عندما نشبت أزمة الديون السيادية الأوربية، والتي نجمت عن عدم انضباط
المالية العامة للعديد من الدول الأعضاء، خصوصا في أثناء الأزمة المالية العالمية،
والتي اضطرت معها منطقة اليورو الى اتباع سياسات مالية تقشفية كسبيل للخروج من
الأزمة وكوسيلة للتعامل مع انخفاض مستويات الطلب الكلي ورفع مستويات النمو، ومنذ
ذلك الحين والأوضاع الاقتصادية في منطقة اليورو تسير من سيء إلى أسوأ. حيث بدى من
الواضح أن السياسات التقشفية التي تتبعها منطقة اليورو لا تتوافق مع طبيعة الظروف
الاقتصادية التي تمر بها، وأن التقتير على الاقتصاد في اوقات انحسار الطلب هو أسوأ
الوصفات التي يمكن اللجوء اليها لمعالجة تدهور الأوضاع الاقتصادية، فالمعروف أن
السياسات المالية التقشفية تزيد من حدة الأزمة ولا تسهم في حلها كما روج لسياسات
التقشف في منطقة اليورو. فقد جاءت بيانات النمو في منطقة اليورو منذ بداية هذا
العام مخيبة للآمال، بصفة خاصة وأن بيانات التضخم تشير الى احتمال دخول المنطقة في
مصيدة الكساد السعري Deflation Trap، مع بلوع معدلات الفائدة
مستويات صفرية تقريبا، كما تزايد الحديث في الوقت الحالي عن عقد أوروبا الضائع Europe’s Lost Decade، نتيجة استمرار وقوع الاقتصاد الأوروبي في
مصيدة الكساد دون جهود جادة لمحاصرته، وأن أوروبا في طريقها لأن تخسر عقدا من
النمو على نمط ما واجهته اليابان في أعقاب الأزمة الآسيوية في نهاية التسعينيات من
القرن الماضي، حيث فقدت اليابان عزم النمو خلال أكثر من عقد من الزمان تقريبا.
ما أن خفت حدة مشكلة الديون السيادية لدول اليورو، حتى ضربت المنطقة
مشكلتان في غاية الخطورة وهما تراجع مستويات النمو المصحوب بارتفاع معدلات
البطالة، وانخفاض معدلات التضخم الى مستويات قريبة من الصفر، وقد أدركت دول
المنطقة أن الخروج من دائرة الكساد يتطلب مراجعة سياسات التقشف التي لجأت اليها في
الفترة الماضية، والتي أصبح من الواضح للعيان أنها لا تعمل على النحو المأمول، وبأنه
أصبح من الضروري اللجوء الى سياسات اقتصادية مختلفة، على الأقل في الجانب النقدي، للحيلولة
دون سقوط المنطقة في مصيدة الكساد السعري مع تراجع معدلات النمو والأسعار في ظل
معدلات الفائدة شبه الصفرية أو السالبة.
يشير الشكل التالي إلى اتجاهات النمو في الناتج المحلي الحقيقي في
منطقة اليورو (18 دولة) مقارنة بدول المنطقة الموحدة الأوروبية (28 دولة من بينها
دول منطقة اليورو) والولايات المتحدة الأمريكية، خلال الربع الأول من 2005 حتى
الربع الثاني من 2014. ومن الشكل يلاحظ أن نمو الناتج الحقيقة في هذه الدول لم يزد
في المتوسط عن 1% سوى في حالات نادرة خلال هذه الفترة، وهو بالفعل ما يعكس انخفاض
عزم النمو في المنطقة على نحو واضح خلال العقد الماضي والذي بالفعل يمكن أن يطلق
عليه وصف عقد أوروبا الضائع. يلاحظ أيضا أنه ومنذ الربع الأول من 2011 ودول منطقة
اليورو لم تحقق نموا تقريبا حتى الآن.
أخطر التطورات في الفترة الأخيرة حيث أشارت أخر التقديرات حول اتجاهات
النمو في منطقة اليورو أن المنطقة لم تحقق أي نمو في الربع الثاني من هذا العام،
حيث بلغ متوسط معدل النمو المحقق في المنطقة (18 دولة) صفر%. الأسوأ هو أن
الاقتصادات التي يمكن أن يطلق عليها اقتصادات المفتاح في منطقة اليورو أخذت تحقق
إما معدلات نمو حقيقي سالبة أو صفرية مثل فرنسا وإيطاليا. على الجانب الآخر فإنه
على الرغم من أن الاقتصاد الألماني قد حقق معدلا نمو موجبة، وأن كان منخفضة، فإن
بيانات النمو في الربع الثاني من هذا العام جاءت مخيبة للآمال، حيث حقق الاقتصاد
الألماني ولأول مرة منذ فترة طويلة معدل نمو سالب (-0.2%)، وقد تزايد الحديث عن
احتمال دخول الاقتصاد الألماني الكساد مرة أخرى، خصوصا بعد أن خفضت ألمانيا رسميا
من توقعات النمو في عامي 2014 و 2015، الأمر الذي يشير الى مدى عمق الأزمة، وهو ما
رفع من حدة القلق حول اتجاهات النمو في المنطقة.
في الرابع عشر من هذا الشهر صدر تقرير مركز الاحصاءات الأوروبي
"اليوروستات"، حول النمو في الانتاج الصناعي في منطقة اليورو، والذي
أشار إلى تراجع الانتاج الصناعي في المنطقة بصورة غير متوقعة من معدل نمو 0.9% في
يوليو 2014، إلى -1.8% في أغسطس 2014.
كذلك صدر مؤخرا تقرير صندوق النقد الدولي الأخير حول آفاق الاقتصاد
العالمي World Economic Outlook، والذي قام فيه بتخفيض
توقعاته حول اتجاهات النمو في العالم، حيث تم تخفيض توقعات النمو العالمي المتوقع في
عام 2014 إلى 3.3%، بانخفاض قدره 0.4 نقطة مئوية عما ورد في تنبؤات عدد إبريل
الماضي من التقرير، وهو ما عكس سوء الأداء المتوقع للنمو في الولايات المتحدة،
والأسواق الصاعدة في العالم.
الشكل رقم (1) معدلات
النمو الربع سنوي في منطقة اليورو مقارنة بأوروبا الموحدة والولايات المتحدة
2005-2014
المصدر:
Eurostat: “GDP stable in the euro area
and up by 0.2% in the EU28” 133/2014 - 5 September 2014
ب. تطورات معدلات البطالة
عندما يحقق اقتصاد ما مثل هذه المعدلات المنخفضة من النمو، فإنه من
الطبيعي ان تنحسر قدرته على خلق الوظائف، وتتزايد بالتالي أعداد العاطلين في سوق
العمل، في 30 سبتمبر الماضي، صدر آخر تقرير عن أسواق العمل في منطقة اليورو، وقد
أشار التقرير الى استمرار معدلات البطالة مرتفعة في منطقة اليورو عند معدل متوسط
11.5%، مقارنة بمعدل متوسط 10.2% في الاتحاد الأوروبي (28 دولة)، وهي معدلات أعلى
بكثير من مستوياتها التاريخية في المنطقة قبل الأزمة، وكذلك أعلى من معدلاتها في
الدول المنافسة في العالم، بصفة خاصة الولايات المتحدة والتي من الواضح أن معدل
البطالة يتراجع فيها على نحو جيد، وإن كان ذلك مصحوبا ببعض التطورات الهيكلية في
سوق العمل الأمريكي التي تجعل من ضغوط البطالة، على الرغم من انخفاضها، مثار
اهتمام الاحتياطي الفدرالي وأحد أسباب تأخير قراراته بالخروج من السياسة النقدية
التوسعية التي يتبعها حاليا.
وعلى الرغم من اتجاه معدلات البطالة في المنطقة نحو التراجع، على سبيل
المثال خلال العام الماضي تراجع معدل البطالة في المنطقة من 12% في اغسطس 2013 إلى
11.5% في أغسطس لهذا العام، إلا أن هذه المعدلات تعد مرتفعة للغاية بكافة المقاييس،
وبشكل عام عام تختلف معدلات البطالة بصورة واضحة بين دول المنطقة، ففي الوقت الذي
بلغ فيه معدل البطالة في اليونان (حسب آخر البيانات المتاحة) 27.2%، وهو الأعلى
بين دول المنطقة، وكذلك بلغ معدل البطالة في إسبانيا 24.5%، نجد أن معدل البطالة
قد اقتصر على 4.9% في ألمانيا.
من ناحية أخرى تشير تقارير مركز الإحصاءات الأوروبي
"اليوروستات" إلى ارتفاع معدلات البطالة بين العمال صغار السن (العمال
في الفئات العمرية أقل من 25 عاما) بصورة استثنائية، ففي المتوسط يبلغ معدل
البطالة بين هذه الفئة من العمال 23.3% في أغسطس 2014، أما على المستوى القطري
فيصل معدل البطالة بين هؤلاء إلى 53.7% في إسبانيا، و 51.5% في اليونان، و 44.2%
في إيطاليا، في الوقت الذي لا يزيد فيه عن 7.6% في ألمانيا.
ولا شك أن هذه المعدلات المرتفعة تعكس مدى عمق الازمة، حيث أن هذه
الفئات من العاطلين هم الأكثر تأثرا في أحرج أوقات الكساد.
لم تقتصر التطورات الخطيرة في منطقة اليورو على تراجع معدل النمو في
الناتج المحلي الإجمالي، أو الناتج الصناعي أو ارتفاع معدلات البطالة، وإنما أتت
أيضا بيانات معدل التضخم أقل بكثير من المستويات المستهدفة، وعلى نحو مثير للقلق،
خصوصا وأن المنطقة تعاني من استمرار انخفاض معدلات التضخم منذ نهاية 2011 تقريبا،
كما يتضح من الشكل رقم (2)، ففي أواخر 2011 بلغ معدل التضخم الشهري في المنطقة
حوالي 3% تقريبا، ومنذ ذلك الوقت أخذ معدل التضخم في التراجع شبه المستمر حتى
اقتصر في شهر سبتمبر الماضي على 0.3%، وهو أقل بكثير من معدل التضخم المستهدف Target Inflation بواسطة البنك المركزي الأوروبي (2%).
الشكل
رقم (2) معدل التضخم في أوروبا ومنطقة اليورو سبتمبر 2010 - سبتمبر 2014
المصدر:
Eurostat: Euro
area annual inflation down to 0.3% - 154/2014 - 16 October 2014
من المعلوم من الناحية النظرية هو أنه عندم يتبنى البنك المركزي معدلا
ما على أنه المعدل المستهدف للتضخم فإنه يراقب هذا المعدل بصورة لصيقة، ويقوم
باتخاذا الاجراءات اللازمة للحفاظ على هذا المعدل عند مستوياته المستهدفة، على
سبيل المثال من خلال استخدام معدلات الفائدة كأحد الأسلحة الأساسية لضبط الاتجاهات
التضخمية في الاقتصاد، فإذا ما ارتفع معدلا التضخم عن المستويات المستهدفة فإن
البنك المركزي يستهدف في هذه الحالة الضغط على الطلب الكلي بالنزول من خلال رفع
معدلات الفائدة، أما إذا ما اتجه معدل التضخم نحو الانخفض عن المستويات المستهدفة،
فإن البنك المركزي يخفض معدلات الفائدة بهدف تحفيز الطلب الكلي ومن ثم رفع معدلات
التضخم الى المستويات المستهدفة.
الخطورة الأساسية التي تواجهها منطقة اليورو في الوقت الحالي هي
المعدلات المنخفضة جدا للتضخم والتي تقترب من الصفر تقريبا، ومع بلوغ معدلات
الفائدة قاعها الصفري، فإن استمرار تراجع معدلات التضخم بصفة خاصة مع تحول معدلات
التضخم الى مستويات سالبة، فإن ذلك سوف يؤدي إلى بدء ارتفاع معدلات الفائدة
الحقيقية وهو ما يبشر بدخول المنطقة في مصيدة الكساد حيث يصعب الخروج منها مع
تراجع مستويات الاستثمار مع كل تراجع يحدث في معدلات التضخم، الأمر الذي يؤثر سلبا
على النمو في الطلب الكلي، حتى على الرغم من اتباع سياسات نقدية توسعية لتحفيزه.
مما لا شك فيه أن هذه التطورات التي تحدث في منطقة اليورو تشكل الخلطة
المثلى لدخول المنطقة في مرحلة الركود (الكساد العميق)، وهو ما يشكل أهم العقبات
في طريق تعافي الاقتصاد العالمي من الأزمة الاقتصادية العالمية التي صاحبت الأزمة
المالية في العالم، وهو الأمر الذي استدعى التدخل السريع للبنك المركزي الأوروبي
من خلال الإعلان عن سياسة نقدية جديدة لمنطقة اليورو لمحاولة دفع معدلات النمو
وانتشال اقتصاد المنطقة من قاع الكساد، وقد تمثلت أهم ملامح هذه السياسة في تبني
إجراءات غير تقليدية، يمكن تلخيصها على النحو التالي:
أولا: فرض معدلات فائدة سالبة على مودعات البنوك لدى البنك المركزي
الأوروبي، حيث قام البنك المركزي الأوروبي بخفض معدلات الفائدة التي يدفعها على
مودعات البنوك لديه لمدة ليلة إلى سالب 0.10 في المائة، وهي إجراء نادر اتبعه عدد
قليل جدا من دول العالم مثل السويد والدانمرك، ويعني معدل الفائدة السالب أن
البنوك التي ترغب في الاحتفاظ باحتياطياتها الزائدة لدى البنك المركزي الأوروبي
أصبح عليها الآن أن تقوم بدفع فائدة على هذه المودعات بنسبة 0.10 في المائة،
والهدف من هذه الخطوة أن يصبح معدل الفائدة على مودعات البنوك لدى البنك المركزي
الأوروبي عقابيا، بحيث تضطر هذه البنوك الى البحث عن سبل أخرى لإقراض هذه المودعات
وتحقيق عوائد عليها، بدلا من خسارة جانب منها بإيداعها لدى البنك المركزي، الأمر
الذي يؤدي الى زيادة حجم الائتمان وتحفيز مستويات الطلب الكلي.
ثانيا: خفض معدلات الفائدة على قروض إعادة التمويل من البنك المركزي
الأوروبي من 0.25 في المائة إلى 0.15 في المائة، لتحفيز عمليات الائتمان في
الاقتصاد الأوروبي.
ثالثا: أعلن البنك المركزي الأوربي أنه سيفتح خطوط ائتمان طويلة الأجل
بنحو 400 مليار يورو "أي أكثر من نصف تريليون دولار" للأسر ومؤسسات الأعمال
التي في حاجة إلى تمويل (لا يشمل تمويل المساكن( لتحفيز الطلب الكلي.
رابعا: قام البنك المركزي الأوروبي بوقف عمليات التعقيمSterilization ، التي يقوم بها مع كل عملية توسع نقدي، أي
وقف سحب النقود من التداول في مقابل مشترياته من السندات، الأمر الذي يضاعف الأثر
التوسعي لعمليات شراء السندات على عرض النقود.
خامسا: أعلن البنك المركزي الأوروبي مؤخرا عن بدء برنامجه لشراء
الأوراق المالية بقيمة 500 مليون يورو، وهو ما يعرف باستراتيجية التيسير الكمي Quantitative Easing التي اتبعها الاحتياطي الفدرالي بكثافة في
السنوات الأخيرة بهدف التأثير على هيكل العوائد على الأصول المالية في سوق المال.
وتهدف هذه الإجراءات جميعا إلى رفع معدلات التضخم والضغط على معدلات
الفائدة، وهو أمر مطلوب في ظل تراجع اتجاهات التضخم خلال السنوات الماضية على
النحو الذي يحمل آثارا سلبية على النمو الاقتصادي، وإجبار البنوك غير الراغبة في
مد خطوط الائتمان في الاقتصاد الأوروبي على القيام بذلك حتى تتجنب أن تدفع فائدة
على الأموال التي لا تقرضها، وهو أمر مرغوب أيضا في ظل هذه الظروف لتغذية الطلب
الكلي في الاقتصاد الأوروبي، هذا بالطبع بافتراض أن البنوك تهتم بالدرجة الأولى
بالفائدة التي ستدفعها على مودعاتها.
لقد ساهمت هذه الإجراءات في تراجع اليورو على نحو واضح بالنسبة
للعملات الرئيسة في العالم، خصوصا الدولار، الى الحد الذي دعا مجموعة
"جولدمان ساكس" الى توقع تعادل الدولار واليورو في 2017، حسبما نشر
الوول ستريت جورنال أواخر أغسطس الماضي. في العامين المقبلين يتوقع استمرار تراجع
اليورو نتيجة لاستمرار النمو المنخفض وفقا للتوقعات، وكذلك للسياسات النقدية
التوسعية التي يطبقها البنك المركزي الأوروبي حاليا، غير أنه أصبح من الواضح أن
هذا التطور يسهم في تحفيز الطلب على السلع التي تنتجها منطقة اليورو، كما أنه يخفض
الطلب على الواردات التي تأتيها من الخارج، وبالتالي يحسن من موازين مدفوعاتها، ففي
أغسطس 2014 ارتفعت فوائض ميزان مدفوعات دول اليورو الى 9.2 مليار يورو، في أغسطس
2014 مقارنة بـ 7.3 مليار يورو في أغسطس 2013.
على الجانب الآخر كذلك يلاحظ أن الدولار يرتفع بالنسبة لليورو الى
مستويات ما قبل الأزمة، مثل هذه التطورات تسهم في التأثير على المدفوعات الدولية
للدول المنافسة وعلى رأسها الولايات
المتحدة، والتي يفترض أنها تستعد للخروج من السياسة النقدية التوسعية الحالية،
الأمر الذي يعني مزيدا من الارتفاع في قيمة الدولار، فهل تقف الولايات المتحدة
مكتوفة اليدين أمام استمرار ارتفاع الدولار؟ أم من الممكن أن نشهد تنافسا على خفض العملات
على النحو الذي يمكن أن يجر دول العالم إلى الدخول في حرب للعملات للحفاظ على مراكزها
التنافسية؟ حتى الآن، وفي أحلك ظروف
الأزمة، استطاع العالم تجنب هذه السيناريو المدمر، وأعتقد أن اختلاف السياسات
النقدية بين المناطق الرئيسة في العالم سوف يتطلب قدرا أكبر من التنسيق لتجنب آثار
هذه السياسات على المواقف التنافسية للأطراف التجارية المختلفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق