هذه الأوضاع اعتبارات الأمان والسيولة اكثر من اعتبارات الربحية.  
على الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي يتعافى من الأزمة، إلا أن النشاط الاقتصادي يتراجع بشكل عام خلال النصف الأول من هذا العام،  حيث تراجع معدل نمو الناتج في الربع الأول من هذا العام، وكذلك تشير الشواهد إلى استمرار هذا التراجع في الربع الثاني، في الوقت الذي يشهد فيه سوق العمل تراجعا واضحا في معدلات فتح الوظائف الجديدة، ونتيجة لهذه المعدلات المتواضعة من الوظائف الجديدة يظل معدل البطالة مرتفعا ولا يتراجع. في ظل هذه الأوضاع من الطبيعي أن يزداد قلق المستهلك الأمريكي حول درجة الأمان الوظيفي واتجاهات مستوى الدخل في المستقبل، لذلك تشير التقارير حاليا إلى تراجع مستويات ثقة المستهلكين بصورة واضحة، ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك سلبا على الإنفاق الاستهلاكي الخاص. كذلك يشهد الإنتاج الصناعي الأمريكي تراجعا في مستويات نموه في الأشهر الأخيرة وكذلك الإنفاق الاستثماري من جانب قطاع الأعمال، في الوقت الذي تشير فيه المسوحات المستقبلية لنوايا قطاع الأعمال حول مستويات الإنفاق الاستثماري المستقبلي إلى أن الإنفاق الاستثماري ربما يأخذ في التراجع في الأشهر القادمة بسبب القلق حول تطورات الأوضاع في أوروبا.
النتيجة الطبيعية لكل هذا هي اتساع فجوة الناتج (الفرق بين الناتج الفعلي والناتج الطبيعي)، وهو ما يعني أن أحد الأهداف الرئيسة التي يسعى الاحتياطي الفدرالي دائما إلى تحقيقها تبقى خارج نطاق السيطرة. باختصار شديد الوضع الاقتصادي الأمريكي أصبح مثيرا للقلق، وخصوصا في هذه المرحلة حيث لم تعد تفصل الرئيس الحالي باراك أوباما عن الانتخابات سوى أشهر قليلة، وربما يفقد خلالها فرصته في إعادة الانتخاب اذا ما استمر الأداء الاقتصادي الأمريكي على هذا النحو.
يوم الثلاثاء الماضي قدم بن برنانكي التقرير النصف سنوي عن السياسة النقدية أمام مجلس الشيوخ الأمريكي، من وجهة نظر برنانكي فإن معدلات النمو المتوقعة في المستقبل القريب لن تساعد على إحداث الزيادات المطلوبة في الوظائف لكي يمكن تخفيض معدل البطالة بصورة جوهرية، وسوف تظل أوضاع سوق العمل محبطة بالنسبة للجميع، فوفقا للتوقعات المستقبلية لمعدل البطالة فإنه من الواضح أن هذا المعدل ربما لن يقل عن 7% بنهاية 2014، وأنه إذا ما استمرت السياسة النقدية بشكلها الحالي، وفي ظل الإجراءات الأخيرة التي اتخذها الاحتياطي الفدرالي لتعديل هيكل تواريخ استحقاق محفظته من السندات، فإن الاقتصاد الأمريكي سوف يستمر في النمو ولكن بمعدلات متواضعة في الفترة القادمة وسوف يترتب على ذلك استمرار أوضاع سوق العمل على نحو غير ملائم.
في ظل هذه الصورة القاتمة لبطء عملية استعادة النشاط الاقتصادي الأمريكي، يتزايد الحديث عن احتمال عودة الاحتياطي الفدرالي لسياسات التيسير الكمي وضخ المزيد من الاحتياطيات في النظام المصرفي لتنشيط عمليات منح الائتمان ورفع معدلات النمو. ففي رده على تساؤلات أعضاء مجلس الشيوخ عن احتمالات أن يلجأ الاحتياطي الفدرالي لتيسير كمي ثالث، لم ينف برنانكي الاحتمال، وأشار إلى أن هناك الكثير من الأدوات مازالت في جعبة الاحتياطي الفدرالي، وأنه اذا ما استدعت الحاجة إلى اللجوء إلى التيسير الكمي فإن الاحتياطي الفدرالي لن يتردد في ذلك، وأن اللجنة الفدرالية للسوق المفتوح FOMC سوف تناقش الأمر بصورة أكثر عمقا في اجتماعها القادم.
على نفس المنوال أشار دينيس لوكهارت رئيس الاحتياطي الفدرالي فرع أتلانتا في خطابه أمام المجلس الاقتصادي في ولاية الميسيسبي يوم 13/7 الماضي إلى أنه من الممكن أن يحدث تحول في اتجاه السياسة النقدية، ويتم اتخاذ إجراءات أخرى بصورة اكثر قوة للتحفيز النقدي كاستجابة للضعف الذي يعاني منها الاقتصاد حاليا، وأشار لوكهارت إلى أنه وزملاءه في اللجنة الفدرالية ربما يواجهون خيارات حرجة في الاجتماع القادم. غير أن هناك بعض المحاذير التي يشير إليها لوكهارت وأهمها أن حجم ميزانية الاحتياطي الفدرالي قد تزايد بصورة كبيرة، حيث تبلغ  ميزانية الاحتياطي الفدرالي حاليا 3 أضعاف مستوياتها قبل الأزمة في 2008، مما يعني أن عرض النقود يتجاوز حاليا المستويات الطبيعية له، وأن الاحتياطي الفدرالي لا بد وأن يقوم بخفض حجم ميزانيته لتعود إلى مستوياتها الطبيعية.
بالطبع عندما يتجاوز الأساس النقدي مستوياته الطبيعية فإن التوقعات التضخمية ترتفع، ولكن ما تواجهه الولايات المتحدة حاليا ليس بالفعل مخاطر التضخم، وإنما مخاطر الانكماش السعري بالدرجة الأولى، حيث تشير اتجاهات المستوى العام للأسعار، خصوصا في الأشهر الأخيرة، إلى أن التضخم يتحرك عند مستويات منخفضة للغاية، أو أن الأسعار لا تتغير على الإطلاق، ولذلك يرى البعض أنه على الرغم من اتساع حجم ميزانية الاحتياطي الفدرالي فإن مخاطر التضخم مازالت حتى الآن تحت السيطرة، وهو ما أكد عليه بن برنانكي أكثر من مرة من أنه عندما تبدأ مخاطر التضخم في الظهور، فإن الاحتياطي الفدرالي، باستخدام العديد من الأدوات التي اشرنا إليها اكثر من مرة هنا في الاقتصادية، سوف يطبق استراتيجية الخروج وتعديل حجم ميزانيته.
باختصار هناك وجهات نظر ضد التيسير الكمي وتشكك في إمكانية أن ينجح في تحقيق المستهدفات منه، خاصة وأن معدلات الفائدة أساسا منخفضة، وهناك فائض كبير في السيولة لدى المؤسسات المالية الأمريكية، على سبيل المثال يرى لوكهارت أن التيسير الكمي ليس هو الحل الأمثل للحالة الاقتصادية الحالية. إلا أن الحديث عن موجة قادمة من التيسير الكمي أخذ يتزايد اليوم أكثر من أي وقت مضى منذ خطة التيسير الكمي2، وأن اللجنة الفدرالية للسوق المفتوح ربما تقرر لاحقا اطلاق خطة للتيسير الكمي3. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق