الجمعة، سبتمبر ١٢، ٢٠١٤

اقتصاديات التقليعة: تحدي دلو الثلج

تنتشر هذه الأيام تقليعة جديدة تحمل اسم تحدي دلو الثلج Ice Bucket Challenge، لجمعية خيرية مهتمة بمرضAmyotrophic lateral sclerosis ALS، "التصلب الجانبي الضموري" وهو اضطراب يؤثر في وظائف الأعصاب والعضلات لمن يصابون به، وعدد المصابين به قليل نسبيا مقارنة بالأمراض الخطيرة الأخرى في العالم، على سبيل المثال وفقا للجمعية فإن نحو 5600 شخصا يتم تشخيصهم بهذا المرض سنويا في الولايات المتحدة "من بين سكانها البالغ عددهم نحو 320 مليونا تقريبا".
وفقا لهذا التحدي يخير الشخص خلال 24 ساعة بين أن يتبرع للجمعية بمبلغ 100 دولار، أو أن يصب على رأسه دلوا من الماء والثلج، وعندما يخوض التحدي بنجاح فإنه يتحول إلى متحد للآخرين فيمكنه، وفقا للقواعد، أن يسمي ثلاثة أشخاص ويدعوهم لقبول التحدي أو التبرع، وهكذا تتسع دائرة التقليعة بتزايد أعداد من يقومون بها على نحو أسي. من الناس من قام بالتبرع مفضلا عدم قبول التحدي، ومنهم على سبيل المثال الرئيس أوباما، ومنهم من قبل التحدي ونفذ التجربة بالفعل مثل الرئيس السابق بوش الابن، ربما لكي يثبت للرئيس الحالي أنه الأقدر، وهناك أيضا من قاموا بقبول تحدي صب المياه المثلجة على أجسامهم وإثبات تحملهم لهذا التحدي، وفي الوقت ذاته قاموا بالتبرع للجمعية.
لقد أصبح انتقال الأفكار اليوم عبر حدود العالم سريعا بصورة لم نشهدها من قبل، فقد تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى آلة إعلامية رهيبة ليس لها نظير في التاريخ، حيث يلتقي مئات الملايين من الأشخاص يوميا عبر العالم أجمع، لتبدأ سلسلة من الدوائر نقل الأفكار والأحداث عبر الوسائل المختلفة للتواصل، وهو ما يمكن أن نشبهه بمفهوم المضاعف Multiplier، المتعارف عليه في التحليل الاقتصادي الكلي، وفكرته الأساسية هي أن إنفاق دولار واحد في الاقتصاد يولد سلسلة من الدوائر من تدفقات للدخل والإنفاق تنتهي بزيادة الدخل فيه بعدة أضعاف الإنفاق المبدئي، مع الفارق في أن مضاعف انتقال الأفكار عبر وسائل التواصل الاجتماعي في عالم اليوم له قيمة هائلة للغاية، لأن التوسع هنا يكون على صورة أسية، نظرا لاتساع النطاق الجغرافي لانتقال الأفكار عبر العالم، وسرعة انتقال الأفكار عبر الدوائر المختلفة، مقارنة بالأنواع المختلفة من دوائر الدخل والإنفاق التي نستخدمها في التحليل الاقتصادي الكلي.
غير أن سرعة انتقال هذه التقليعة وما صاحبها من صخب هائل على المستوى العالمي أخرج التقليعة عن هدفها الأساسي، وأصبح اهتمام أكثر الناس في العالم هو قبول التحدي وخوض التجربة، بغض النظر عن التنبه إلى الفكرة الأساسية من ورائها وهي الترويج للمرض ومساعدة المرضى، وما حدث هو تحول استخدام التقليعة كوسيلة إثبات للذات أو الشهرة أو حتى الدعابة.. إلخ، وأصبحت حديث العالم كله لعدة أسابيع، وقد حرص الكثير من المشاهير سواء في مجال الفن أو الرياضة أو السياسة أو غيرهم من الجنسين على خوض الاختبار، بل تسجيل ونشر المحاولة على الوسائل المختلفة، بصفة خاصة "الفيس بوك" و"اليوتيوب".
كما نلاحظ، فإن الفكرة في حد ذاتها بسيطة، لكنها ولدت زخما هائلا عبر العالم نظرا لانتشارها بصور عدة بين المجموعات السكانية المختلفة، فوفقا لإحصاءات "الفيس بوك" فإنه منذ أول تموز (يوليو) حتى منتصف الشهر تقريبا، كان هناك 28 مليون مشترك يتناولون الموضوع، في الوقت الذي تم فيه تحميل 2.4 مليون فيلم للتحدي، وقد كان نتيجة انتشار التقليعة أن الجمعية تمكنت من جمع تبرعات تجاوزت 100 مليون دولار حسب آخر التقديرات المتاحة في آب (أغسطس) الماضي، مقارنة بنحو 2.5 مليون دولار عن الفترة ذاتها في العام الماضي، وهي بجميع المقاييس تعد نتيجة رائعة لمثل هذه الجمعية، حيث تفوق تلك المبالغ ميزانية الجمعية الحالية على نحو كبير.
اليوم خفت حدة التقليعة نسبيا وذاب الكثير من تفاصيلها تحت وقع الأخبار الجديدة عن الأوضاع الأخرى في العالم، ولكن المراقبين يرون أن هذا التبرع السخي كان على حساب عمليات التبرع لجمعيات أخرى مماثلة تجمع تبرعات لأمراض أخطر تحصد أعدادا هائلة من البشر سنويا، مثل أمراض القلب والسرطان وغيرها من الأمراض الخطيرة في العالم التي تحتاج بلا شك إلى أضعاف ما تحتاج إليه هذه الجمعية من ميزانيات لأغراض البحث والتطوير للتوصل إلى سبل معالجتها أو التخفيف من حدتها أو محاصرتها.
بقيت تلك الجمعيات تشاهد وتراقب ما يحدث، وربما يخرج علينا بعضها بأفكار مثيلة، ذلك أن نجاح تحدي دلو الثلج قد يكون مقدمة لسباق حول تصميم ونشر التقليعات بين الجمعيات الخيرية المختلفة في العالم لتحفيز الأشخاص على التبرع. غير أنه يصعب تكرار نفس التقليعة في غضون فترة زمنية قصيرة، إذ سرعان ما يسأم الناس تكرار نفس التجربة التي خاضوها مسبقا، والبشر بطبيعتهم يبحثون عن التغيير، ومن ثم فإن احتمالات تكرار التجربة نفسها بالنجاح الذي شهدناه هذا العام سوف يحتاج إلى أفكار إبداعية تستهوي الناس للدخول في تحد جديد ولكن على نحو أكثر إثارة، وهي مسألة قد تتطلب تشكيل فرق خاصة للبحث عن أفكار جديدة لتشجيع الناس على التبرع بأساليب تستهويهم.
ولكن يبقى السؤال الأهم، هل ما جمعته تلك الجمعية يساوي ما تم إنفاقه من تكلفة مباشرة وغير مباشرة لتنفيذ هذا التحدي؟ البعض وصف مثل هذا التحدي بأنه مثل خطة بونزي، ذلك النصاب الشهير الذي كان يدفع معدلات مرتفعة للعائد لمن يستثمرون أموالهم لديه في مقابل دعوتهم للآخرين بالمشاركة بأموالهم لديه، ليدفع هو لهم عوائدهم من الأموال التي يستثمرها المستثمرون الجدد لديه، وهو ما يعرف بالخطة الهرمية، وبمعنى آخر لا فائدة موجبة ترجى منه على المستوى الكلي.
فمن المتعارف عليه في علم الاقتصاد، كما ندرس طلبتنا في الجامعة، بأنه نظرا لندرة الموارد في هذا العالم لا يوجد شيء من دون تكلفة، أو مثلما يقول المثل الإنجليزي There is no such thing as a free lunch، فواقع الحال أنه لا يوجد شيء مجاني في هذا العالم حتى ولو لم ندفع شيئا مقابله، ففي جميع الأحوال لا بد من وجود طرف آخر يتحمل التكلفة، سواء أكان فردا أم مؤسسة أو حتى الدولة. ففي مقابل ما جمعته الجمعية لا بد أن نحسب التكلفة الحقيقية لكل ما تم، ولكي نقوم بذلك علينا أن نحسب التكلفة المباشرة للمياه النقية التي أهدرت في تنفيذ التقليعة، وتكلفة الكهرباء التي استخدمت في تحويل الماء إلى ثلج، وتكلفة الفرصة البديلة للوقت الذي أنفق في تصميم وإعداد وتنفيذ كل اختبار تم عبر العالم وتكلفة بثه.. إلى آخر هذه القائمة الطويلة من التكلفة المباشرة وغير المباشرة، وقبل أن نقوم بحساب ذلك بدقة لا يمكننا الحديث عن المساهمة الحقيقية لمثل هذه الحملة.
إن أهم الدروس المستخلصة من تقليعة تحدي دلو الثلج هي أنها نبهتنا لخطورة الدور الذي يمكن أن تقوم به وسائل التواصل الاجتماعي كناقل للأفكار عبر العالم، مقارنة بوسائل الإعلام التقليدية، وأنه من الممكن توجيه هذه الوسائل لتحقيق أهداف محددة بسرعة فائقة، إذا تمت صياغة هذه الأهداف على نحو مثير لمستخدميها، وأنه من المؤكد أننا سنشهد حالات مماثلة على نحو أوضح مع تطور الدور الذي تؤديه مثل هذه الوسائل في المستقبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق