حملت بيانات الربع الثالث من هذا العام الكثير من الإشارات السلبية حول اتجاهات النمو في معظم جوانب الاقتصاد العالمي تقريبا، فقد بلغ معدل النمو في الربع الثالث 2014 في الاتحاد الأوروبي (28 دولة) 0.3 في المائة، فقط بينما اقتصر معدل النمو في منطقة اليورو (18 دولة) على 0.2 في المائة. وبالنسبة لأهم اقتصادات منطقة اليورو فقد اقتصر معدل النمو في ألمانيا على 0.1 في المائة، وفي فرنسا على 0.3 في المائة، بينما ظل معدل النمو سالبا في إيطاليا، وهي معدلات منخفضة جدا بالنسبة للاقتصادات التي تشكل محور النمو في المنطقة، فضلا عن ارتفاع درجة مساهمتها في النمو الاقتصادي العالمي.
كذلك أظهرت تقارير مكتب الإحصاءات الأوروبي ارتفاع أعداد العاطلين في المنطقة في الشهر الماضي وهو ما أبقى معدلات البطالة عند 11.5 في المائة للشهر الثالث على التوالي.
يوما بعد يوم تتأكد التكهنات بأن أوروبا اليوم على عتبة فقدانها عقدا كاملا من النمو الاقتصادي، في ظل ضعف قدرتها على اتخاذ خطوات فعالة لرفع مستويات الطلب الكلي وتعزيز استدامة مستويات النشاط الاقتصادي المرتفع، ويعتقد الكثير من المراقبين اليوم أن عقد أوروبا الضائع أصبح حقيقة، وليس مجرد جدل نظري.
كذلك استمر معدل النمو في اليابان في التراجع للربع الثاني على التوالي إلى 1.6 في المائة نتيجة فرض الضريبة الجديدة للمبيعات، الأمر الذي دعا إلى تأجيل تطبيق المرحلة الثانية منها، وتبني البنك المركزي الياباني سياسة نقدية جديدة لتحفيز النشاط الاقتصادي.
لم يقتصر التراجع في النمو على الدول الصناعية المتقدمة، وإنما امتد أيضا إلى أهم الاقتصادات الناشئة في العالم، فقد تراجع معدل النمو في الصين إلى 7.3 في المائة في الربع الثالث من هذا العام وذلك مقارنة بـ 7.5 في المائة في الربع الثاني، حيث ظل ركود قطاع المساكن يمثل ضغطا واضحا على ضعف أداء الاقتصاد الصيني، وهو ما دعا البنك المركزي الصيني إلى إقرار خفض مزدوج لمعدلات الفائدة على القروض والودائع لتنشيط عمليات الإقراض وتحفيز النشاط الاقتصادي.
من ناحية أخرى، قد تراجع معدل النمو في الهند في الربع الثالث من العام إلى 5.3 في المائة، وذلك مقارنة بمعدل 5.7 في المائة في الربع الثاني، هذا وقد كانت الهند تحقق معدلا للنمو في حدود 8 في المائة خلال عقد من الزمان تقريبا منذ 2003، الأمر الذي عزز الدور الذي يلعبه الاقتصاد الهندي في العالم.
وعلى الرغم من أن البرازيل، أكبر اقتصادات أمريكا اللاتينية، قد خرجت رسميا من الكساد في الربع الثالث من هذا العام إلا أن النمو كان ضعيفا، حيث اقتصر على 0.1 في المائة، وهو أقل بكثير مما كان متوقعا، كما أن المراقبين يرون أنه ما زال هناك توقع بأن يستمر الركود في البرازيل.
على الجانب الآخر، فإنه من المتوقع أن يترتب على تراجع أسعار النفط تراجع معدلات النمو في الدول النفطية مع ميل هذه الدول الى تبني برامج تقشفية هذا العام والأعوام القادمة لمواجهة تراجع إيراداتها العامة التي تعتمد بشكل أساسي على مبيعات النفط الخام.
أكثر من ذلك، فقد أظهرت التقارير أن بيانات الإنتاج الصناعي تشير إلى تراجع النمو في هذا القطاع الحيوي في العالم، فقد أشار آخر تقرير عن نمو الإنتاج الصناعي في منطقة اليورو إلى تراجع نمو الإنتاج الصناعي في المنطقة بنسبة 0.4 في المائة، في الوقت الذي تراجع فيه هذا النمو في الاتحاد الأوروبي بنسبة 0.5 في المائة. من ناحية أخرى، أشارت التقارير إلى أنه على الرغم من قيام الصين بخفض معدلات الفائدة في الشهر الماضي إلا أن الإنتاج الصناعي في نوفمبر قد تراجع، كما أن مؤشرات مديري المشتريات في القطاع الصناعي تراجعت في الصين إلى أدنى مستوياتها منذ ستة أشهر، حيث بلغ هذا المؤشر 50.3 في نوفمبر، وذلك مقارنة بـ 50.8 في أكتوبر الماضي وفقا لتقارير مجموعة Markit. كذلك تشير تقديرات بنك إتش إس بي سي، حول المؤشر نفسه إلى تراجع قيمة مؤشر مدير المشتريات في القطاع الصناعي في الصين إلى 50، أي إلى الحد الفاصل بين النمو والانحسار في القطاع. الأمر الذي يعكس تراجع الطلب العالمي على المنتجات الصناعية الصينية.
عندما يكون النمو المنخفض في العالم مصحوبا بتراجع معدلات التضخم ولفترة طويلة، فإن ذلك يزيد من مخاطر مصيدة الانكماش السعري Deflation Trap، حيث تؤدي معدلات التضخم المنخفضة إلى ارتفاع مستويات الفائدة الحقيقية، الأمر الذي يؤثر سلبا في الطلب الكلي. أشار أحدث تقارير مكتب الإحصاءات الأوروبي إلى تراجع معدل التضخم في منطقة اليورو مرة أخرى إلى 0.3 في المائة في أكتوبر، بعد أن كان قد ارتفع إلى 0.4 في سبتمبر الماضي. ويعكس هذا التراجع في معدل التضخم تراجع الإنفاق على الطاقة نتيجة انخفاض سعر النفط بشكل أساسي، حيث انخفض الإنفاق على الطاقة بنسبة 2.5 في المائة على أساس سنوي خلال أكتوبر. ويتوقع المراقبون استمرار انخفاض معدل التضخم في المنطقة، بل إن هناك توقعات بأنه ربما يصل إلى صفر في المائة بحلول العام الجديد، وهو ما أدى إلى نمو المخاوف بأن القارة تتجه نحو الكساد السعري. كذلك أظهر تقرير مكتب إحصاءات العمل الأمريكي تراجع معدل التضخم إلى صفر في المائة في أكتوبر الماضي مما أدى إلى تزايد القلق حول تأثيرات تراجع التضخم في النمو. كما انحسر النمو في الأسعار في اليابان أخيرا حيث تراجع ارتفاع الأسعار لأدنى مستوياته خلال عام، ومثل هذه التطورات في الاتجاهات التضخمية تثير الكثير من القلق حول انعكاسات تراجع التضخم على النمو في الدول الصناعية.
لقد كان من المفترض أن يترتب على تراجع أسعار النفط توفير الفرص التي تعزز مستويات النشاط الاقتصادي في الدول الصناعية المستوردة، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فاستفادة منطقة اليورو من تراجع أسعار النفط ربما تكون محدودة بسبب تراجع اليورو أمام الدولار.
من ناحية أخرى، فإن تراجع أسعار النفط، على الرغم من أنه يسهم في تخفيض تكلفة الإنتاج ومن ثم الأسعار على المستوى الدولي، إلا أنه يمثل مشكلة للبنوك المركزية في الدول الصناعية التي تعاني حاليا تراجع مستويات التضخم عن مستوياتها المستهدفة على النحو المشار إليه أعلاه، وبالتالي فإن تراجع أسعار النفط في الوقت الحالي ليس مرحبا به، لأنه يعقد مشكلة البنوك المركزية في العالم التي تحتاج إلى رفع معدلات التضخم لا خفضها، الأمر الذي يدعو البنوك المركزية إلى تكثيف سياساتها النقدية التوسعية لمحاولة رفع معدلات التضخم في الأسعار، وبالتالي تحييد الأثر الصافي لتراجع أسعار النفط في النمو في هذه الدول.
في مقابل هذه التطورات في الدول الصناعية خارج الولايات المتحدة وفي الدول الناشئة في العالم، فإن تطورات الاقتصاد الأمريكي تعزز فرص النمو المستدام في ظل تراجع معدلات البطالة على النحو الذي يوحي بأن الاقتصاد الأمريكي قد خرج بالفعل من الكساد، الذي من المفترض أن ينعكس بصورة إيجابية على هذه الدول، التي تمثل شركاء الولايات المتحدة في التجارة، لكن الخطر الحالي يكمن في احتمال أن يؤثر الاقتصاد الضعيف في أوروبا واليابان والصين وباقي الدول الناشئة بشكل سلبي في الاقتصاد الأمريكي، الذي من المفترض في ظل هذه التطورات أن يلعب دور محرك النمو في العالم، الأمر الذي ترتد آثاره مرة أخرى سلبا على هذه الدول وعلى النمو في الاقتصاد العالمي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق