من الواضح أن العالم اليوم يعيش حقبة زمنية يمكن أن نطلق عليها حقبة الديون، فحكومات العالم، بصفة خاصة الدول الغنية منها، ترتفع مستويات الديون التي عليها، سواء من الناحية المطلقة أو من الناحية النسبية، أي نسبة الديون إلى ناتجها المحلي الإجمالي، إلى مستويات مرتفعة في الكثير من الدول على رأسها الولايات المتحدة. على سبيل المثال عادت الديون لتتجاوز الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة بعد تراجع نسبتها إلى الناتج من نحو 122 في المائة في وسط الأربعينيات إلى نحو ثلث الناتج في أواسط الثمانينيات، بينما تتجاوز النسبة ضعفي الناتج في اليابان حاليا، وتتجاوز حجم الناتج في الكثير من الدول الأوروبية المدينة، أما في الدول التي تقل فيها الديون عن حجم الناتج فإنها أيضا تمثل نسبة كبيرة من الناتج تتجاوز ما هو متعارف عليه على أنه الحد الآمن لنسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي والتي يجب ألا تتجاوز 60 في المائة في أي وقت من الأوقات، حتى تضمن الدولة سلامة أوضاعها المالية على المدى الطويل وعدم اضطرارها إلى إعلان توقفها عن خدمة ديونها، أو ما يطلق عليه الإفلاس من الناحية الفنية.
غير أن السؤال الملح اليوم هو ماذا ستفعل حكومات العالم في جبال الديون التي تحملها على عاتقها؟ وأنى لها أن تتحصل على الإيرادات التي تمكنها من خدمة هذه الديون على المدى الطويل؟ وذلك مع ميل معدلات العائد على سندات الديون نحو الارتفاع، خصوصا بعد أن تنتهي الأزمة حيث يتوقع أن تعود معدلات الفائدة إلى مستوياتها الطبيعية قبل الأزمة. هل بالفعل ستسبب هذه الجبال من الديون مشكلة حقيقية للمالية العامة للدول المدينة على المدى الطويل، كيف ستواجه دولة مثل الولايات المتحدة أعباء دين يصل إلى نحو 18 تريليون دولار حاليا؟ والذي يتوقع له أن يصل إلى نحو 26 تريليون دولار في غضون عشر سنوات فقط.
واقع الأمر أن الصورة الحقيقية ليست بهذا القدر من السوء، فالتاريخ يخبرنا أن ما قد ينظر إليه على أنه مرتفع بمقاييس اليوم، يصبح منخفض القيمة في المستقبل مع ارتفاع معدلات التضخم وميل القيمة الحقيقية، أو القوة الشرائية للديون نحو التراجع، وبالتالي انخفاض عبئها على الحكومات. فمع مرور الوقت وارتفاع معدلات التضخم وتراكم مستوياتها يأخذ تأثيرها في القوة الشرائية للديون في الظهور، وخصوصا أنه غالبا ما لا يتم تعويض الانخفاض في القيمة الحقيقية للديون من خلال رفع معدلات الفائدة الحقيقية على السندات، حيث تميل معدلات الفائدة الحقيقية نحو التراجع في أوقات التضخم، بسبب وجود فترات تأخير بين التغير في معدل التضخم والتغير في معدلات الفائدة الحقيقية، وتكون النتيجة هي تراجع القيمة الحقيقية للديون بسبب عدم قدرة معدلات الفائدة الحقيقية على تعويض الانخفاض الحادث في القوة الشرائية للسندات بمرور الوقت.
وبمعنى آخر فإن هذا النوع من الاستثمار لحائزي السندات، في ظل ثبات معدلات الفائدة وارتفاع معدلات التضخم، تتراجع قيمته وبشكل مستمر عبر الزمن، وبالتالي تستفيد الحكومات من تراجع القيمة الحقيقية لديونها، ومن ثم فإن ما قد ينظر إليه البعض على أنه أمر مقلق من الناحية الفعلية لهذه الدول اليوم، مع تصاعد الدين العام لمستويات فلكية، فإنه على المدى الطويل سوف تتراجع القوة الشرائية لهذه الديون، وربما لا تمثل مشكلة في المستقبل، خصوصا في أوقات التضخم المرتفع.
من المؤكد أنه إذا ما شكلت الديون أزمة حقيقية لدول مثل الولايات المتحدة، فإنه من خلال استخدام أدوات السياسة النقدية يمكن التعامل مع ارتفاع القيمة الحقيقية للديون من خلال استخدام السياسات النقدية التوسعية لتخفيض مستوياتها من الناحية الحقيقية وذلك عن طريق استهداف معدلات مرتفعة للتضخم، فتكون النتيجة الحتمية لمثل هذه السياسات هي في تراجع تكلفة الديون على المال العام.
على سبيل المثال لو افترضنا أن معدل الفائدة الاسمي على السندات هو 3 في المائة، وأن البنك المركزي تبنى معدلا مستهدفا للتضخم عند 4 في المائة، أي أعلى من معدلات الفائدة الاسمية. في هذه الحالة يتحول معدل الفائدة الحقيقي على السندات إلى سالب 1 في المائة، وهو ما يعني تراجع القوة الشرائية للسندات وعوائدها بهذه النسبة سنويا. قد يبدو للبعض أن تراجع القوة الشرائية للسندات بهذا المعدل على أنه تراجع محدود أو بسيط، ولكننا عندما نطبق قواعد معدلات النمو المركب، فإن القيمة الحقيقية لهذه السندات سوف تنخفض بصورة سريعة جدا على المدى الطويل.
على سبيل المثال فإن السند المصدر بدولار اليوم بمعدل فائدة 3 في المائة، في ظل معدل للتضخم 4 في المائة، سوف تصبح قيمته الحقيقية أقل من دولار بعد سنة، وبصورة أكبر بعد سنتين وهكذا، وذلك نظرا لأن معدلات الفائدة على السند لا تعوض الخسارة التي تحدث لقيمته الحقيقية مع مرور الوقت. في مثل هذه الحالة سوف تتعرض القيمة الحقيقية للسند للتراجع بنسبة 1 في المائة سنويا، وبالتالي فإن دولار اليوم المستثمر في مثل هذا السند ستساوي قيمته بعد عشرة سنوات، نحو 91 سنتا، وبعد 25 عاما ستساوي قيمته نحو 78 سنتا، وعلى المدى الطويل مثلا 50 عاما، فإن القيمة تتراجع إلى 61 سنتا فقط. بالطبع لو تبنت السلطات النقدية معدلا أعلى للتضخم بحيث يكون معدل الفائدة السالب هو 2 في المائة مثلا، فإن قيمة هذا الاستثمار سوف تتراجع إلى 82 سنتا بعد عشر سنوات وإلى 61 سنتا بعد 25 عاما، وإلى 38 سنتا فقط بعد 50 عاما. أي أن ما قد ينظر إليه اليوم على أنه جبال من الديون قد يتحول إلى حصوات قليلة على المدى البعيد إذا ما استهدفت الدول معدلات مرتفعة للتضخم لمجابهة النمو في تكلفة خدمة الديون.
ولكن هل يمكن أن يواجه حملة السندات هذا التطور في معدلات العائد الحقيقي على استثماراتهم في الديون العامة للدول، الإجابة هي من الناحية النظرية على الأقل نعم، وذلك أذا ما شعر المستثمرون أن التضخم المرتفع أصبح سمة دائمة في اقتصاد الدولة، فإنهم غالبا ما يطلبون معدلات مرتفعة للعائد على السندات، بحيث تغطي تكلفة التضخم، لكن هذا الأمر سوف ينطبق على السندات الجديدة فقط، أما السندات القديمة فإن قيمتها الحقيقية القائمة سوف تستمر في التراجع بمرور الوقت وتتخلص الدول من جانب كبير من تكلفتها بسبب التضخم. من الناحية الأخرى يمكن للدولة مرة أخرى أن ترفع معدلات التضخم المستهدف مع كل ارتفاع في معدلات الفائدة الاسمية بصورة أكبر بحيث تبقي معدلات الفائدة الحقيقية على السندات سالبا.
المشكلة الأساسية في هذا الحل هي أن التضخم، كما هو معلوم نظريا تترتب عليه آثار توزيعية جوهرية في الاقتصاد. بمعنى آخر فإن أصحاب الدخول الثابتة غالبا ما تسوء أوضاعهم في ظل التضخم المرتفع، بينما يستفيد أصحاب الدخول المتغيرة وملاك الأصول الحقيقية كالأراضي والعقارات، والتي غالبا ما ترتفع أسعارها مع الارتفاع في معدلات التضخم، غير أن الحكومات غالبا ما تكون مستعدة لتحمل مثل هذه التكاليف حتى لا تضطر إلى التخلف عن سداد ديونها وتواجه بالتالي شبح الإفلاس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق