في الأسبوع الماضي
تناولنا قضية استدامة الإيرادات النفطية لدول مجلس التعاون، وتوصلنا إلى أن بعض
الدراسات المتاحة حاليا تتحدث عن مدى زمني قصير جدا ينتهي في خلاله الاحتياطي
العالمي من النفط، أخذا في الاعتبار المستويات المتاحة من هذا الاحتياطي حاليا،
ومعدلات الاستهلاك العالمي من النفط واتجاهات هذا الاستهلاك في المستقبل، فضلا عن
احتمالات تحقيق مراكز البحوث والتطوير في العالم لاختراق تقني أساسي يمكن أن ينتج
عنه تطوير مصادر بديلة للطاقة أرخص وأكثر وفرة من النفط، وأنه أخذا في الاعتبار
هذه العوامل فإن الموقف الحالي لدول مجلس التعاون، على عكس ما يعتقد الكثيرون، يعتبر
في غاية الخطورة، ذلك أنه لم يبق أمام تلك الدول وقتا طويلا لكي تتمكن خلاله من
تعديل هياكل الإنتاج فيها بصورة جوهرية وعلى نحو يضمن استدامة النمو وارتفاع
مستويات الدخل والرفاه على المدى الطويل.
تشترك دول مجلس
التعاون، كما هو معلوم، في خاصية أساسية وهي أنها جميعا دول اقتصادها ريعي، ويعتمد
أساسا على مصدر أحادي للدخل، والأخطر أنه مصدر ناضب، وأن كل برميل نفط يتم
استخراجه من الآبار يخفض الاحتياطي النفطي في تلك الآبار إلى الأبد، ولا يتم
تعويضه أبدا. في ظل هذه الأوضاع لا يمكن لمثل هذه الاقتصاديات أحادية الموارد أن
تستمر هكذا دون التناول الجاد لإعادة هيكلة أجهزتها الإنتاجية وتنمية القطاعات
البديلة للنفط باستخدام الإيرادات النفطية الاستثنائية التي تتمتع بها في الوقت
الحالي، ومما لا شك فيه أن أحد القطاعات الكامنة في دول المجلس هو القطاع الصناعي،
حيث يمكن لدول المجلس تنويع مصادر دخلها من خلال تكثيف عمليات التصنيع في مجالات
مختلفة يمكنها خلق ميزات تنافسية فيها، خصوص تلك القائمة على التكلفة، للخروج من
الوضع الخطر الحالي لهذه الاقتصادات.
قد يقول قائل بأن دول
مجلس التعاون لا تصلح لأن ينشأ فيها قطاعا صناعيا، ولا يمكنها أن تمارس عمليات
التصنيع على نطاق واسع، باعتبار أن
الموارد التي تملكها هذه الدول، غير النفط، تعد محدودة نسبيا، الواقع أن وجهة
النظر هذه ليست صحيحة على الإطلاق، وإن تجارب العالم في مجال التصنيع تثبت عكس
ذلك، فلم تقف الموارد في أي وقت من الأوقات عائقا أمام تطوير قطاع صناعي كفئ طالما
كانت الرؤية الصحيحة موجودة، ذلك أن هناك دول فقيرة جدا في الموارد ومع ذلك
استطاعت أن تبني قطاعا صناعيا ضخما، بل واحتلت المراتب الأولى في مجل التصنيع عالميا،
ومنتجاتها تغزو جميع الأسواق في العالم.
خذ على سبيل المثال
حالة اليابان وكوريا الجنوبية. هاتان دولتان فقيرتان في الموارد والجانب الأكبر من
الموارد التي تحتاج إليها في عمليات التصنيع التي تقوم بها، بما فيها الطاقة،
يأتيها من الخارج، ومع ذلك تمكنت تلك
الدول من بناء قطاعات صناعية على أعلى مستوى من التقنية والتنافسية، فلا يستطيع
أحد أن ينكر أن المنتجات الصناعية اليابانية او الكورية موجودة في كل سوق من أسواق
العالم تقريبا، بل وتنافس بشدة المنتجات الصناعية للدول الصناعية المتقدمة في
العالم مثل الولايات المتحدة أو أوروبا. من ناحية أخرى لا يمكن الدفع بأن قيود
المساحة الجغرافية في بعض دول المجلس أو الانخفاض النسبي لأعداد السكان يمكن أن
يجهض الجهود المبذولة في مجال التصنيع، ذلك أن التجارب الدولية المختلفة في مجال
التصنيع أثبتت أيضا أن قيود المساحة والسكان لم تقف عائقا في يوم من الأيام أمام
تطوير قطاع صناعي تنافسي وكفء وفعال.
إذا كان الأمر كذلك
فليس هناك أي حائل من أي نوع يمكن أن يمثل عائقا أساسيا أمام دول مجلس التعاون في
تطوير قطاع صناعي ضخم ومتقدم يمكن أن تدخل به حقبة ما بعد النفط لكي تضمن لنفسها
تنويع مصادر الإنتاج والدخل وتوفير مجال أرحب لفتح المزيد من الوظائف أمام العمالة
الوطنية ومواجهة ضغوط سوق العمل التي تترتب على معدلات النمو السكاني المرتفع التي
تواجهها هذه الدول حاليا، وكذلك لتوطين رؤوس الأموال الوطنية بدلا من هجرة الكثير
منها حاليا للخارج بحثا عن فرص للاستثمار نظرا لضيق تلك الفرص على نحو واضح في ظل
الهياكل الحالية للإنتاج في دول المجلس.
إن التصنيع يعد من أحد
المجالات الواعدة في دول مجلس التعاون في كثير من خطوط الإنتاج الصناعي التي تهدف
إما إلى تخفيض الاعتماد على الاستيراد من الخارج وتوفير احتياجات السوق المحلي، من
خلال الصناعات التي تهدف أساسا إلى الإحلال محل الواردات، وكذلك من خلال الصناعات الموجهة
أساسا نحو التصدير إلى الخارج، وهي الاستراتيجية التي اعتمدتها الكثير من الدول
الناشئة في العالم من اجل تنويع هياكلها الإنتاجية وتمكنت من خلالها من تحقيق
معدلات مرتفعة للنمو الاقتصادي، حيث يلعب تصدير المنتجات الصناعية دور محرك النمو.
ما تحتاجه دول مجلس
التعاون إذن في هذه المرحلة بالذات هي وضع رؤية متكاملة في مجال التصنيع يتم السعي
نحو تحقيقها بشكل جماعي، بحيث يصبح التصنيع أحد أسس للتكامل الاقتصادي بين دول
المجلس مستفيدة في ذلك بما لديها من ميزات كامنة تمتلكها في الوقت الحالي وأهمها
رأس المال، حيث تمكن الفوائض المالية الضخمة التي تتمتع بها دول المجلس حاليا من تبني خطط استثمارية واسعة النطاق في هذا
المجال، وبحيث يتم توزع هذه الصناعات بصورة أفقية، أي عبر المناطق الجغرافية
المختلفة في دول المجلس وفقا للمزايا التنافسية التي تتمتع بها كل منطقة جغرافية،
مثل مدى توافر المواد الخام، او القرب من الأسواق، أو القرب من موانئ التصدير .. إلى
آخر هذه القائمة الطويلة من الأسس التي على أساسها يتم تحديد الموقع، ورأسيا من
خلال الاعتماد المتبادل بين المراكز الصناعية المختلفة في دول المجلس في استخدام
المواد الخام والسلع الصناعية الوسيطة في المراحل المختلفة لعمليات تصنيع
المنتجات.
من ناحية أخرى فإن من
أهم ما تمتلكه دول مجلس التعاون في مجال التصنيع هو توافر ورخص تكلفة الطاقة،
والتي تعد من أهم المدخلات لمعظم المنتجات الصناعية في العالم والتي تشكل وزنا
هاما في التكلفة المتوسطة للمنتجات الصناعية، خصوصا تلك الصناعات كثيفة الاستخدام
للطاقة، واستنادا إلى هذه الميزة يمكن للقطاع الصناعي في دول المجلس أن يحقق ميزة نسبية
في التكاليف في مواجهة الصناعات المنافسة في باقي دول العالم وذلك استنادا إلى انخفاض
أسعار الطاقة وانتفاء تكاليف نقلها أو التأمين عليها، حيث تكلف هذه العمليات الدول
الصناعية المستوردة للنفط مبالغ طائلة.
كذلك تتمتع دول مجلس
التعاون، على عكس باقي دول العالم، بهيكل ضريبي مشجع للقطاع الصناعي، حيث ينظر إلى
هذه الدول جميعا على أنها أحد جنان الضرائب في الكرة الأرضية. فلا يوجد دولة من
دول مجلس التعاون تفرض ضرائب تقريبا على هذا القطاع. إن عدم وجود ضرائب سواء على
الدخول المتحققة من عمليات التصنيع، أو في صورة ضرائب على القيمة المضافة في
عمليات التصنيع المختلفة يعطي المنتج الصناعي في دول المجلس ميزة تكاليف جوهرية
بالمقارنة بالصناعات المثيلة له في باقي دول العالم.
أكثر من ذلك فإن
الموقع الجغرافي لدول المجلس ووجود المنافذ المتعددة التي تربطها بالعالم الخارجي
برا وبحرا وجوا، يجعل من عمليات استيراد مدخلات القطاع الصناعي أو تصدير مخرجاته
أمرا سهلا، حيث يمكن وضع خطة متكاملة على مستوى المجلس لتنسيق عمليات الاستيراد
والتصدير لمدخلات ومخرجات هذا القطاع من أي نقطة جغرافية داخل دول المجلس، بحيث
يتم الاستيراد من خلال النقطة الجغرافية التي تقلل من تكاليف النقل إلى أدنى مستوى
ممكن، وكذلك الأمر بالنسبة للتصدير.
بقي الإشارة إلى أن
قطاع التصنيع بالطبع يحتاج إلى قوى عاملة مدربة وكذلك إلى بحوث وتطوير والأهم من
ذلك بيئة أعمال مشجعة، وهذه في رأيي ليست عائقا على المدى الطويل، حيث يسهل على
دول مجلس التعاون اكتسابها استنادا إلى ما تملكه من إمكانيات تستطيع من خلالها رفع
مستويات تدريب ومهارات العمالة الوطنية إلى أفضل مستوى ممكن، وكذلك الاهتمام بدعم
مراكز البحوث والتطوير سواء على المستوى القومي أو على مستوى الصناعات بحيث تتمكن
من توطين أنشطة البحث والتطوير، مثلما فعلت الدول الصناعية للصناعات التي تنشئها،
وتقلل من اعتمادها على الخارج في عمليات التصنيع التي تقوم بها إلى أدنى مستوى
ممكن. أما بالنسبة لمناخ الأعمال المشجع للقطاع الصناعي، فسوف نتناوله بالتفصيل
لاحقا بإذن الله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق