في ضوء التحسن الواضح للأوضاع الاقتصادية المحلية سواء من حيث معدلات النمو الحقيقي التي يحققها الاقتصاد الأمريكي، أو تطورات سوق العمل التي تتراجع فيها البطالة على نحو فاق الكثير من التوقعات حول المدى الزمني الذي تستلزمه العودة إلى أوضاع سوق العمل قبل الأزمة، أعلن الاحتياطي الفيدرالي أخيرا عن الوقف الكامل لبرنامج شراء السندات والمعرف بـ "التيسير الكمي"، وكان الاحتياطي الفيدرالي قد خفض مشترياته من السندات وذلك من ذروة بلغت 85 مليار دولار شهريا إلى 15 مليارا حتى الشهر الماضي، ولكنه عاد وقرر إيقاف عمليات الشراء نهائيا.
يذكر أن كل عملية شراء للسندات يصاحبها خلق عرض مماثل بالدولارات، ولذلك يعد "التيسير الكمي" أحد سبل التوسع النقدي، ففي الثاني من يناير 2008 قبل الأزمة كانت ميزانية الاحتياطي الفيدرالي نحو 922 مليار دولار فقط. وقد ترتب على عمليات التوسع النقدي زيادة حجم ميزانية الاحتياطي الفيدرالي في نهاية أكتوبر الماضي إلى 4.487 تريليون دولار، أي ما يقرب من خمسة أضعاف مستوياتها قبل الأزمة، نتيجة السياسات النقدية التوسعية التي اتبعها الاحتياطي الفيدرالي لمعالجة آثار الأزمة.
أثارت عمليات التوسع النقدي الضخم جدلا هائلا حول العالم كله شمل أبعادا كثيرة بدءا من احتمالات التضخم الجامح، إلى انهيار الدولار كعملة دولية وحلول عملات أخرى مكانه. كما ثار جدل مواز حول جدوى السياسة من الأساس، وفيما إذا كانت تساعد الولايات المتحدة على الخروج فعلا من حالة الكساد أم لا.
بغض النظر عن هذه القضايا والتي ليست محل اهتمامنا في هذا المقال، فإن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم بقوة هو، وماذا بعد؟ ما الخطوة التالية التي سيتخذها الاحتياطي الفيدرالي؟ كيف سيتم سحب هذه الجبال من النقود؟ وما تأثيراتها المختلفة في أسعار الفائدة والأصول؟ والأهم من ذلك كله الأثر في قيمة الدولار التي من المتوقع أن تستمر تشهد تصاعدا مع خفض العرض منه، وهل يمكن أن يتسبب ذلك في التأثير بصورة سلبية في مسار التعافي الاقتصادي الأمريكي، وخصوصا أن السياسات النقدية التي تتبناها البنوك المركزية للشركاء التجاريين الأساسيين لأمريكا ما زالت توسعية، بعكس الاتجاه الحالي في أمريكا، فالبنك المركزي البريطاني مستمر في برنامج شراء السندات، وكذلك تبنى البنك المركزي الأوروبي الاستراتيجية أخيرا، كما أعلن بنك اليابان المركزي الأربعاء 5 - 11 رفع قيمة عمليات الشراء من 70 تريليون ين إلى 80 تريليون ين.
وفقا لما أعلنه الاحتياطي الفيدرالي، فإنه وحتى الوقت الحالي لا ينوي بدء عملية تخفيض حجم ميزانيته، بل سيستمر في إعادة استثمار حصيلة ما يستحق من هذه السندات مرة أخرى في شراء سندات جديدة، وهو ما يعني استمرار حجم الميزانية على ما هي عليه حاليا، وذلك حتى إشعار آخر، ربما حتى منتصف 2015، ولكن ما السبب في استمرار احتفاظ الفيدرالي بميزانيته عند مستوياتها الحالية؟ هناك سببان على الأقل للاستمرار في الحفاظ على الميزانية كما هي (بمعنى استمرار الكميات المصدرة من الدولار على حالها).
الأول هو أنه لو قام الاحتياطي الفيدرالي اليوم بالتخلص من هذه السندات في غضون فترة قصيرة وذلك لاستعادة الأساس النقدي الدولاري لمستوياته قبل الأزمة مع الأخذ في الاعتبار النمو في الطلب على النقود لمواجهة النمو في الطلب على المبادلات خلال الفترة من 2008- حتى يومنا هذا، فإن ذلك سوف يترتب عليه بيع كميات هائلة من السندات لا تقل عن 3.2 تريليون دولار. وفقا لآخر البيانات المتاحة عن ميزانية الاحتياطي الفيدرالي فإن النقود خارج النظام المصرفي تبلغ نحو 1.3 تريليون دولار، هذه هي كمية الدولارات المطبوعة فعليا، وهذه هي الكمية التي سيحافظ الاحتياطي الفيدرالي عليها، أما الباقي فيمثل نقودا زائدة من الأساس النقدي والتي نتجت عن عمليات التوسع النقدي والتي ينبغي سحبها.
المشكلة الأساسية هي أنه لو حاول الاحتياطي الفيدرالي التخلص من هذه السندات في غضون فترة زمنية قصيرة، فإن ذلك سوف يترتب عليه انخفاض كبير في أسعارها، خصوصا بالنسبة لسندات المؤسسات المتخصصة في عمليات التمويل العقاري مثل "فاني ماي" و"فريدى ماك"، وهذه تمثل حاليا نسبة جوهرية من ميزانية الاحتياطي الفيدرالي، ففي يوم 29 أكتوبر الماضي بلغت قيمة هذه السندات التي يحتفظ بها الاحتياطي الفيدرالي نحو 1.7 تريليون دولار، ومن المعلوم أن هناك علاقة عكسية بين أسعار السندات ومعدلات العائد (الفائدة) عليها، وبالتالي سوف يرتب على تراجع أسعار سندات هذه المؤسسات ارتفاع كبير في معدلات العائد عليها، وهو ما يقتضي زيادة أسعار الفائدة على قروضها، وهذا بالطبع ما لا يريده الاحتياطي الفيدرالي، لأنه يرغب في استمرار الطلب على المساكن مرتفعا حتى لا يتراجع الاستثمار في هذا القطاع وهو أحد أهم بنود الإنفاق الاستثماري الخاص، الأمر الذي يؤثر سلبا في معدلات النمو وبالتالي استدامة التعافي الاقتصادي من الأزمة.
السبب الثاني أن التخلص من هذا الحجم الضخم من السندات في غضون فترة زمنية قصيرة، وإلغاء القيود النقدية المقابلة له في الميزانية سوف يتسبب بالتبعية في انخفاض كبير في عرض النقود. وفي ظل ثبات الطلب على النقود على حاله، فإن أسعار الفائدة سوف تميل نحو الارتفاع، وهو ما يمكن أن يتسبب في عودة الاقتصاد مرة أخرى إلى حالة الكساد مع تراجع مستويات الطلب الكلي.
ولكن كيف سيخفض الاحتياطي الفيدرالي من ميزانيته؟ هناك عدة طرق تمكنه من ذلك، الأولى هي أن يتوقف الاحتياطي الفيدرالي عن إعادة استثمار ما يستحق من سندات، ويلغي بالتالي القيود الخاصة بهذه السندات والنقود التي تمثلها من ميزانيته. بالطبع سرعة عمليات خفض عرض النقود سوف تعتمد في هذه الحالة على تواريخ استحقاق السندات، فإن كانت معظم السندات قصيرة الأجل، فإن الاحتياطي الفيدرالي سوف يتخلص من النقود الزائدة بسرعة، أما إن كانت السندات معظمها طويلة الأجل فإن الاعتماد على هذه السياسة في خفض عرض النقود سوف يأخذ وقتا، وستظل ميزانية الاحتياطي الفيدرالي أكبر من اللازم لفترة زمنية طويلة.
الطريقة الثانية، وهي أن يقوم الاحتياطي الفيدرالي بالتخلص من هذه السندات قبل موعد استحقاقها من خلال بيعها في سوق السندات أو ما يسمى بعمليات السوق المفتوحة، وبالتالي إلغاء القيود الكمية المقابلة لها في ميزانيته، وذلك وفقا للمعدلات الموضوعة للتخلص من هذه السندات.
الطريقة الثالثة التي يمكن أن يلجأ إليها الاحتياطي الفيدرالي، هي محاولة التأثير في قرارات المصارف بالاحتفاظ بالسيولة لديه، وذلك من خلال التوقف عن دفع معدلات للفائدة على مودعات المصارف لديه، فمن المعلوم أنه بشكل عام ليس من حق الاحتياطي الفيدرالي أن يدفع فوائد للمصارف على احتياطياتها النقدية التي تقوم بالاحتفاظ بها لديه، غير أنه ولظروف الأزمة استطاع الاحتياطي الفيدرالي أن يحصل على موافقة الكونجرس على دفع معدلات للفائدة على مودعات المصارف حتى يمكنه امتصاص فوائض السيولة في سوق النقود. الميزة الأساسية في هذا الخيار هي أنه يمكّن الاحتياطي الفيدرالي من أن يتحكم في ميزانيته وفي عرض النقود بالتبعية، ولكن دون أن يؤثر في معدلات الفائدة، غير أن جدوى هذه الطريقة محدودة نظرا لانخفاض حجم المودعات بشكل عام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق