تحل هذه الأيام ذكرى انطلاق الأزمة المالية العالمية في أيلول (سبتمبر) 2008، وتعرض العالم لزلزال مالي لم يشهد مثله من قبل منذ أيام الكساد العالمي العظيم في عشرينيات القرن الماضي، قبل انطلاق الأزمة بدأت بعض المؤسسات المالية في الانهيار، ولكنها جميعا لم تكن ذات حجم مؤثر، عندما حل الدور على مصرف "ليمان براذرز" كان من الواجب في ظل هذه الظروف أن تحول الحكومة الأمريكية دون انهيار المصرف بأي ثمن.
غير أن المشكلة الأساسية التي كانت تواجه عملية إنقاذ المصرف أنه لم يكن مصرفا تجاريا، وإنما كان خامس أكبر مصارف الاستثمار الأمريكية، فكان أحد ما يطلق عليها "بنوك الظل"، وبالتالي لم يكن يخضع لتعليمات الاحتياطي الفيدرالي، ولم يكن يحتفظ باحتياطيات قانونية أو نسب سيولة أو نسب محددة لرأس المال بالنسبة للأصول، كما لم يكن تحت مظلة الصندوق الفيدرالي لتأمين المودعات الذي يقدم الحماية لمودعات الأمريكيين في المصارف التجارية ضد إفلاس المصارف. كانت عملية إنقاذ هذا المصارف تحتاج إلى تشريع خاص يقره الكونجرس الأمريكي، ليسمح للحكومة الأمريكية بأن تستخدم أموال دافعي الضرائب في إنقاذ المصرف، ولم يكن النواب مستعدين في ظل هذا الاضطراب الحادث لإنقاذ من تسببوا فيه، وحتى على فرض أنهم قاموا بذلك، فقد كانوا سيتعرضون لحملة انتقادات واسعة جدا، في أنها تقوم بإنقاذ من تسببوا أو تلاعبوا مسببين الأزمة.
لقد كان من الصعب بالفعل إقناع أحد بتدخل الحكومة لإنقاذ المصرف، وأقصى ما كان المسؤولون مستعدون لفعله هو الإسراع بتسهيل عملية بيع المصرف، فقد كان هناك عرضان لشراء المصرف، الأول من بانك أوف أميركا، والذي على ما يبدو اكتشف الحجم الضخم للأصول المسمومة التي تحتويها ميزانيته، فانسحب من عملية الشراء، وكذلك بنك باركليز البريطاني والذي أعلن في آخر لحظة أن عملية شراء هذا المصرف ستحتاج إلى موافقة حملة الأسهم، والتي من الممكن أن تستغرق شهرا حتى تتم، كما أشار تيموثي جايثنر في كتابه "اختبار ضغط"، فضلا عن أن النظام المصرفي البريطاني كان مشبعا أصلا بعدد كبير من المؤسسات المالية المضطربة.
عندما لم تنجح عملية بيع المصرف، وعندما بدا من الواضح أنه من غير الممكن في ذلك الوقت ضخ أموال عامة في المصرف، سواء في صورة شراء لجانب من أصوله المسمومة أو رفع رأسماله حتى ترفع قدرته على تحمل الخسائر، قام المصرف بتعبئة استمارة الإفلاس تحت الفصل الحادي عشر. حيث أصبح من الواضح في ظل عزوف الحكومة الأمريكية عن إنقاذ المصرف، أن خيار إعلان إفلاس المصرف لا مناص منه.
كان من الواضح أن الحكومة الأمريكية في حاجة إلى صدمة قاسية حتى يمكن أن تعي بدقة حقيقة مخاطر السماح لمصرف على مستوى ليمان براذرز بالسقوط، وقد كان سماح الحكومة الأمريكية بسقوط المصرف أكبر الأخطاء التي وقعت فيها الحكومة الأمريكية على الإطلاق منذ بداية الأزمة، لأن الصدمة التي أحدثها انهيار المصرف ترتب عليها انهيار النظام المالي العالمي، ثم تبعه انهيار اقتصادي ما زلنا نعاني آثاره في أنحاء العالم المختلفة حتى اليوم.
بعض المحللين يؤكد أن النظام المالي العالمي كان سينهار إن آجلا أو عاجلا، سواء انهار "ليمان براذرز" أم لا، لكن في ظل ظروف الأزمة أقصى ما يحتاج إليه النظام هو الاستمرار في بناء الثقة وعدم السماح لها بالتزحزح بأي ثمن حتى لا ينتشر الذعر المالي بين الناس وتجف منابع السيولة بالتدافع نحو سحب المودعات أو توقف رؤوس الأموال عن التدفق من مصادرها المختلفة إلى أسواق المال.
أدت الصدمة بالحكومة التي رفضت تمويل المصرف باعتباره مصرفا خاصا إلى إنقاذ شركات كان يخشى من سقوطها على تدمير النظام المالي في العالم، مثل شركة التأمين العالمية AIG، والتي كانت على حافة الانهيار وقد بذلت الحكومة الأمريكية جهودا حثيثة لإنقاذها من خلال تخصيص أموال ضخمة بلغت 70 مليار دولار تقريبا. ورضخ النواب الذين كانوا يعارضون مساعدة المؤسسات المالية المضطربة، وتمت الموافقة بأغلبية واضحة على برنامج إنقاذ الأصول المضطربة TARP بميزانية بلغت 700 مليار دولار.
بعض التقديرات كانت تشير إلى أن ليمان براذرز كان يحتاج إلى نحو 40 مليار دولار فقط، والبعض الآخر قدرها بـ 72 مليار دولار، وتقديرات أخرى ترفع الرقم إلى نحو 90 مليار دولار، وهو ما نظر إليه على أنه أمر مستحيل الحدوث. بعد انهيار المصرف اضطرت الحكومة صاغرة، إلى أن تدفع تريليونات الدولارات لكي تنقذ نظامها المالي والاقتصادي، مثل تخصيص 700 مليار دولار لإنقاذ المؤسسات المالية من أن تتعرض لانهيار دومينوز، ونحو 900 مليار دولار لبرامج التحفيز المالي للاقتصاد الأمريكي، بل وبدأ الاحتياطي الفدرالي في أكبر عملية توسع نقدي في تاريخ العالم، حيث تم ضــخ تريليونات الدولارات في الاقتصاد الأمريكي في إطار ما هو معروف بسياسات التيسير الكمي.
أوضح انفجار مصرف مثل "ليمان براذرز" بجلاء مدى هشاشة النظام المالي العالمي الحالي، القائم على المشتقات المالية التي ليس لها أساس متين أو سليم، فقد انخرط "ليمان براذرز" في عمليات ضخمة لأصول مالية مغطاة بالرهون العقارية، وهو نوع من الاستثمارات الخطرة التي يتم تجميعها وتقطيعها وتقسيمها إلى شرائح يتم تغليفها وبيعها على صورة حزم لا يعلم من اشتروها عن حقيقة الرهون التي تحتويها هذه الحزم، والتي ثبت لاحقا أنها أصول لا قيمة حقيقية لها، نتيجة لسياسات الإقراض التي اتبعت مع عمليات الإقراض للعملاء الذين لا ملاءة مالية واضحة لهم.
أشاعت صدمة انهيار "ليمان براذرز" حالة رعب مالي في العالم، وسحبت في غضون فترة زمنية قصيرة جدا مئات المليارات من المصارف والمؤسسات المالية في العالم، واختفت مئات المليارات من الأصول المسمومة من قوائم المصارف، وتراجعت مؤشرات بورصات الأوراق المالية على نحو كبير، وجفت منابع السيولة في النظام المالي، والتي تمثل سائل الحياة بالنسبة لها، وتوقفت رؤوس الأموال عن التدفق وسعت أساسا نحو الأمان بدلا من الركض وراء الربح، وتوقف المستثمرون بجميع أشكالهم عن الإقراض، وبدأ مسلسل انهيار الاقتصاد الأمريكي.
بعد انهيار ليمان "براذرز" لم تسمح الحكومة الأمريكية تحت أي ظرف من الظروف أن يسقط بنك بحجمه، بل وأجبرت المصارف الكبرى على الانصياع وتمكين الحكومة الأمريكية من تملك جانبا من رأسمالها، وإجبار صندوق تأمين المودعات على أن يعزز من نطاق التأمين، ويضاعف من حجم المودعات التي يضمنها. فقد كانت ميزانية الـ TARP، على الرغم من ضخامتها، تمثل نقطة في محيط الأصول المسمومة للمصارف والمؤسسات المالية الأخرى، ولذلك اختارت الحكومة بدلا من شراء الأصول أن تعزز من قدرة المؤسسات المالية على التعايش مع ارتفاع قيمة الأصول المسمومة، فتقرر شراء رأس مالها بدلا من شراء أصولها، لمضاعفة قدرتها على مواجهة الخسائر.
لقد كان من الممكن أن تتحمل الحكومة الأمريكية خسائر هذا المصرف لتجنب نفسها والعالم خسائر كبيرة بإنقاذ هذا المصرف، أو السعي بصورة أكثر جدية للتوصل إلى حل لمشكلته. غير أن النظرة الضيقة لبعض الصقور في الكونجرس حالت دون إنقاذ المصرف، وسقط "ليمان براذرز"، وتعلمت الحكومة الأمريكية من الدرس أنها لا يجب أن تسمح في أي وقت بانهيار مصرف في هذا الحجم، ولكنها تعلمت متأخرة. إن صدمة «ليمان براذرز» قدمت الكثير من الدروس، ولكنها دروس مؤلمة ومكلفة جدا في الوقت ذاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق