عندما تولى رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي زمام الأمور في اليابان أخذ في تبني سياسات اقتصادية جديدة ذات مستهدفات طموحة للاقتصاد الياباني أطلق عليها "اقتصاديات آبي Abinomics"، التي استهدفت إنعاش الاقتصاد الياباني ووضعه على قائمة ثاني أكبر اقتصاد في العالم مرة أخرى، بعد أن فقد هذه المرتبة أخيرا. وشملت السياسات عدة جوانب أهمها: الإصلاح الهيكلي للاقتصاد الياباني، وضمان الاستقرار الاقتصادي طويل الأجل بعد عقدين متتاليين من عدم الاستقرار في الأداء، فضلا عن إعادة توازن الاقتصاد الياباني، وذلك من خلال عدة إجراءات أهمها: التحفيز النقدي المكثف من خلال سياسات نقدية توسعية تهدف إلى الخروج من حالة الانكماش السعري وضمان مستويات مناسبة من التضخم، وتكثيف مستويات الإنفاق لدفع الطلب الكلي، فضلا عن إدخال الإصلاحات المناسبة.
مع تطبيق سياسات آبي أخذ الأداء الاقتصادي في اليابان في التحسن على نحو واضح، وبتبني السياسات النقدية التوسعية ساد الاعتقاد بأن الوقت قد أصبح مناسبا للسيطرة على الأوضاع المالية من خلال الحد من عجز الميزانية والسيطرة على نمو الدين العام، الذي أصبح يتجاوز ضعفي حجم الناتج المحلي الإجمالي، وأكبر الديون في الدول الصناعية من حيث نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي. كان أول الحلول المقترحة في هذا الجانب هو رفع ضريبة المبيعات على مرحلتين بهدف مضاعفة معدل الضريبة خلال سنتين. تجدر الإشارة إلى أن ضريبة المبيعات لم تكن ضمن برنامج آبي، ولكنه ورثها من الحكومة السابقة، غير أن خطأه الكبير كان في اختيار التوقيت المناسب لتطبيق تلك الضريبة، على الرغم من أن الاقتصاد الياباني واجه حالة مماثلة لرفع الضرائب في تسعينيات القرن الماضي تسببت في وقوع الاقتصاد في حالة الركود، ولكن على ما يبدو أن درس الماضي لم يتعلم أحد منه.
لا خلاف على أن الإصلاح المالي أمر مهم جدا للدول التي تواجه عجزا ماليا ضخما ومستويات مرتفعة للدين العام، لكن الأكثر أهمية هو اختيار التوقيت المناسب لتطبيق هذه الإصلاحات، ففي أول أبريل الماضي بدأت اليابان في رفع ضريبة المبيعات إلى 8 في المائة، بما يمثل زيادة بنسبة 3 في المائة على مستويات الضريبة السابقة، وكانت الخطة المبدئية أن يتم رفع الضريبة مرة أخرى بنسبة 2 في المائة في أكتوبر القادم، لتتضاعف بذلك نسبة ضريبة المبيعات، وكان النمو الياباني قد بدأ في استرداد عافيته الأمر الذي فسر بأنه مؤشر لنجاح سياسات آبي.
كان البنك المركزي الياباني قد بدأ في تكثيف سياساته التوسعية في أوائل 2013، وهو الأمر الذي مكّن اليابان من تحقيق معدلات نمو كبيرة خلال معظم 2013 والربع الأول من 2014، وقد كان من الواضح أن الاقتصاد الياباني قد أخذ بالفعل في التعافي من الركود طويل الأجل الذي يعيشه منذ فترة طويلة، وأن سياسات آبي الاقتصادية تعمل على نحو سليم، حتى جاء تطبيق السياسات الضريبية الجديدة.
فقد حمل الربع الثاني من هذا العام، وهو الربع الذي تم تطبيق الضريبة، مفاجأة قاسية حيث تراجع معدل النمو في الناتج على أساس سنوي بنسبة 7.3 في المائة، ومنذ أيام أعلن عن مفاجأة إضافية، وهي استمرار النمو في الناتج المحلي في التراجع في الربع الثالث من هذا العام بنسبة 1.6 في المائة، وعلى الرغم من أن ذلك يعني تحقيق اليابان نتائج أفضل مقارنة بتراجع النمو في الربع الثاني من العام، إلا أنه من المتعارف عليه أنه عند ما يحقق الاقتصاد معدلات نمو سالبة لستة أشهر على التوالي، فإن ذلك يعني أن الاقتصاد قد دخل بالفعل مرحلة الكساد.
كانت هذه هي المرة الثالثة التي يدخل فيها الاقتصاد الياباني في الكساد خلال السنوات الأربع الماضية، لكن التراجع الأخير ألقى مزيدا من الشك حول قدرة اقتصاديات آبي على إنعاش الاقتصاد الياباني على المدى الطويل. تمثلت المشكلة الأساسية في أن تركيبة السياسات التي واجه بها آبي عدم الاستقرار الاقتصادي بأنها متناقضة، فبينما كانت السياسة النقدية تواصل مسارها التوسعي، جاءت السياسات المالية على النقيض، وعلى نحو تسببت في تراجع الطلب الاستهلاكي، الذي يشكل أكبر مكونات الطلب الكلي في اليابان، حيث يمثل نحو 60 في المائة من الإنفاق الكلي.
لكي يستمر الانتعاش وتأكيد الخروج من حالة عدم الاستقرار الاقتصادي لا بد أن تكون السياسات متناغمة، بمعنى أن السياسات النقدية التوسعية لا بد أن تساندها في الوقت ذاته سياسات مالية محفزة، حتى تدفع السياستان مستويات الإنفاق نحو النمو. ما حدث هو أنه بعد تطبيق الضريبة أصبح الاقتصاد الياباني يسير بسياستين متناقضتين، فمن ناحية يفترض أن تؤدي السياسات النقدية التوسعية لبنك اليابان المركزي إلى تشجيع الطلب الكلي، غير أن السياسة المالية الجديدة القائمة على رفع معدلات ضريبة المبيعات أدت، ليس فقط إلى تثبيط الطلب الاستهلاكي، وإنما أيضا إلى تراجع الإنفاق الاستثماري، ومن الطبيعي أن تكون المحصلة النهائية لذلك هي تراجع النمو في الناتج، وهذا ما حدث بالفعل. إنه الخطأ نفسه الذي وقعت فيه أوروبا عندما تبنت سياسات تقشفية لمواجهة العجز الكبير في ميزانياتها والحد من النمو في الديون السيادية، في وقت كانت أحوج فيه لتبني سياسات مالية توسعية.
لا يمكن استخدام سياسات لتحفيز الطلب الكلي من الناحية النقدية، وفي الوقت ذاته محاولة الحد من العجز المالي والسيطرة على نمو الدين، إذا لا بد من إفساح الوقت الكافي للسياسات النقدية لإتمام الخروج من حالة الكساد أولا، والتأكد من تعافي الاقتصاد على نحو كامل، ثم البدء بعد ذلك في معالجة العجز المالي والسيطرة على نمو الدين، وعندما يقع صانع السياسة بين خياري تحفيز الاقتصاد ومواجهة العجز المالي، فإنه من الخطأ اختيار معالجة العجز في أوقات الانحسار الاقتصادي، إذ لا بد أن يعطى تحفيز الاقتصاد للخروج من الكساد الأولوية الأولى في هذه الحالة، لسبب بسيط هو أن نمو الاقتصاد هو الذي سيساعده على مواجهة العجز المالي ومن ثم رفع قدرته على خدمة ديونه.
في أول رد فعل لهذه التطورات أعلن رئيس الوزراء الياباني تأجيل المرحلة الثانية من ضريبة المبيعات لمدة سنة ونصف السنة، حيث كان من المفترض أن تطبق اليابان المرحلة الثانية من الضريبة في أكتوبر القادم لترتفع ضريبة المبيعات إلى 10 في المائة، كما أعلن عن إجراء انتخابات مبكرة في ديسمبر القادم.
الخلاصة هي أن الفترة القادمة لا بد أن تشهد ترتيبا أفضل لتحركات السياسة الاقتصادية، بحيث يتم إحداث التناغم المناسب بين السياستين النقدية والمالية في اليابان، وبحيث لا يتم تضييق السياسة المالية إلا بعد التأكد بالفعل من أن الاقتصاد الياباني قد خرج بالفعل من حالة الركود حتى يضمن صانع السياسة استدامة عمليات الانتعاش الاقتصادي وارتفاع قدرته على التعامل مع ديونه دون أي اضطرابات في النمو التي يمكن أن يترتب عليها ضياع الآثار الإيجابية المحققة من السياستين. حيث قد يضطر لمعالجة الآثار الانكماشية الناجمة عن السياسات المالية التقييدية إلى تبني سياسات مالية لتحفيز الاقتصاد ورفع معدلات النمو يترتب عليها تكاليف أكبر بكثير مما تم جمعه من ضرائب تحت سياسات ضريبة المبيعات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق