فاجأت الصين العالم في الأسبوع الماضي بعودتها لسياسات التحفيز النقدي من خلال قناة معدل الفائدة، حيث أعلن بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) عن تعديل مزدوج لمعدلات الفائدة على الإقراض وعلى المودعات، فقد تم خفض معدلات الفائدة على القروض لمدة عام بنسبة 0.4 في المائة، من 6 في المائة إلى 5.6 في المائة، أما معدلات الفائدة على الودائع فقد تم تخفيضها بنسبة 0.25 في المائة من 3 في المائة إلى 2.75 في المائة، مع منح المصارف حرية أكبر في تحديد معدلات الفائدة على المودعات لديها، بحيث يصل معدل الفائدة 1.2 ضعف المعدل المرجعي، بدلا من 1.1 ضعف، وهو ما يعني رفع معدلات الفائدة على الودائع بنسبة 20 في المائة فوق المعدل المرجعي، مقارنة بنسبة 10 في المائة، وعلى النحو الذي يسمح للمصارف بمضاعفة الهامش الذي تمنحه على الودائع فوق معدل الفائدة المرجعي، وتهدف الخطوة إلى زيادة قدرة المصارف على جذب الودائع، ومن ثم زيادة قدرتها على منح الائتمان.
غير أنه من الواضح أن البنك المركزي لا يعتقد أن هناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات نقدية حادة للتعامل مع النمو المتراجع في الوقت الحالي، مثل إعطاء جرعة مكثفة من التيسير الكمي للاقتصاد الصيني، خصوصا أن هناك مخاوف من ارتفاع معدل التضخم الذي قد يصاحب ذلك بما له من آثار سلبية في النمو. كما أن الصين لا تستطيع حاليا استخدام السياسة المالية في تحفيز النمو الاقتصادي من خلال رفع مستويات الإنفاق العام لمواجهة هذا التراجع في النمو، ومن ثم تحقيق عجز مالي، وذلك نظرا لتزايد مستويات الدين العام كنسبة من الناتج في الصين إلى معدلات حرجة للغاية، حيث يقدر الدين العام حاليا بأكثر من 250 في المائة من الناتج.
يرجع السبب الأساسي وراء هذا التعديل في السياسات النقدية للصين إلى آخر اتجاهات النمو المحقق في هذا العام، حيث أخذ النمو في الاقتصاد الصيني أخيرا في التراجع على النحو الذي لم تعد تتحقق فيه معدلات النمو المستهدف، التي من المفترض أن تدور حول 7.5 في المائة. فقد أشارت بيانات معدل النمو في الربع الثالث من هذا العام إلى تحقيق الصين معدل نمو سنوي 7.3 في المائة، وهو من أقل معدلات النمو التي حققتها الصين خلال السنوات الخمس الماضية، كما أنها المرة الأولى التي لا تتحقق فيها معدلات النمو المستهدف في الصين منذ 1998، عندما انطلقت الأزمة الآسيوية تقريبا، ويعود هذا التراجع في النمو في جانب منه إلى الركود في سوق العقارات الذي يعاني تخمة في العرض في الوقت الحالي، وانخفاض مستويات الإنتاج الصناعي وضعف مستويات الطلب المحلي بشكل عام.
من ناحية أخرى فإن الصين بدأت اليوم تعاني الأعراض الكلاسيكية للاقتصاد المفتوح، عندما يتراجع الطلب العالمي على صادراتها، فصادرات الصين تتركز في الدول الأوروبية والولايات المتحدة واليابان، وهذه الدول حاليا تواجه تراجعا في الطلب على وارداتها نظرا لتواضع معدلات النمو فيها، الأمر الذي ينعكس على نمو الطلب الكلي في الصين.
من المفترض أن يترتب على هذه الخطوة تراجع تكلفة الائتمان في الصين وتزايد عمليات الاقتراض بكافة أشكاله، الأمر الذي يساعد على استرداد معدلات النمو لمستوياتها المستهدفة مرة أخرى، غير أنه من الواضح أن ذلك سوف يكون مصحوبا بموجات تضخمية ناجمة عن ارتفاع مستويات الطلب الكلي المصاحب لانخفاض معدلات الفائدة، وإن كان صافي الأثر على التضخم سوف يعتمد على اتجاهات النمو في الناتج الصيني مقابل اتجاهات النمو في الإنفاق.
ولكن لماذا هذا القلق الصيني حول معدلات النمو هذه؟ إن كافة الاقتصاديات في العالم، سواء كانت الصناعية أو النامية، تحلم بتحقيق معدلات للنمو أقل بكثير من هذه المعدلات، على سبيل المثال فإن معدلات النمو التي يحققها الاقتصاد الأمريكي، والتي ينظر إليها على أنها تمثل تطورا مهما في استدامة الانتعاش الاقتصادي، تدور حول نصف هذه المعدلات تقريبا، بل إن أوروبا تحلم اليوم بأن ترتفع معدلات نموها الاقتصادي نحو دائرة الـ 2 في المائة، ولا تتمكن من تحقيق ذلك، فلماذا ينزعج صانع السياسة الاقتصادية الصيني من هذه المعدلات العالية جدا للنمو؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تكمن في أن الاقتصاد الصيني يختلف عن بقية الاقتصادات في العالم في أنه لا يمكن أن يعمل سوى بحد أدنى لمعدل النمو، دعونا للتبسيط، نطلق عليه معدل النمو الحرج، والذي أعرفه هنا على أنه الحد الأدنى من معدلات النمو اللازم لإيجاد عدد كاف من الوظائف التي يمكن أن تستوعب النمو في قوة العمل، وعلى النحو الذي لا ترتفع معه معدلات البطالة.
المشكلة الأساسية للصين تتمثل في الحجم الضخم جدا للسكان، ومن ثم قوة العمل، فمع ارتفاع أعداد السكان ترتفع سنويا أعداد الداخلين الجدد إلى سوق العمل والمتخرجين من كافة قنوات التعليم والتدريب المختلفة. من ناحية أخرى فإن الصين إضافة إلى ارتفاع معدلات النمو في أعداد قوة العمل نتيجة ارتفاع معدلات النمو السكاني، تواجه مشكلة أخطر تتمثل في ارتفاع معدلات الهجرة من الريف إلى المدن، سعيا وراء وظائف ودخول أفضل، ومستويات أحسن للمعيشة، وهو ما يؤدي إلى تكدس أسواق العمل الحضري بالعمال الباحثين عن وظائف، الأمر الذي يستدعي ضرورة العمل على توفير وظائف لهذه الأعداد المهاجرة من السكان.
معنى ذلك أن الصين في حاجة إلى توفير عدد هائل من الوظائف سنويا في قطاعاتها الاقتصادية المختلفة، يقدر بنحو عشرة ملايين وظيفة جديدة سنويا لمواجهة النمو في قوة العمل الصينية، ولا شك أن هذه المهمة تستدعي أن يكون الطلب الكلي عند مستويات مرتفعة للغاية، وهذا هو الفرق بين الصين والدول الأخرى في العالم. إذ يواجه صانع السياسة في الصين مشكلة لا يواجهها مثيله في باقي دول العالم الصناعي.
حاليا يقدر هذا المعدل الحرج للنمو بنحو 7.2 في المائة، الذي يمثل الحد الأدنى الذي ينبغي أن تحافظ الصين على تحقيقه سنويا حتى لا ترتفع معدلات البطالة في سوق العمل الصيني. عندما تنخفض معدلات النمو عن هذا المعدل الحرج، فإن البطالة سوف ترتفع. وعلى ذلك، تأتي بيانات النمو لتشير إلى تحقيق الاقتصاد الصيني لمعدلات نمو 7.3 في المائة، فإن ذلك يعني أن الصين قد اقتربت من هذا المعدل الحرج، الذي لا تستطيع العمل بمعدلات نمو أقل منه.
تجدر الإشارة إلى أن هذا التراجع في معدلات النمو الصيني يحمل أخبارا سيئة ليس فقط للصين، وإنما أيضا للاقتصاد العالمي، فالصين هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم بمستويات الناتج الحقيقي، وأكبر اقتصادات العالم بتعادل القوة الشرائية، ولهذا السبب تلعب الصين دورا أساسيا في النمو العالمي من خلال دورها المحوري في التجارة العالمية، باعتبارها أكبر مصدر للسلع في العالم، وأكبر مستورد للمواد الأولية في العالم، وأكبر دولة تحقق فوائض تجارية في العالم. ومن ثم فإن اتجاهات الطلب الكلي في الصين تؤثر بصورة جوهرية في الإنفاق على المستوى العالمي، بل إنه منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية، ينظر إلى الاقتصاد الصيني على أنه محرك النمو في النشاط الاقتصادي العالمي، وهي العبارة التي كانت دائما تطلق على الاقتصاد الأمريكي.
اليوم يحدث نوع ما من تبادل الأدوار بين الاقتصاد الصيني والاقتصاد الأمريكي، فبفضل سياساته المتسقة والجريئة، والخطوات المستدامة في مجالي السياسة النقدية والمالية فإن أهم اقتصاد يحقق نموا ثابتا في العالم الصناعي هو الاقتصاد الأمريكي، الذي من الواضح أنه أخذ في استرداد مكانته الكلاسيكية كمحرك النمو في الاقتصاد العالمي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق