في مقال سابق لي بمناسبة صدور بيان وزارة المالية عن مشروع الميزانية الجديدة بعنوان "مفاجأة ميزانية 1437/1436"، أشرت إلى أن بيان وزارة المالية تضمن إشارة مهمة والمتمثلة في استمرار تراجع الدين العام السعودي إلى أدنى مستوياته هذا العام، حيث بلغ 44.3 مليار ريال، وهو ما يضع السعودية على رأس قائمة أقل الدول المدينة في العالم، غير أنني نبهت إلى أنه إذا ما تحققت السيناريوهات المفترضة في الميزانية، فستبدأ المملكة من العام المقبل في السحب من احتياطياتها، التي تراكمت خلال السنوات الماضية، أو العودة للاقتراض مرة أخرى، أي أن هذا المسار المتناقص للدين العام سوف ينعكس في السنة المالية المقبلة، وذلك بفعل العجز الكبير المتوقع في الميزانية، حيث يبلغ العجز المتوقع 241 في المائة من الدين القائم على المملكة في هذه السنة، وبمعنى آخر، لو تصورنا اقتراض المملكة لتمويل هذا العجز، فإن الدين العام سيرتفع بنسبة تتجاوز 250 في المائة، أخذا في الاعتبار أنه لو استمر سعر النفط على ما هو متوقع في الميزانية، فإن العجز المحقق سيكون أكبر من العجز المعلن، نظرا لاحتمالات تزايد الإنفاق الفعلي عن المستوى المخطط، وقد تحقق بالفعل كل ما توقعته.
أخيرا نشرت "الاقتصادية" تحقيقا مفاده أن الدكتور فهد المبارك محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي أشار إلى أن العجز المتوقع لهذه السنة المالية في المملكة سوف يتجاوز المستوى المعلن في مشروع الميزانية لسببين؛ الأول هو تزايد الإنفاق على المشروعات العامة، والثاني هو استمرار هبوط أسعار النفط عن مستوى السعر الذي تم تقدير إيرادات الدولة على أساسه في مشروع ميزانية السنة المالية الحالية. ما يترتب على ذلك هو أن صافي إيرادات الدولة يصبح سالبا، ويتطلب الأمر لاستيفاء احتياجات الدولة على الإنفاق أن تبحث المملكة عن طرق لتمويل الفجوة بين الإيرادات والنفقات.
الخيارات المتاحة أمام السعودية لتمويل العجز متعددة، وبالطبع أولها أن تبدأ في السحب من احتياطياتها المتراكمة أثناء سنوات الفائض، التي تمثل خط الدفاع الأول في مواجهة تراجع الإيرادات النفطية، وهو ما حدث على ما يتضح من تصريح محافظ المؤسسة، الذي أشار إلى أن ودائع واحتياطيات الدولة قد تراجعت بنسبة 4.9 في المائة حتى نهاية مايو الماضي، وهي نسبة تراجع مرتفعة.
الاختيار الثاني هو أن تقترض الحكومة من خلال إصدار سندات محلية تشترك في شرائها مؤسسات التمويل المحلية على اختلاف أشكالها وذلك بالريال السعودي، أو أن تلجأ إلى الاقتراض الخارجي من مؤسسات التمويل خارج المملكة يساعدها في ذلك التصنيف الائتماني السيادي القوي الذي تتمتع به المملكة استنادا إلى انخفاض نسبة دينها العام إلى إجمالي الناتج، حيث تقف المملكة في الوقت الحالي على قائمة أقل دول العالم من حيث نسبة الدين العام إلى الناتج، وكذلك ضخامة حجم احتياطياتها، حيث يحتل أيضا صندوق الثروة السيادي السعودي رأس قائمة أضخم صناديق الثروة السيادية في العالم.
من الواضح لي حتى اليوم أن التوليفة التي اختارتها المملكة للتعامل مع العجز هي السحب من الاحتياطيات المتراكمة، واللجوء إلى الاقتراض المحلي، حيث تضمن تصريح محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي أن وزارة المالية اقترضت حتى تاريخه 15 مليار ريال من خلال إصدار سندات لتمويل الميزانية، وأن الاقتراض سوف يستمر في المستقبل لتمويل العجز. معنى ذلك هو أنه بدءا من هذا العام فإن الدين العام السعودي سوف يبدأ في التزايد مرة أخرى، لترتفع نتيجة لذلك نسبة الدين العام إلى الناتج بعد فترة قصيرة للغاية من تعافي الاقتصاد السعودي من مشكلة الديون، إلى الحد الذي أصبحت فيه المملكة ثالث أقل دولة في العالم من حيث نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي.
واقع الحال يشير إلى أنه على الرغم من متانة الوضع المالي للمملكة، فإن ذلك لم يمنع من حدوث ظاهرة في اقتصاد نفطي وهي تراكم الدين العام إلى مستويات تعد بين الأعلى في العالم على الإطلاق. ففي بداية التسعينيات من القرن الماضي لم تتجاوز نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي 48 في المائة وذلك في عام 1991. ثم أخذت هذه النسبة في التصاعد على نحو مستمر حتى تجاوزت حاجز الـ60 في المائة في عام 1993، التي تعد الحد الخطر لنسبة للدين العام إلى الناتج. ثم استمر الدين العام في التزايد بعد ذلك حتى بلغ نسبة 109 في المائة تقريبا من الناتج في عام 1998، وهي من أعلى المعدلات المسجلة في العالم في هذا العام.
ظلت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي عند مستويات مقلقة حتى عام 2004، حيث تمكنت المملكة من إطفاء كمية هائلة من الدين العام في غضون فترة زمنية قياسية، بالطبع نتيجة عودة أسعار النفط نحو الارتفاع في بداية الألفية الثالثة، وهو ما مكن الحكومة من تحقيق فوائض مالية ساعدتها على تخفيض الدين العام القائم، وبدءا من عام 2005 أخذت عمليات إطفاء الدين العام في التسارع لدرجة أنه في عام 2011 لم تزد نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي على 7 في المائة تقريبا، وهي من أقل المستويات عالميا حاليا. في تقرير حديث لمعهد الملك عبدالله للبحوث والدراسات الاستشارية في جامعة الملك سعود قامت "الاقتصادية" بنشره، أشار إلى أن المملكة مع استمرار تناقص دينها العام بنهاية 2012 أصبحت ثالث أقل دولة مدينة في العالم، حيث تمكنت من إطفاء الجانب الأعظم من دينها العام في غضون فترة زمنية قياسية بسبب الفوائض الاستثنائية التي تحققت مع ارتفاع أسعار النفط.
غير أن هذا التطور الإيجابي يجب ألا ينسينا حقيقة أن الدين العام السعودي يمكن أن ينعكس في أي لحظة وبسرعة أكبر مما نتصور، ومخاطر عودة الدين العام إلى مستويات مرتفعة مرة أخرى ليست بعيدة، فالمستويات الحالية للإنفاق العام، خصوصا الإنفاق الجاري، أصبحت خطيرة جدا على المالية العامة للدولة، في ظل التركز الشديد للإيرادات العامة، كما أن الفوائض الكبيرة التي تراكمت عبر السنوات الماضية يمكن أن تتآكل بسهولة إذا ما استمرت أسعار النفط منخفضة كما هي عليه الآن واستمر مسار الإنفاق على ما هو حاليا.
واقع الحال أن صانع السياسة المالية في السعودية أصبح اليوم في موقف لا يحسد عليه، حيث لا يبدو أن هناك خططا احتياطية تم بناؤها من قبل لمواجهة أي سيناريو لتراجع الإيرادات على نمط المسار الحالي، وهي صفة مشتركة تقريبا بين دول مجلس التعاون، غير أن المملكة تنفرد بين دول المجلس بالمستويات الضخمة للإنفاق العام، سواء الجاري أو غير الجاري، وحيث أصبح من المؤكد أن الدين العام سوف يعود للتزايد بسرعة مرة أخرى، مع ما يحمله من مخاطر.
إن الإصلاح المالي في المملكة مطلوب اليوم، وذلك لمواجهة تصاعد عجز الميزانية والسيطرة على نمو الدين العام، وأن إجراءات مثل إعادة تسعير السلع والخدمات العامة، ورفع الرسوم المختلفة، فضلا عن مراجعة السياسات الضريبية، بصفة خاصة على الأرباح أصبحت ضرورة، حتى يمكن أن تسيطر المملكة على النمو المحتمل في دينها العام، وحتى تضمن الدولة سلامة أوضاعها المالية على المدى الطويل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق