في الحلقة السابقة قدمنا خلفية عامة عن مفهوم المنحدر المالي الأمريكي ومكونات هذه الحزمة من الإصلاح المالي، أشرنا أيضا إلى أن أهم التحديات، التي تواجه إقرار هذه الحزمة هي اختلاف وجهات النظر بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول أولويات الإصلاح المالي المقترحة لمعالجة عجز الميزانية الأمريكية والسيطرة على نمو الدين. ذلك أن أحد أهم القضايا التي ستكون محور نزاع بين الحزبين في تمرير المنحدر المالي هي الإصلاحات التي أدخلها أوباما على برنامج الرعاية الصحية والتي تتكلف قدرا هائلا من الأموال بصورة سنوية، بينما يرى المعارضون لها أن البرنامج، بالرغم من تكلفته، لم يتمكن من تقديم حلول ناجعة للأمريكيين، الذين لا يتمتعون بغطاء تأميني صحي. وفي الوقت الذي يصر فيه الرئيس أوباما على ضرورة رفع معدلات الضريبة على الأمريكيين ذوي الدخل المرتفع، أي على الأسر التي يزيد دخلها السنوي عن 250 ألف دولار، مع استمرار الإعفاءات الضريبية للآخرين، نجد أن بونر زعيم الأغلبية في الكونجرس يصر على ضرورة الاستمرار في الإعفاء الضريبي لكل الأمريكيين، بغض النظر عن مستوى دخولهم.
هذا التباين في وجهات النظر يوحي بأنه ربما يضطر أوباما إلى استخدام حق الفيتو في وقف أي محاولة لمد العمل بالإعفاءات الضريبية المنصوص عليها في برنامج المنحدر المالي، في الوقت الذي قد يتمسك أعضاء الكونجرس من الجمهوريين فيه بعدم رفع الضريبة على المواطنين ذوي الفئات الدخلية المرتفعة، وعلى أسوأ الفروض يمكن أن يصل النقاش إلى طريق مسدود، وبشكل عام قد تتمخض المداولات بين الحزبين إلى ثلاثة خيارات أساسية للتعامل مع المنحدر المالي، جميعها للأسف غير جذابة.
الخيار الأول هو البدء في تنفيذ حزمة الإصلاح المالي المقترحة في إطار المنحدر المالي، التي يجب أن تبدأ في أوائل 2013، والتي تتمثل في إقرار زيادات ضريبية ووقف العمل بالإعفاءات، وخفض الإنفاق على النحو الذي تم تفصيله في الجزء الأول من هذا المقال. غير أن تطبيق المنحدر المالي في هذا التوقيت بالذات قد يكون غير مناسب، حيث إن وضع الاقتصاد المحلي لا يسمح بمثل هذه السياسات.
المشكلة الأساسية في تطبيق المقترح هي أن تكلفة مثل هذا الخيار ستكون مرتفعة للغاية، وفقا للتقديرات المختلفة، بصفة خاصة، فإن دراسة مكتب الميزانية في الكونجرس التي تم نشرها منذ عدة أيام تشير إلى أن المنحدر المالي سيترتب عليه خفض العجز في الميزانية بنحو 560 مليارا، وهو أهم المزايا الموجبة لهذا المقترح، إلا أنه في المقابل سيؤدي المقترح إلى خفض معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.5 في المائة في 2013 وهو ما يمكن أن يعود بالاقتصاد الأمريكي إلى مربع الكساد مرة أخرى مع قيام القطاع العائلي وقطاع الأعمال الخاص بخفض مستويات الإنفاق، ولذلك يرى الكثير من المراقبين أن الأقدام على هذه الخطوة في الوقت الحالي، حيث التعافي الاقتصادي ما زال هشا من الممكن أن يعقد أوضاع الاقتصاد الأمريكي وقد يجره إلى تراجع مزدوج.
فمنذ أن تم الإعلان عن المنحدر المالي أصبحت التوقعات للمستهلكين ولقطاع الأعمال تشاؤمية على نحو كبير. ذلك أن مخاوف رجال الأعمال حول الوضع المستقبلي للإنفاق العالم يجعلهم يترددون في الارتباط بأية نفقات رأسمالية ومشروعات جديدة، والتي يمكن أن تضيف إلى رصيد الوظائف المفتوحة في سوق العمل الأمريكي، وفي الوقت الحالي يفترض أن يتم فتح 125 ألف وظيفة جديدة شهريا لكي يتم الحفاظ على المعدلات الحالية للبطالة، غير أن أداء سوق العمل في المتوسط أقل من هذه المستويات، ويعتقد بشكل عام أن التراجع في سوق العمل الأمريكي في هذا العام سببه الأساسي المخاوف من المنحدر المالي لدى الشركات الأمريكية التي لديها احتياطيات مالية كبيرة حاليا، ولكنها تؤجل خطط التوسع الاستثماري بسبب عدم وضوح الرؤية حول اتجاهات الإنفاق المالي الأمريكي. بالطبع فإن عدم رغبة الشركات في الإنفاق تؤثر بصورة واضحة في اتجاهات النمو. هذا الاتجاه لا يتوقف فقط عند الولايات المتحدة، وإنما أيضا هناك مخاوف عالمية من المنحدر المالي الأمريكي من حيث تأثيراته على دفع الاقتصاد نحو الكساد ومن ثم التأثير على النمو العالمي، الذي يلعب فيه الاقتصاد الأمريكي دور المفتاح.
نتيجة لذلك يتوقع مكتب الميزانية في الكونجرس أن يرتفع معدل البطالة بنسبة 1 في المائة، ليصل إلى 9.1 في المائة بحلول الربع الرابع من 2013، وذلك نتيجة لفقدان سوق العمل الأمريكي نحو مليوني وظيفة. بعض المراقبين يرون أن أداء سوق العمل يمكن أن يتحسن على نحو جوهري لو زالت المخاوف المرتبطة بالمنحدر المالي، حيث إن قطاع الأعمال الخاص ما زال مترقبا لما ستسفر عنه المحادثات الخاصة بالاتفاق بسبب المخاوف من تضييق الميزانية الحكومية، التي يمكن أن تحدث آثارا انكماشية. مثل هذه الآثار تثير حالة من الهلع على مستوى العالم بصفة خاصة في أوروبا وآسيا، وذلك بسبب الآثار الارتدادية التي يمكن أن تنعكس على النمو في هذه الدول نتيجة تراجع النمو في الاقتصاد المفتاح في العالم. كذلك فإن المستثمرين وصناديق الاستثمار المختلفة تخشى من الآثار السلبية التي يمكن أن يحملها البرنامج على عوائد استثماراتهم المالية، وهناك دعوات حالية للحكومة الأمريكية داخليا وخارجيا من التدخل من أجل منع الاقتصاد من التدهور على الأقل بصورة مؤقتة نتيجة تطبيق البرنامج.
لقد أشار صندوق النقد الدولي إلى أن المنحدر المالي الأمريكي يحمل خطرا كبيرا للاستقرار الاقتصادي العالمي، حيث من المتوقع أن يترتب على ذلك انتقال الآثار بصورة كبيرة إلى العالم.
من ناحية أخرى، فإن الولايات المتحدة قد اقتربت كثيرا من الحد الأقصى الحالي للدين الأمريكي، وهو ما يقتضي ضرورة لجوء الديمقراطيين مرة أخرى إلى الكونجرس طالبين رفع سقف الدين مرة أخرى.
في مقابل هذه الآثار السلبية من المتوقع أن ينخفض عجز الميزانية كنسبة من الناتج المحلي إلى النصف. غير أن الدراسة تتوقع أن يستعيد النمو مستوياته وتتحسن نتيجة لذلك أوضاع سوق العمل الأمريكي، وهو ما سيؤدي على المدى المتوسط إلى استعادة الناتج إلى مستوياته الكامنة، حيث تعود معدلات البطالة إلى مستوياتها الطبيعية في عام 2018 عند معدل 5.5 في المائة.
الخيار الثاني هو إلغاء سياسات المنحدر المالي، فمن الممكن أن يتفق الحزبان على وقف العمل بالبرنامج أو الاتفاق على إجراءات أخرى، وتلك معركة لن تكون سهلة للديمقراطيين، بعد هزيمة رومني، المشكلة الأساسية التي تواجه الاتفاق هي احتمال تكرار نفس الجدل البيزنطي، الذي ثار عندما كان الكونجرس يناقش رفع سقف الدين، فالجمهوريون يؤيدون خفض العجز في الميزانية، ولكن من ناحية الإنفاق من خلال خفض برامج الرعاية الاجتماعية مثل الرعاية الصحية، وتتمثل وجهة نظر الديمقراطيين في خفض العجز ولكن من خلال رفع الضرائب أساسا.
من ناحية أخرى، إذا تم وقف العمل بالمنحدر المالي، فسيستمر النمو في الدين العام الأمريكي حتى نهاية هذا العقد، وما بعده، وهو ما ينذر بحدوث أزمة مالية، ستجعل المعدلات المنخفضة للفائدة على السندات الأمريكية جزءا من الماضي، ولن تتمكن الولايات المتحدة من الاقتراض بمعدلات فائدة معقولة مرة أخرى، وهو ما سينعكس بالتبعية على معدلات نمو الناتج وسينخفض الناتج المحلي الإجمالي والدخل إلى مستويات أقل من تلك التي يتوقع أن تحدث لو تم الالتزام ببرنامج المنحدر المالي.
الخيار الثالث هو أن تتخذ الولايات المتحدة خطوة بين الاثنين، فالعديد من المراقبين يرون أن الرئيس وقائد الأغلبية يمكن أن يتوصلا إلى حل توافقي يتجنب الآثار الاقتصادية الممكنة للمنحدر المالي. فزعيم الأغلبية يصر على أن الرئيس لا بد أن يخفض مستويات الإنفاق التي كانت مسؤولا عن زيادة الدين، وأن تتم مواجهة عجز الميزانية، لكن عند مستوى محدد، وذلك من خلال العمل على التوصل إلى حزمة إصلاح توافقية للمالية العامة، حيث تحقق مطالب الطرفين ولو بصورة جزئية على الأقل، بصفة خاصة يمكن للرئيس أن يحقق مواءمة بمقتضاها يعيد التخفيضات في الإنفاق العسكري في مقابل خفض أقل في مقدار الإنفاق العام، وكذلك حول مقدار التعديلات المقترحة في خفض الضرائب وحجم العجز، ولكن تأثير ذلك على كل من النمو والعجز سيكون محدودا. وبشكل عام هناك احتمال أن يتم تأجيل الموضوع حتى فتح الكونجرس في الثالث من كانون الثاني (يناير).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق