نشر صندوق النقد الدولي مؤخرا تقريره عن آفاق الاقتصاد العالمي في
2014 والصادر في شهر أكتوبر الماضي، ووفقا لقاعدة بيانات التقرير، بلغت تقديرات
الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية (الكميات المنتجة من السلع والخدمات
النهائية في ذلك العام مضروبة في الأسعار السوقية لتلك السلع والخدمات) للصين في
عام 2014 حوالي 9.469 تريليون دولار، في الوقت الذي يقدر فيه الناتج المحلي
الاجمالي الأمريكي بالأسعار الجارية بحوالي 17.416 تريليون دولارا، أي أن الناتج
المحلي الاجمالي الصيني بالأسعار الجارية يمثل حوالي 54.4% من الناتج المحلي
الاجمالي الأمريكي فقط.
من ناحية أخرى فإن الصندوق يتوقع أن يصل الناتج المحلي الإجمالي للصين
في 2019 إلى 15.518 تريليون دولار، بينما يتوقع أن يزداد الناتج المحلي الاجمالي
الأمريكي بالأسعار الجارية إلى 22.174 تريليون دولار في نفس السنة، أي أن الناتج
المحلي الاجمالي الصيني، حتى بمعدلات النمو المرتفعة حاليا، لا يتوقع أن يتجاوز
70% من الناتج المحلي الاجمالي الأمريكي في 2019، ومن ثم فإن الحديث عن أن
الاقتصاد الصيني سوف يتجاوز الاقتصاد الأمريكي في هذا العقد غير صحيح وفقا لهذه
التوقعات للناتج المحلي الإجمالي في الدولتين بالأسعار الجارية.
غير أن قاعدة بيانات تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الأخيرة قد حملت
مفاجأة لجميع المراقبين، وهي أنه باستخدام مدخل تعادل القوة الشرائية Purchasing Power Parity (PPP) فإن الاقتصاد الصيني يتحول إلى أكبر اقتصاد
في العالم، بل ويتجاوز لأول مرة في التاريخ الحديث حجم الاقتصاد الأمريكي. ففي
مقابل الناتج الأمريكي في عام 2014 والذي يساوي 17.416 تريليون دولار، بلغت
تقديرات الناتج المحلي الاجمالي الصيني بتعادل القوة الشرائية 17.632 تريليون
دولار، أي أن الاقتصاد الصيني أكبر من الاقتصاد الأمريكي بحوالي 1.2%. غير أنه
بمرور الوقت فإن الهوة بين الاقتصادين تتسع، على سبيل المثال يتوقع صندوق النقد
الدولي أن يصل الناتج المحلي الإجمالي الصيني بحسابات تعادل القوة الشرائية في عام
2019 إلى 26.867، بينما يقتصر الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي على 22.174 تريليون
دولار، أي أن حجم الاقتصاد الصيني يتوقع أن يفوق حجم الاقتصاد الأمريكي بحوالي 21%
في ذلك العام.
فماذا يعني تعادل القوة الشرائية؟ وكيف يصبح الاقتصاد الصيني أكبر
اقتصاد في العالم وفقا لهذا المدخل؟ وكيف يتم تقدير الناتج باستخدام هذا الأسلوب؟
لتبسيط الفكرة دعنا نفترض أن متوسط دخل الفرد الصيني هو 1000 دولار أمريكي سنويا،
بينما متوسط دخل الفرد الأمريكي هو 10000 دولار أمريكي سنويا، أي عشر أضعاف متوسط
دخل الفرد في الصين. إذا كان المستوى العام للأسعار واحدا في كلا الدولتين، وكانت
القوة الشرائية للدولار في الدولتين واحدة، بمعنى أن كمية السلع والخدمات التي
يمكن الحصول عليها بدولار واحد في كل من الصين والولايات المتحدة واحدة، فإن ذلك
يعني أن الفرد في الصين بدخله هذا يمكنه الحصول على عشر كمية السلع والخدمات التي
يمكن أن يشتريها الأمريكي بدخله في الدولتين، بينما يمكن للأمريكي أن يحصل على عشر
أضعاف السلع والخدمات التي يمكن أن يشتريها الصيني في الدولتين.
دعنا الآن نفترض أن متوسط أسعار السلع والخدمات في الصين مقومة
بالدولار هو نصف متوسط أسعارها في الولايات المتحدة، فإن ذلك يعني أن الفرد الصيني
بمتوسط دخل 1000 دولار يمكنه الحصول على ضعف السلع والخدمات التي يحصل عليها
الأمريكي في أمريكا بنفس المبلغ، أي أنه باستخدام مدخل تعادل القوة الشرائية، فإن
متوسط الدخل الحقيقي للشخص الأمريكي لا يساوي 10 أضعاف دخل الفرد في الصين، وانما
يساوي 5 أضعاف فقط، رغم أنه من الناحية الإسمية يصل دخل الفرد الأمريكي إلى عشر
أضعاف دخل الفرد الصيني في المثال السابق، وذلك بسبب فروق الأسعار في الدولتين.
وفقا لتعادل القوة الشرائية يتم استخدام معامل للتحويل يمكننا من أن
نقوم بمقارنة مجموعات السلع والخدمات التي يتكون منها الناتج المحلي الإجمالي
للدول، حيث يخبرنا هذا المعامل عن عدد الدولارات التي يجب أن نحتاجها في الصين لكي
نشتري سلعا ما مقارنة بالولايات المتحدة، لتبسيط طريقة الحساب افترض أن تذكرة
السينما تكلف 5 دولارات في الولايات المتحدة، بينما تكلف 3 دولارات في الصين، معنى
ذلك أن تعادل القوة الشرائية بين الصين والولايات المتحدة بالنسبة لأسعار هذه
الخدمة هو 3/5=0.6، أي أن الصينيين ينفقون 60% مما ينفقه الأمريكيون للحصول على
هذه الخدمة، وعلى العكس فإن معامل التحويل لتعادل القوة الشرائية هو 1.67، بمعنى
أن الأمريكيين ينفقون 1.67 ضعف ما ينفقه الصينيون للحصول على نفس الخدمة، أي أن
الأسعار في أمريكا لهذه السلعة تزيد 67% عن سعرها في الصين، إذا قمنا بإعادة حساب
الناتج المحلي الصيني من هذه الخدمة أخذا في الاعتبار فروق تكاليف الحصول عليها،
فإننا نصل الى تقدير أكثر واقعية للناتج المحلي الصيني لهذه الخدمة بالدولار.
لاحظ أنه باستخدام تعادل القوة الشرائية يتم مقارنة الناتج المحلي
الاجمالي ومكونات الانفاق عليه بعملة موحدة بحيث يمكن المقارنة بين الدول حسب
الحجم باستخدام منهج اكثر تعبيرا عن القوة التي يمثلها كل اقتصاد مقارنة
بالاقتصادات الأخرى في العالم، من خلال تحويل الانفاق على المجموعات السلعية
المختلفة من العملة المحلية إلى عملة موحدة وليكن مثلا الدولار، حتى تسهل عملية
المقارنة بين الدول، وهكذا فإننا لو أخذنا فروق أسعار السلع والخدمات بين كل من
الصين والولايات المتحدة يصبح الاقتصاد الصيني أكبر من حيث الحجم من الولايات
المتحدة بتعادل القوة الشرائية، هذا بالطبع لا يعني ضمنا أن نصيب الفرد الصيني من
الدخل أكبر من نصيب الفرد الأمريكية، فهناك فارق شاسع بين الاثنين لاختلاف أعداد
السكان بينهما على نحو واضح.
ولكن لماذا يلجأ صندوق النقد الدولي لمثل هذا الأسلوب في المقارنة بين
الناتج المحلي الاجمالي لمختلف الدول؟ المشكلة تكمن كما أوضحنا في الفروق الحقيقية
في الأسعار وكذلك معدلات صرف العملات، فعندما لا تعكس معدلات الصرف القيمة
الحقيقية للعملة، فإن قياسات الناتج باستخدام عملة دولية مثل الدولار لا تعكس
القيمة الحقيقية للناتج لدول العالم، على سبيل المثال تحرص الصين دائما على أن
تكون عملتها ضعيفة امام العملات الرئيسة، بصفة خاصة الدولار الأمريكي، وذلك لأغراض
تجارية، أي حتى تحافظ على عملتها رخيصة بالنسبة للدولار، وحتى تتمكن من الحفاظ على
تنافسيتها مرتفعة أمام شركاءها التجاريين مثل الولايات المتحدة. إذا افترضنا أن
الرينمنبي الصيني مقيم بأقل من قيمته الحقيقية بـ 25%، فإن ذلك يعني أننا يجب أن
نرفع القيمة المحسوبة للناتج المحلي الإجمالي في الصين بنسبة 25%، حتى يعكس القيمة
الحقيقية للعملة الصينية، وهكذا فإن تعادل القوة الشرائية يصبح مفيدا في التعرف
على القيمة الحقيقية للناتج في دول العالم إذا لم تكن معدلات الصرف بين عملات
الدول غير مقيمة على نحو سليم.
بتعادل القوة الشرائية إذن تحول الاقتصاد الصيني هذا العالم إلى أكبر
اقتصاد في العالم، بل وأن الهوة بينه وبين ثاني أكبر اقتصاد وهو الاقتصاد الأمريكي
تتسع بمرور الوقت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق