ما إن توقفت أجراس الانتخابات الأمريكية وأطفئت أضواء قاعات الاقتراع وخفت حدة الصراع السياسي بين المرشحين الرئيسين في الانتخابات حتى انفجر الحديث عن المنحدر المالي Fiscal cliff الذي يعتبر حاليا أكثر المصطلحات الاقتصادية تداولا في وسائل الإعلام الأمريكية اليوم. مصطلح المنحدر المالي ليس جديدا، وإنما كانت تتناوله وسائل الإعلام الاقتصادية من وقت إلى آخر قبل انتخابات إعادة الرئاسة على استحياء باعتبار أنه ما زال هناك بعض الوقت المتبقي لتطبيق البرنامج، ولكن لماذا أطلقت عليه هذه التسمية الغريبة بعض الشيء ''المنحدر (أو الهاوية) المالي''؟. للإجابة على هذا السؤال علينا أن نعلم أن الصراع الذي جرى بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري على رفع سقف الدين الأمريكي، والذي بلغ أشده في منتصف 2011 أدى إلى تهديد قدرة الولايات المتحدة على الوفاء بالتزاماتها المالية، وهو ما ترتب عليه خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة.
من حسن حظ الولايات المتحدة أن مخاطر الديون السيادية في معظم أنحاء العالم مرتفعة، وهي العمود الأساسي الذي يسند الاتجاه الدولي الحالي نحو الاستثمار في السندات الأمريكية، الأمر الذي يساعد على خفض معدلات الفائدة على السندات الأمريكية وبالتالي خفض تكاليف خدمة الدين الأمريكي عند حدود دنيا. غير أن الحجم الهائل لرصيد الدين القائم اليوم يشير إلى أن أي ارتفاع مستقبلي في معدلات الفائدة على الدين الأمريكي سيؤدي إلى انفجار تكلفة خدمة الدين مع أي تصاعد في معدلات الفائدة على السندات الأمريكية في المستقبل، ومن ثم تراجع في تصنيف الدين. العامل الأساسي الذي يعمل على وقف الارتفاع المحتمل في معدلات الفائدة على السندات الأمريكية هو استمرار مشكلة الدين السيادي الأوروبي على نحو سيئ، وهو ما يؤدي إلى استعداد الكثير من المستثمرين الدوليين لسد العجز في الميزانية الأمريكية في ظل ظروف ارتفاع مستويات المخاطر المالية البديلة في العالم في الوقت الحالي. مما لا شك فيه أن أي تراجع في هذه الشروط من الممكن أن يصرف المستثمرين الدوليين عن الاستثمار في عجز الميزانية الأمريكي، وبالتالي يؤدي إلى تدهور سريع في وضع الدين الأمريكي وثقة العالم فيه.
يبلغ سقف الدين الأمريكي حاليا 16.394 تريليون دولار، ومن المتوقع أن يصل الدين القائم إلى هذا السقف في بداية 2013، حيث ستبدأ معه جولة جديدة من المفاوضات المرهقة بين الحزبين. لقد كانت مفاوضات الجولة السابقة ضارة بسمعة الاقتصاد الأمريكي وترتب عليها العديد من الأضرار، منها تخفيض التصنيف الائتماني للدين الأمريكي لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة من جانب مؤسسة ستاندارد آند بورز، هذا الخفض كان مكلفا للولايات المتحدة بصورة كبيرة، ففي دراسة أجراها مكتب المحاسبة الحكومية أثبتت أن النزاع حول رفع سقف الدين قد أدى إلى رفع تكلفة الاقتراض للولايات المتحدة بنحو 1.3 تريليون دولارا للسنة المالية 2011.
الولايات المتحدة تفتقد اليوم إلى خطة مكثفة طويلة الأجل حول خفض العجز المالي، والتي تتناول الحاجة إلى الإصلاح الضريبي وأشكال الاستحقاق الأخرى وهو ما أدى بالحكومة الأمريكية إلى اللجوء إلى الوسائل قصيرة الأجل في الوقت الذي اتسع فيه الدين الأمريكي إلى مستويات غير مستدامة، وفقا لكل السيناريوهات المتاحة حاليا. لذلك جاء المنحدر المالي لمحاولة ضبط المالية العامة الأمريكية.
المنحدر المالي هو مصطلح يستخدم حاليا في النقاش حول وضع المالية العامة الأمريكية ويعبر عن حزمة من الإجراءات المالية التي تفكر حاليا الولايات المتحدة في استخدامها للتخفيف من حدة التطورات الحالية على الميزانية الأمريكية والدين العام الأمريكي، وتتكون هذه الحزمة من مجموعة من الإجراءات الهادفة إلى خفض الإنفاق العام الأمريكي وزيادة الضرائب، ومن المفترض أن يتم تطبيق هذه الحزمة بنهاية عام 2012، أو أوائل عام 2013. المنحدر المالي إذن هو برنامج يستهدف تخفيض الإنفاق العام على نحو واضح، وزيادة الإيرادات العامة في المقابل لخفض عجز الميزانية، وبالتالي فهو يمثل منحدرا أو هاوية مالية ينحدر عليها الإنفاق العام، حيث سيتم خفض الإنفاق على ألف برنامج حكومي وكذلك خفض نفقات الدفاع وبعض البرامج الاجتماعية مثل برنامج Medicare حتى عام 2022، وينخفض نتيجة لذلك العجز المالي.
والآن ما مكونات برنامج المنحدر المالي؟ إن المنحدر المالي هو في جوهرة حزمة إصلاح مالي مكثفة تهدف إلى خفض عجز الميزانية سنويا بنحو 600 مليار دولارا وتتمثل المكونات الأساسية للمنحدر المالي والتكلفة التي ستتحملها الحكومة الأمريكية لتجنب المنحدر من خلال الاستمرار في الإبقاء على الإعفاءات الضريبية وبرامج الإنفاق الحالي كما هي، وفقا للجنة المسؤولة عن الميزانية الفيدرالية في الآتي:
1- انتهاء الإعفاءات الضريبية التي أقرت في عهد الرئيس السابق جورج بوش، حيث تم إقرار هذه الإعفاءات في 2001 و2003، والتي يفترض أن تنتهي في 31 كانون الأول (ديسمبر) القادم، وإذا لم يتم مد العمل بهذه الإعفاءات فإن معدل الضريبة الحدي الأقصى سيرتفع من 35 إلى 39.6 في المائة، وكذلك ترتفع باقي المعدلات الأخرى معه. كما سيتم خفض الإعفاء الضريبي للأطفال إلى النصف، وإعادة الضرائب على عوائد العقارات إلى مستويات 2001، كذلك سيتم رفع الضرائب على الأرباح الرأسمالية وتوزيعات الأرباح، وتبلغ تكلفة هذا الإجراء لعام 2013 نحو 110 مليارات دولار، والتكلفة في عشر سنوات 2.8 تريليون دولارا.
2- توسيع نطاق الحد الأدنى للضريبة البديلة، وهذه يدفعها نحو 4.4 مليون دافع ضريبة فقط في الوقت الحالي، هذا التعديل سيطول نحو 33 مليون دافع للضريبة في 2012، وتكلفتها في 2013 تصل إلى 125 مليار دولار، وإجمالي التكلفة في السنوات العشر 1.7 تريليون دولار.
3- وقف الإعفاءات الضريبية على الأجور وبدل البطالة الممتد، حيث يمثل الارتفاع في الضريبة على الأجور 2 في المائة، بينما سيتم إلغاء دفع بدل البطالة لمدة أكثر من ستة أشهر، وتقدر تكلفة ذلك في عام 2013 بنحو 115 مليار دولار، وفي السنوات العشر بنحو 150 مليار دولار.
4- خفض مدفوعات الرعاية الصحية للأطباء، حيث سيتم خفض مدفوعات الرعاية الصحية للأطباء بنحو 27.4 في المائة وتبلع تكلفة هذا الإجراء في 2013 نحو عشرة مليارات دولار، بينما يبلغ إجمالي التكلفة في عشر سنوات 270 مليار دولار.
5- بدء الخفض الأتوماتيكي في الإنفاق العام، ويتم ذلك بدءا من الأول من كانون الثاني (يناير) 2013، حيث سيتم خفض الإنفاق على الدفاع بنسبة 10 في المائة، والإنفاق الطارئ بنسبة 8 في المائة ومدفوعات الرعاية الصحية بنسبة 2 في المائة، وتبلغ تكلفة ذلك في 2013 نحو 65 مليار دولار وفي عشر سنوات نحو 980 مليار دولار.
6- انتهاء الإعفاءات الضريبية الأخرى، حيث سيتم إلغاء جميع الإعفاءات الضريبية الأخرى مثل المنح الضريبية للبحوث والتطوير، والخفض في ضريبة المبيعات، والتي من المفترض أن تنتهي بنهاية 2011، وتبلغ تكلفتها 30 مليار في 2013، وفي عشر سنوات نحو 455 مليار دولار.
7- ضرائب الرعاية الصحية لأوباما، يتضمن قانون حماية المريض وتقديم الرعاية الصحية بأسعار معقولة بعض الزيادات في الضرائب بما في ذلك زيادة 0.9 في المائة على أجور أصحاب الدخول المرتفعة، وزيادة الضريبة على دخول الاستثمار. وتبلغ تكلفتها 25 مليار في 2013 و 420 مليارا في السنوات العشر المقبلة.
ووفقا لهذه التقديرات تقدر تكلفة المنحدر المالي في حال استمرار الأوضاع المالية كما هي عليه نحو 8.1 تريليون دولار في السنوات العشر المقبلة.
تجدر الإشارة إلى أن برنامج المنحدر المالي ليس مؤكدا حتى الوقت الحالي، ذلك أن القانون الخاص به نص على أن تطبيق المنحدر المالي سيتطلب توافقا بين الحزبين، وهي مسألة أراها قد تكون صعبة في الوقت الحالي بعد هزيمة الجمهوريين وضمان الديمقراطيين مقعد الرئاسة لفترة ثانية. ذلك أن هناك اختلافا واضحا بين الحزبين حول دور الحكومة والسبل المناسبة للتعامل مع الوضع المالي الحالي فيما يتعلق بضرورة الخفض الضريبي كوسيلة لزيادة الإيرادات العامة والسيطرة على العجز المالي في الميزانية، بصفة خاصة الحزبان مختلفان حول كيفية مد العمل بالإعفاءات الضريبية للرئيس السابق بوش، وهي أكبر مكونات المنحدر المالي. فالجمهوريون يميلون إلى الدفع نحو مد العمل بالتخفيضات الضريبية، بينما يميل الديمقراطيون إلى مد العمل بالإعفاء الضريبي باستثناء الضريبة على الأغنياء الذين يمثلون نحو 2 في المائة من دافعي الضرائب. وفي الوقت الذي يرى فيه الديمقراطيون أن زيادة الضرائب يجب أن تكون جزءا من أية حزمة للاتفاق على خفض الإنفاق على المدى الطويل. كذلك يؤيدون بشكل عام خفض الإنفاق على الدفاع.
ولكن كيف ستتعامل الإدارة الأمريكية مع المنحدر المالي، وما الآثار المرتقبة من تطبيقه، هذا موضوع المقال التالي ــــ إن شاء الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق