صدر الخميس الماضي بيان وزارة المالية حول الميزانية التقديرية للسنة المالية الجديدة 1437/1436، الذي كان الجميع ينتظره بلهفة للتعرف على اتجاهات الميزانية العامة في ظل الأوضاع الجديدة لسوق النفط العالمي، في ظل التراجع الكبير لأسعار النفط الخام. وكانت التوقعات تدور حول احتمال حدوث انخفاض كبير في مستويات الإنفاق العام والإيرادات العامة وانعكاس فوائض الميزانية إلى عجز، وقد أتت الميزانية على النحو المتوقع إلى حد كبير، وبإعادة قراءة المؤشرات الأساسية لمشروع الميزانية يتضح الآتي:
أولا: بالمقارنة مع توقعات الإنفاق العام المحقق في ميزانية السنة المالية 1436/1435 حدث تراجع جوهري في الإنفاق العام من 1100 مليار ريال في ميزانية السنة المالية الحالية إلى 860 مليارا في ميزانية السنة المالية القادمة، أي بنسبة 21.8 في المائة عن السنة المالية السابقة، ونظرا للتركيبة الهيكلية للاقتصاد السعودي، فإنه من المؤكد حدوث تراجع ملموس في النشاط الاقتصادي بشكل عام، سواء للقطاع العام أو الخاص، ومن المتوقع تراجع معدل النمو عن مساره المتوسط خلال السنوات الماضية بفعل عدة عوامل أهمها انخفاض الإنفاق العام، وانخفاض القيمة المضافة في القطاع النفطي، أهم قطاعات الاقتصاد الوطني، وتراجع القيمة المضافة للقطاع الخاص نتيجة انخفاض الإنفاق الحكومي.
ثانيا: لقد توزعت النسبة الأكبر من هذا الإنفاق على خدمات التعليم (217 مليار ريال)، أي بنسبة 25.2 في المائة من إجمالي الإنفاق العام، مقارنة بنسبة 24.6 في المائة في السنة المالية الماضية، والإنفاق على قطاع الصحة، حيث بلغت مخصصات المملكة لتغطية الخدمات الصحية في السنة المالية القادمة 160 مليار ريال، أي بنسبة 18.6 في المائة من الإنفاق العام، مقارنة بنسبة 12.6 في المائة في ميزانية السنة المالية الحالية، وهو ما يعني أن نسبة ما ستنفقه المملكة على التعليم والصحة تمثل نحو 43.2 في المائة من إجمالي الإنفاق العام للسنة المالية القادمة، الأمر الذي يعكس خطورة هيكل الإنفاق العام السعودي، الذي يتركز الجانب الأكبر منه في الإنفاق الجاري حاليا، وعلى بنود يصعب المساس بها أو تخفيضها إذا مالت الإيرادات العامة للدولة نحو التراجع، ومن ثم تكون النتيجة الحتمية لهذا الهيكل هي مخاطر تراجع الإنفاق الاستثماري الضروري للنمو مع تراجع الإيرادات العامة، ولعل التجربة السابقة تقدم الدليل العملي على ذلك.
فخلال الفترة من 1973 حتى 1985 بلغت نسبة الإنفاق الاستثماري العام إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو 22 في المائة في المتوسط، وهي نسبة مرتفعة، غير أنه بدءًا من منتصف التسعينيات ومع تزايد ضغوط تراجع الإيرادات النفطية بلغت نسبة الإنفاق الاستثماري العام إلى الناتج المحلي الإجمالي مستويات متدنية للغاية، لدرجة أنه في عام 1997 بلغت نسبة الإنفاق الاستثماري العام إلى الناتج المحلي أقل من نصف في المائة.
ثالثا: فيما يخص الإيرادات العامة، فقد تراجعت الإيرادات المتوقعة 1046 مليار ريال في ميزانية السنة المالية الحالية إلى 715 مليار ريال في ميزانية السنة المالية القادمة، وهو ما يعني تراجع الإيرادات العامة بنسبة 31.6 في المائة، الذي يعكس بالدرجة الأولى التطورات الحادثة في السوق العالمي للنفط الخام، وما لها من انعكاسات سلبية على مستويات الإيرادات المتوقعة للدول النفطية في الوقت الحالي. غير أنه يبرز إلى السطح مرة أخرى المخاطر الحقيقية لاستمرار الوضع الحالي للميزانية في اعتمادها شبه الأساسي على إيرادات النفط، التي شكلت نحو 90 في المائة من الإيرادات المتوقعة في الميزانية السابقة.
رابعا: أن أهم التطورات في الميزانية الجديدة هو عودة العجز مرة أخرى للميزانية السعودية، وهو ما يبرز حقيقة هشاشة الوضع المالي السعودي، الذي يمكن أن ينقلب في أي لحظة ولعوامل لا يستطيع صانع السياسة الاقتصادية أن يتحكم فيها، وهنا مكمن الخطر. فوفقا لتقديرات السنة المالية المقبلة، فإن العجز المتوقع في الميزانية السعودية سوف يصل إلى 145 مليار ريال، أي ما يعادل أكثر من 38 مليار دولار أمريكي، وكنسبة من الناتج المحلي الإجمالي المقدر عن السنة المالية 1436/1435 والبالغ نحو 2822 مليار ريال، فإن عجز الميزانية للسنة المالية القادمة يمثل 5.1 في المائة من الناتج المحلي، وهي نسبة مرتفعة جدا، حيث من المفترض نظريا لاستدامة الأوضاع المالية للدولة ألا يزيد عجز الميزانية إلى الناتج المحلي الإجمالي على 3 في المائة.
خامسا: لقد تضمن بيان وزارة المالية إشارة مهمة إلى استمرار تراجع الدين العام السعودي إلى أدنى مستوياته هذا العام، حيث بلغ 44.3 مليار ريال، وهو ما يضع السعودية على رأس قائمة أقل الدول المدينة في العالم، غير أنه إذا ما تحققت السيناريوهات المفترضة في الميزانية فستبدأ المملكة من العام القادم بالسحب من احتياطياتها، التي تراكمت خلال السنوات الماضية، أو العودة للاقتراض مرة أخرى، أي أن هذا المسار للدين العام ربما ينعكس في السنة المالية القادمة، وذلك بفعل العجز الكبير المتوقع في الميزانية وهو تطور خطير، حيث يبلغ العجز المتوقع 241 في المائة من الدين القائم على المملكة في هذه السنة، وبمعنى آخر، لو تصورنا اقتراض المملكة لتمويل هذا العجز، فإن الدين العام سيرتفع بنسبة تتجاوز 250 في المائة، أخذا في الاعتبار أنه لو استمر سعر النفط على ما هو متوقع في الميزانية، فإن العجز المحقق سيكون أكبر من العجز المعلن، نظرا لاحتمال تزايد الإنفاق الفعلي عن المستوى المخطط.
مما لا شك فيه أنه رغم متانة الوضع المالي للمملكة حاليا، فإن هذه المؤشرات للميزانية القادمة تعكس مدى ضعف استدامة أوضاع المالية العامة للمملكة، طالما ظلت الميزانية العامة تعتمد في النهاية على التطورات الحادثة في سوق النفط الخام، ولا يجب أن ننسى أبدا أنه قبل الارتفاع الأخير في أسعار النفط الخام كانت المملكة تعد واحدة من أكبر الدول المدينة في العالم، حيث تجاوز الدين العام السعودي الناتج المحلي الإجمالي في عام 1993، ليصل إلى 109 في المائة تقريبا، وهو من أعلى المعدلات المسجلة في العالم في هذا العام.
إن الصدمة المالية الحالية التي تتعرض لها المالية العامة تؤكد حتمية الإصلاح المالي لإعادة هيكلة المالية العامة والعمل على تنويع هيكل الإيرادات فيها بعيدا عن النفط، كما أن الأمر يتطلب ضرورة السيطرة على النمو في الإنفاق الجاري على المدى الطويل، وهذا لن يتم قبل أن تفكر المملكة في الحد من دور الحكومة في الاقتصاد المحلي، وأن تبحث بجدية في إعادة رسم الدور الذي تقوم به الدولة في النشاط الاقتصادي، بحيث يتم تقليص من ذلك الدور إلى أدنى مستوى وإفساح المجال بشكل أكبر للقطاع الخاص لأن يلعب الدور الأساسي في عملية إنتاج وتقديم السلع والخدمات العامة وتوظيف قوة العمل الوطنية، حتى يمكن السيطرة على الإنفاق العام.
بصفة خاصة لا بد من مراجعة شاملة للنفقات المخصصة للدعم بأشكاله كافة، الذي يستهلك جانبا كبيرا من الإنفاق العام حاليا، حيث لا يحقق الهيكل الأساسي للدعم الحالي ولا طريقة توزيعه الأهداف الأساسية، التي تسعى الدولة إلى تحقيقها لرفع مستويات الرفاه للفرد، حيث يقدم الدعم في معظم أشكاله لجميع المستهلكين بغض النظر عن مستويات دخولهم أو درجة استحقاقهم للدعم المقدم من قبل الدولة، وهو ما يخل بمبدأ العدالة في توزيع الإنفاق على الدعم بين مختلف الفئات الدخيلة في المجتمع. كذلك لا بد من العمل على رفع كفاءة الإنفاق العام ورفع كفاءة الإدارة المالية للدولة في ترشيد ذلك الإنفاق ووضع معايير أكثر صرامة في مراقبة أوجه الهدر المختلفة في الإنفاق والعمل على الحد منها.
على الجانب الآخر، إن الدولة لا بد أن تبحث بجدية عن مصادر بديلة للإيرادات النفطية تتسم بقدر أكبر من الاستقرار النسبي، بحيث تتسع قاعدة مصادر الإيرادات العامة للدولة بما يساعد على تحقيق قدر أكبر من الاستقرار في المالية العامة للدولة، ويضمن استدامتها على المدى الطويل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق