يتعرض الاقتصاد الروسي منذ فترة لصدمات متتالية كان أخطرها صدمة تراجع أسعار النفط في الفترة الأخيرة، التي على أثرها ساءت أوضاع الاقتصاد الروسي على نحو كبير مما أدى إلى تراجع قيمة العملة بصورة كبيرة تتشابه مع ما حدث في 1998. في نهاية عام 2013 بلغ معدل صرف الروبل 33 روبلا لكل دولار تقريبا، اليوم وحتى وقت كتابة هذا المقال، بلغ معدل صرف الروبل 54 روبلا لكل دولار، وهو ما يمثل تراجعا في قيمة الروبل بنسبة 64 في المائة، الذي يعد أسوأ تراجع مر به الروبل أمام الدولار منذ أواخر التسعينيات في القرن الماضي، وثاني أسوأ أداء لعملة في العالم لهذا العام بعد العملة الأوكرانية.
بهذا الشكل تجتمع على روسيا عدة عوامل تعمل جميعها في اتجاه واحد وهو الضغط على اقتصادها وعملتها ومعدل نموها، فالاقتصاد الروسي محاصر اقتصاديا، بينما تتراجع أسعار النفط، مصدر الدخل الرئيس لروسيا، وفي الوقت ذاته تتراجع الثقة بالاقتصاد الروسي، وتهرب منه رؤوس الأموال الخاصة، وتتآكل احتياطياته على نحو مقلق، وبالشكل الذي يرفع من مخاطر انهيار الاقتصاد الروسي، كل ذلك بهدف إجبار روسيا على الانسحاب من أوكرانيا.
روسيا تواجه اليوم أزمة ما يطلق عليه معضلة الاقتصاد الناشئ، الذي يعتمد في الأساس على سلعة واحدة أو مجموعة قليلة من السلع التي تشكل مصدر إيراداته الرئيسة، والذي يتعرض من وقت لآخر لموجات عنيفة من هروب لرؤوس الأموال عندما ترتفع المخاطر المحيطة بعملته، والتي تؤدي إلى تآكل احتياطياته الدولارية الأمر الذي يزيد من الضغوط نحو تراجع عملته مع تزايد الطلب على الدولار لتمويل عمليات خروج رؤوس الأموال بأشكالها المختلفة إلى الخارج، وقد قدرت عمليات هروب رؤوس الأموال في عام 2014 بنحو 134 مليار دولار، في الوقت الذي يتوقع أن تصل فيه عمليات هروب رؤوس الأموال إلى 120 مليار دولار في 2015.
في حالات تراجع قيمة العملة على نحو كبير تلجأ المصارف المركزية إلى التدخل المباشر في سوق النقد الأجنبي لبيع العملات الأجنبية وشراء العملة المحلية، حتى تؤدي عمليات البيع إلى زيادة الطلب على العملة المحلية فترتقع قيمتها في سوق الصرف الأجنبي وتقل بالتالي الضغوط على معدل الصرف نحو التراجع. غير أنه في الحالات الحادة، مثل الحالة الروسية فإن عمليات التدخل في سوق النقد الأجنبي غالبا ما تكون ذات أثر محدود جدا وغالبا لفترة زمنية قصيرة، حيث ينعكس اتجاه معدل صرف العملة نحو المزيد من التراجع بسرعة كبيرة. في بعض حالات تدخل البنك المركزي الروسي كان معدل صرف الدولار يتراجع بعد عمليات التدخل مباشرة، غير أنه يعاود الارتفاع مرة أخرى خلال دقائق، لأن السوق في هذه الحالة تكون جائعة للعملات الأجنبية، على الرغم من أن التدخل المكثف للمصرف المركزي في سوق الصرف الأجنبي من المفترض أنه يرسل رسالة طمأنينة للمتعاملين بأن المصرف المركزي يقف خلف عملته ومستعد للدفاع عنها بأي ثمن.
غير أنه عندما تكون التوقعات تشاؤمية، فإن عمليات التدخل تزيد من درجة الذعر بين المتعاملين في سوق النقد الأجنبي، وتغذي الطلب على العملات الأجنبية لأغراض التحويل أو لأغراض التخلص من العملة المحلية، أو لأغراض المضاربة، والنتيجة المباشرة لهذه الاتجاهات في سوق النقد الأجنبي هي استنزاف رصيد الدولة من العملات الأجنبية، وهو ما يزيد الأوضاع سوءا ويضع العملة المحلية على شفا الانهيار.
عندما تفشل عمليات التدخل المباشر في سوق الصرف الأجنبي للدفاع عن العملة المحلية من خلال استخدام الاحتياطيات، تلجأ المصارف المركزية إلى استخدام أدوات السياسة النقدية لتعزيز الطلب على العملة وللحيلولة دون انخفاض قيمتها مقابل العملات الأجنبية، وهو ما قام به المصرف المركزي الروسي بالفعل عندما قرر تخفيف حدة التدخل في سوق النقد الأجنبي للدفاع عن الروبل من الانهيار، ورفع معدل الفائدة من 10.5 إلى 17 في المائة مرة واحدة، وهو رفع غير اعتيادي لمعدلات الفائدة، وقد أشار المصرف المركزي الروسي في بيانه عن رفع معدل الفائدة إلى أن هذا التدخل جاء في ضوء الحاجة للحد من مخاطر استمرار تراجع الروبل وارتفاع معدلات التضخم، التي تزايدت بصورة واضحة في الفترة الأخيرة.
نظر المراقبون لرفع معدل الفائدة بنسبة 6.5 في المائة دفعة واحدة على أنه يؤكد حرص روسيا على استخدام جميع الأدوات للدفاع عن عملتها، غير أن رفع معدلات الفائدة في أوقات تراجع النشاط الاقتصادي لوقف هبوط قيمة العملة المحلية ربما يكون سياسة خاطئة على المدى الطويل، صحيح أنها يمكن أن توقف تراجع الروبل، ولكن تدهور الأداء الاقتصادي الناتج عن ارتفاع معدلات الفائدة سينعكس سلبا لاحقا على قيمة الروبل من خلال الآثار السلبية لرفع معدلات الفائدة على النمو الاقتصادي ومن ثم الميزان التجاري. كما أن عملية رفع معدلات الفائدة سيصاحبها بالطبع ضغوط انكماشية واسعة، التي من المحتمل أن تمتد إلى الدول الناشئة في أوروبا الشرقية، وكذلك إلى منطقة اليورو، ووفقا لما أعلنه المصرف المركزي الروسي، يتوقع أن يتراجع النمو في الناتج ما بين 4.5 و 4.7 في المائة إذا ما استمرت أسعار النفط عند مستوى 60 دولارا للبرميل في العام المقبل.
تراجع قيمة الروبل له آثار سلبية على روسيا، حيث يؤثر سلبا في القيمة الحقيقية لدخول الناس ويسهم في تغذية التضخم دون أن يساعد على تحسين الميزان التجاري لروسيا نظرا لأن الجانب الأكبر من صادراتها لا يسعر بالروبل، وإنما يباع بالدولار الأمريكي. كما لم يقتصر التراجع على العملة الروسية، وإنما انتقلت الضغوط إلى جارتها بيلاروسيا، نظرا للاعتماد الكبير للاقتصاد البيلاروسي على الاقتصاد الروسي، وهو ما أدى إلى تراجع عملة الأولى "الروبل البيلاروسي"، من ناحية أخرى يترتب على تراجع الروبل ارتفاع أسعار الصادرات الأوروبية إلى روسيا وانخفاض هذه الصادرات مما يؤثر في التعافي الاقتصادي لكثير من الدول ذات الروابط التجارية القوية مع روسيا.
في إجراء غريب للتعامل مع هذا الوضع أصدرت الحكومة في بيلاروسيا قرارا بفرض رسوم 30 في المائة على عمليات شراء العملات الأجنبية، وهو ما يعني ضمنا خفض الروبل البيلاروسي بمعدلات مماثلة، أو ربما أكثر بالنسبة للمتعاملين في النقد الأجنبي. مرة أخرى فإن الهدف الأساسي من القرار هو وقف التراجع في قيمة العملة وتخفيف الطلب على العملات الأجنبية، لكن ما يحدث عادة في ظل هذه الظروف هو تغذية التوقعات التشاؤمية وزيادة الطلب على النقد الأجنبي، وهو ما يجري بالضبط في بيلاروسيا حاليا، حيث تتزايد عمليات شراء السلع الاستهلاكية، خصوصا المعمرة منها، وبصفة خاصة المستوردة من الخارج، وهو ما يحدث الأثر الموازي نفسه لزيادة الطلب على العملات الأجنبية.
في خطوة أخرى للتعامل مع الموقف طلب المصرف المركزي الروسي من الشركات المصدرة الكبرى والمملوكة للدولة أن تقوم ببيع احتياطياتها من النقد الأجنبي في محاولة لإنقاذ الروبل، ولذلك اجتمعت الشركات الكبرى الخمس والتزمت ببيع احتياطياتها من النقد الأجنبي بدءا من آذار (مارس) القادم، على أن تبلغ المصرف المركزي بتقرير أسبوعي عن أرصدتها من النقد الأجنبي، وهو ما يعد إشراكا إجباريا لمؤسسات تجارية في تطبيق السياسة النقدية الخاصة بالمصرف المركزي للحفاظ على قيمة العملة، وهي خطوة غريبة بعض الشيء، لكن في الأوقات العصيبة من المتوقع من النظم الشمولية أن تتخذ إجراءات استثنائية ليس شرطا أن تطبقها الدولة بمفردها، وإنما قد يطبقها الجميع.
خلاصة الأمر، أن الضغوط الاقتصادية التي يمارسها الغرب على روسيا، أسهمت بالفعل في الإضرار بالاقتصاد الروسي على نحو كبير، وتسببت في انهيار عملته وارتفاع المخاطر المحيطة بالاستثمار في روسيا حاليا، فضلا عن تأثيرها السلبي في آفاق النمو المستقبلي فيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق