شهد العقد الأخير تطورا ملحوظا في هيكل مراكز الثقل الاقتصادي في العالم بتحول جانب مهم من القوة الاقتصادية في العالم نحو الشرق، حيث احتلت الصين المركز الثاني كأكبر اقتصاد في العالم، وعندما انتشرت الأزمة الاقتصادية العالمية تعددت مداخل التعامل مع الأزمة بين أقطاب العالم، وهو ما ترتب عليه تحقيق نتائج متباينة في دفع النشاط الاقتصادي بعيدا عن حالة الكساد الكبير الذي ضرب العالم.
مركز صناعة الأزمات الاقتصادية الكبرى في العالم، وهي الولايات المتحدة، اتبعت سياسات متسقة منذ البداية، بعضها في الجانب المالي، والبعض الآخر في الجانب النقدي، وابتكرت ما ابتكرته من وسائل غير تقليدية للتعامل مع الأزمة، وظلت جهودها في مكافحتها تتسم بالثبات والاستدامة، حتى تمكنت بالفعل من تحسين أوضاعها الاقتصادية على نحو واضح، وعلى ما يبدو أنها فقط تتحين الوقت المناسب لإيقاف ما تتبعه من استراتيجيات لإنهاء حالة التوسع الاقتصادي المصطنع، والدخول في حالة دفع النمو الذاتي لاقتصادها الكبير.
أوروبا من جانب آخر تشكل كيانا غير منتظم وغير متسق في سياساته وخصائصه، ونادرا ما اتبعت سياسة موحدة في التعامل مع مشكلات القارة، بصفة خاصة منطقة اليورو، حيث تتعدد بؤر القلق على نحو واضح اليوم، والتي سيظل بعضها يطفو على السطح من وقت لآخر مهما حاولت أن تعالج مواطن الخلل فيها مثل الحالة اليونانية.
على الجانب الآخر الصين تحصد اليوم ثمار النمو المنفلت، والاستثمارات الضخمة غير الكفؤة أو غير المجدية، وبطء القرار في تحويل استراتيجيات النمو التي بنت عليها اقتصادها الضخم لعقود، ومن الواضح أن الصين ستضع العالم هي الأخرى على سطح ساخن في المستقبل. فلقد أصبح حجم الاقتصاد الصيني أكبر من أن يهمل العالم ما يحدث فيه من تطورات إيجابية أو سلبية، ومثلما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة، تلعب مؤشرات الاقتصاد الصيني دورا مهما في تحديد اتجاه التوقعات حول النمو الاقتصادي في العالم.
لم يمض وقت طويل على قرار الحكومة المفاجئ بتخفيض قيمة الرينمنبي الصيني في محاولة لدفع النمو الاقتصادي المتراجع، حتى انتقلت شرارته إلى سوق الأوراق المالية في شنغهاي، فقد تسبب تزايد القلق حول أوضاع النمو في موجة بيع كبيرة أدت إلى تراجع مؤشر الأسهم بنسبة 8.56 في المائة يوم الإثنين الماضي، وقد تراجع نحو ألفي سهم بنسبة 10 في المائة أي الحد الأقصى المفروض حول تراجع سعر السهم الواحد في السوق، وهو الأمر الذي تسبب في موجة ذعر حول الوضع الاقتصادي للصين، تبعته موجة تراجع في كل أسواق العالم، لدرجة أنه أطلق على هذا اليوم "يوم الإثنين الأسود".
استجابة لانهيار البورصة في الصين حدثت أكبر موجة تراجعات في أوروبا منذ الأزمة المالية العالمية، كما تراجعت مؤشرات الأسهم الأمريكية واليابانية والآسيوية، وباقي الدول النامية في العالم. باختصار لم يسلم سوق للأوراق المالية من آثار التراجع. مع الأسف استمرت أسعار الأسهم في التراجع في اليوم الثاني عندما تراجعت الأسهم الصينية بنسبة 7.6 في المائة.
لم يقتصر الأثر على أسواق الأسهم بل امتد أيضا إلى سوق السندات الأمريكية والألمانية والتي غالبا ما ينظر إليها على أنها الملاذ الآمن في العالم. كما امتد الأثر للسلع التجارية الرئيسة، بصفة خاصة النفط الذي تراجعت أسعاره بصورة واضحة، حيث فقد برميل برنت نحو 4 في المائة من قيمته، وأصبح اليوم تحت سعر 45 دولارا، بينما انخفض سعر الخام الأمريكي لأقل من 40 دولارا للبرميل، وأصبح من المؤكد أن المالية العامة لدول الخليج ستشهد عجزا قياسيا في هذا العام.
كان من المفترض أن يرتفع سعر الذهب في ظل هذه الأزمة، باعتبار أن الذهب هو معدن الأزمات، غير أن الذهب قد انخفض على عكس ما هو متوقع في ظروف مثل هذه، وقبل هذه الأزمة بأيام كان الذهب قد استرد بعض خسائره خلال أسبوع حيث بلغ سعر الأوقية 1160 دولارا تقريبا. غير أن للصين والذهب علاقة مختلفة منذ عدة سنوات، ذلك أن الصين هي أكبر المستهلكين للذهب، والبنك المركزي من البنوك المركزية القليلة في العالم التي تضيف الذهب إلى احتياطياتها بشكل سنوي، وبالتالي فإن إشارات تراجع الاقتصاد الصيني تعني أساسا تراجع الطلب على الذهب.
كرد فعل لما حدث في السوق أعلن بنك الصين المركزي أن النمو الاقتصادي في الصين ما زال يواجه ضغوطا نحو التراجع، وأن مهمة تثبيت النمو في الصين وإجراء تعديلات مؤسساتية هيكلية واقتراح السبل الملائمة للإصلاح الاقتصادي، لتحسين مستويات معيشة الناس ما زالت تواجه صعوبات كبيرة، وأن الصين تبحث حاليا عن استخدام أدوات أكثر مرونة للسياسة النقدية بهدف إيجاد مناخ مناسب لعمليات إعادة الهيكلة التي تقوم بها الصين حاليا، وعليه فقد قام بنك الصين المركزي بخفض معدل الفائدة الأساسي للإقراض والاقتراض بـ 0.25 في المائة، كما خفض معدل الاحتياطيات المطلوبة من المصارف التجارية بـ 0.5 في المائة إلى 18 في المائة، وكذلك الأمر بالنسبة للمصارف الزراعية، كما أزال معظم الأسقف على ودائع المصارف، والتي هدفت إلى ضخ المزيد من السيولة في المصارف بهدف تحفيزها على الإقراض.
لم تكن هذه المرة هي الأولى التي يتخذ فيها البنك المركزي هذه الإجراءات، فهذه هي المرة الخامسة التي يتم فيها خفض معدلات الفائدة، خلال سنة تقريبا، كما أن هذه هي المرة الثالثة التي يتم فيها خفض معدلات الاحتياطي القانوني في المصارف في 2015، ومع ذلك لم يستجب الاقتصاد، وهو ما يعني أن الصين تحتاج إلى أكثر من مجرد استخدام للأدوات التقليدية للسياسة النقدية بقدر ما تحتاج إلى تحرير قطاعها المالي بصفة أساسية.
ولكن هل ستساعد هذه الإجراءات على استعادة الثقة بالسوق الصينية في الوقت الذي يستمر فيه ضعف الاقتصاد؟ الإجابة هي لا، فالاضطرابات الاقتصادية التي تواجهها الصين ستستمر، وستؤثر بالتبعية في النمو الاقتصادي في كثير من دول العالم، باعتبار أن الصين أحد المستوردين الكبار للسلع التجارية في العالم. أكثر من ذلك فإن المصارف ببساطة لن تقرض طالما استمرت مخاطر عدم الاستقرار الاقتصادي مرتفعة، وستظل مخاطر توقف العملاء عن خدمة ديونهم مرتفعة.
ما سيحدث نتيجة هذه الإجراءات هو ضخ مزيد من السيولة ليزيد الطلب على الأسهم وترتفع بالتالي أسعارها، على النحو الذي يزيد من مخاطر التقلب الشديد في أوضاع سوق الأسهم، فمما لا شك فيه أن سوق الأسهم في الصين قد شهد ارتفاعات كبيرة غير مبررة كان وقودها الأساسي هو السيولة المفرطة التي ترتبت على السياسات النقدية التوسعية التي اتبعها البنك المركزي الصيني فيما سبق، وما زال يتبعها إلى اليوم.
في ظل هذه الأحوال سيظل الخروج من المشكلات الاقتصادية التي تواجهها الصين من الناحية الحقيقية هو الضمانة الأساسية لقيام المصارف بالاستجابة لإجراءات التوسع النقدي التي يقوم بها البنك المركزي الصيني، ولن يحقق ارتفاع هنا أو هناك في مؤشرات الأسواق المالية، العزم اللازم لمواجهة المشكلات الاقتصادية للصين.
إن مشكلات الصين الاقتصادية عميقة، وحل هذه المشكلات لن يتم سوى من خلال خطة طويلة الأجل لإعادة التوازن في الاقتصاد الوطني، والتحول من اقتصاد موجه أساسا نحو الخارج إلى اقتصاد يتجه أساسا نحو الاستهلاك المحلي. فلم يعد التصدير كمحرك للنمو يناسب الاقتصاد الصيني الذي يمثل نحو 15 في المائة من الاقتصاد العالمي في الوقت الحالي، وأعتقد أن على الصين أن تمضي قدما في إصلاحاتها الاقتصادية الهيكلية بشكل أساسي ولا تعطي أوضاع السوق الأولوية الأولى، ذلك أن عملية الإصلاح لها تكلفتها والتي يجب أن تتحملها الصين حتى تصل إلى بر الأمان في ظل وضع اقتصادي جديد، ودور مختلف في التقسيم الدولي للعمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق