مما لا شك فيه أن التطورات في سوق المال هي أحد المؤشرات التي تعكس مدى سلامة أو صحة الأوضاع الاقتصادية في الدولة، بصفة خاصة ينظر إلى سوق الأسهم على أنه المؤشر الحراري لأوضاع الاقتصاد المحلي، وغالبا ما يعقب انهيار البورصات في دولة ما دخول اقتصادها حالة كساد، قد تطول أو تقصر، يعتمد ذلك على عوامل كثيرة أهمها التوقعات التشاؤمية وتأثيرها في قرارات الاستثمار، ومدى ثقة المستهلكين بالاقتصاد، ومدى استعداد الحكومات للتدخل باتخاذ ما يلزم لضمان استمرار نمو الطلب الكلي على النحو الذي يضمن عدم دخول الاقتصاد في حالة الركود.
لعل أحد أهم الدروس القاسية لانهيار البورصات في العالم هو ما حدث في 1929، عندما انهارت سوق نيويورك للأوراق المالية منهية عقودا من الازدهار الاقتصادي الذي عاشته الولايات المتحدة، ليدخل الاقتصاد الأمريكي حالة ركود اقتصادي عميق استمر لفترة طويلة، ولم يخرج منها إلا مع بدايات الحرب العالمية الثانية تقريبا.
اليوم يتكرر المشهد نفسه في الصين، حيث نشهد منذ شهر تقريبا انهيارا في سوق الأسهم الصينية، وتراجع مؤشراته كافة على النحو الذي أثار قلق العالم، وبالفعل بدأ الحديث عن إمكانية تكرار سيناريو الكساد الكبير الذي شهدته الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن الماضي. فهل يؤدي انهيار سوق الأسهم الصينية إلى دخول الصين مرحلة ركود ينهي عقودا من النمو الاقتصادي المرتفع؟ وبمعنى آخر، هل يمكن أن نشهد انهيارا اقتصاديا في الصين نتيجة تدهور أداء سوقها المالية؟
سوق الأسهم الصينية هي سوق موجهة تقريبا، مثلها مثل الاقتصاد الصيني بشكل عام، فالحكومة هي التي تتخذ القرار الخاص بإدراج سهم ما من عدمه، وبالتالي طبيعة الشركات المدرجة في السوق. هذا السلوك من الحكومة الصينية يضع قيودا على توسع البورصة هناك ويجعل الصينيين جوعي للمزيد من الأسهم آخذا في الاعتبار معدلات الادخار المرتفع التي تتميز بها الصين، لذلك بمجرد الإعلان عن إدراج شركة ما، فإن الطلب على أسهمها يتزايد بسرعة الصاروخ نظرا للتوقعات المرتبطة بالعوائد الرأسمالية السوقية التي يمكن تحقيقها من الاستثمار في سهم هذه الشركة.
في بداية 2011 كانت قيمة المؤشر المركب لسوق شنغهاي نحو 2800، ارتفع هذا الرقم في حزيران (يونيو) الماضي إلى أعلى مستوياته؛ 5200 تقريبا. فقد أدت السياسات النقدية المتساهلة إلى تغذية بالون أسعار الأسهم، وذلك من خلال إرخاء القيود على الائتمان وهو ما شجع المستثمرين على شراء الأسهم من خلال الاقتراض، فعمليات المضاربة يتم جانب منها من خلال ما يسمى قروض الهامش، التي كانت تحاربها الحكومة لفترة، لكن إرخاء القيود على هذا النوع من التمويل أدى إلى زيادة تلك القروض من نحو 400 مليار يوان في 2010 إلى 2.3 تريليون يوان في حزيران (يونيو) الماضي، أكثر من ذلك فإن هناك نمطا غير رسمي للتمويل يتم من خلاله إقراض مئات المليارات من اليوان للمستثمرين في الأسهم. أكثر من ذلك فقد سمح للأجانب بالاستثمار في السوق من خلال روابط في سوق هونج كونج.
ويؤدي تحكم الصين في نظامها المالي بشكل عام إلى نفخ بالون السوق، حيث يجد الكثير من المستثمرين أنفسهم غير راغبين في الإيداع في المصارف الصينية حيث تنخفض معدلات الفائدة، ومن ثم فإن أفضل بديل يصبح بالنسبة للكثيرين هو دخول سوق الأسهم والعقارات أو السلع، نظرا لضيق فرص الاستثمار خارجها. ونتيجة لهذه السياسات فقد تضاعفت أسعار الأسهم.
هذا الشهر تراجعت أسعار الأسهم الصينية على نحو غير مسبوق منذ فترة طويلة، لدرجة أن أكثر من 90 في المائة من الأسهم المدرجة في البورصة تم إيقاف التعامل عليها، حيث بلغ معدل الانخفاض في القيمة خلال شهر (يوليو) نحو 3.5 تريليون دولار من القيمة الرأسمالية للسوق، أي ما يزيد على القيمة الرأسمالية لسوق الأسهم الهندية، ولقد أثار انهيار الأسهم الصينية المخاوف حول انعكاسات ذلك على الاقتصاد العالمي، ولذلك تراجعت أسعار السلع الرئيسة مثل النفط والذهب والمعادن الأخرى، وانعكس تأثير التراجع أيضا على أسواق الأسهم في العالم، بصفة خاصة الآسيوية.
منذ بداية تموز (يوليو) والحكومة الصينية تستخدم إجراءات غير مسبوقة بهدف وقف تراجع أسعار الأسهم، تضمنت برنامجا لشراء الأسهم، وإيقاف عمليات الإدراج للأسهم الجديدة في البورصة. كما قام البنك المركزي بزيادة مستويات السيولة المتاحة لشراء الأسهم من خلال خطوط الائتمان التي فتحها البنك المركزي لشركات الأوراق المالية لشراء الأسهم. كما أصدرت الصين أيضا قرارات بمنع من يمتلك 5 في المائة من أسهم أي شركة من بيع أسهمه لمدة ستة أشهر، في محاولة لتخفيض عدد الأسهم المطروحة للبيع وتقليل الضغوط على السوق، ولقد نظر البعض إلى هذه الإجراءات على أنها تمثل مبالغة في التدخل الحكومي في البورصة، باعتبار أن معظم مدخرات الصينيين في المصارف وليس في سوق الأسهم، وهو بالطبع سوء فهم لوظيفة البورصة في الاقتصاد.
لكن هذه الإجراءات الحكومية لم تفلح في إيقاف التراجع في أسعار الأسهم، فقد شهد يوم الإثنين الماضي ثاني أكبر تراجع في تاريخ البورصة الصينية منذ 2007، حيث انخفضت الأسعار بنحو 8.5 في المائة. نظر إلى هذا التراجع على أنه يعد ضربة قاصمة لجهود الحكومة الصينية، والتي أمضت نحو الشهر تحاول الدفاع عن البورصة. فقد تراجع نحو 1700 سهم حتى الحد المسموح به في البورصة وهو 10 في المائة، حيث لا يسمح للأسهم بأن تنخفض أو ترتفع حتى نسبة 10 في المائة، بعدها يتوقف التعامل على السهم بصورة أوتوماتيكية، حتى اليوم التالي.
والآن أعود إلى السؤال الأساسي الذي بدأت به هذا المقال؛ هل ما يحدث حاليا في الصين هو مقدمة لانهيار اقتصادي يمكن أن تتعرض له الصين في الوقت القريب؟
لا أعتقد أن الأوضاع الاقتصادية في الصين على هذا القدر من السوء، كما أن أوجه التشابه بين انهيار سوق شنغهاي حاليا وانهيار سوق نيويورك في 1929 ضعيفة. فالحكومة الصينية تراقب من كثب حالة الاقتصاد الصيني وسوق أسهمه، وتتدخل بشكل مكثف لإعادة الأوضاع إلى نصابها، كما تتخذ من الإجراءات ما يلزم لطمأنة المتعاملين في السوق، وهو الأمر الذي قد يراه البعض على أنه تصرف خاطئ من الحكومة، لكني أؤمن بأن التدخل الحكومي في أوقات الأزمات هو خط الدفاع الأول لضمان حماية الاقتصاد من التدهور الذي يمكن أن يعقب أي انهيار مالي.
مما لا شك فيه أن التدخل الكثيف من جانب الحكومة والذي شهدناه في الصين، يعد من الناحية النظرية أمرا غير مرغوب فيه، لأنه يتسبب في تشوه مسار السوق، غير أنه من الناحية العملية، وخصوصا في أوقات الأزمات، يعد التدخل الحكومي أمرا مرغوبا فيه للحيلولة دون انحدار السوق نحو المسار الخطر الذي يمكن أن يؤدي إلى كارثة اقتصادية.
أكثر من ذلك فإن هذا التدخل المكثف يعكس قلق الحكومة من فقدان الثقة بقدرتها على إدارة الاقتصاد. لذلك تبذل ما يلزم لإيقاف هذا الانهيار، وهو ما أعتقد أنه رسالة إيجابية للمستثمرين والسوق.
وأخيرا، فإن النمو الصيني، على الرغم من أنه دخل مرحلة جديدة يطلق عليها الوضع الطبيعي الجديد، إلا أن معدلات النمو التي تستهدفها الحكومة ما زالت مرتفعة جدا بمقاييس النمو في العالم، وبالتالي لا أعتقد بأن هناك انهيارا اقتصاديا في الصين يمكن أن يعقب أزمة سوق الأوراق المالية الصينية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق