نشر في صحيفة الوطن البحرينية بتاريخ الثلاثاء 31/8/2010.
منذ أن انطلقت أزمة الديون السيادية في اليونان والضغوط تتزايد على منطقة اليورو، حيث لجأ معظم أعضاء المنطقة تقريبا إلى تبني خطط إنفاق تقشفية لمحاولة السيطرة على الإنفاق العام وعجز الميزانية العامة، ومن ثم النمو في الدين العام، غير أن برامج التقشف لها تكلفة اقتصادية فادحة تتمثل أساسا في انخفاض معدلات النمو، ومنذ بداية الربع الثاني من العام، تركزت كافة التوقعات حول تراجع معدلات النمو في المنطقة لتشمل كافة اقتصادياتها، وأخذ الحديث يتزايد عن احتمالات حدوث تراجع مزدوج في أوروبا، بما في ذلك الاقتصاد الألماني والفرنسي مركز منطقة اليورو اقتصاديا.
غير أن البيانات الأخيرة، التي تم الكشف عنها، عن تطورات معدل النمو في المنطقة قد أوضحت أن الاقتصاد الألماني يحقق معدلات نمو غير مسبوقة، فاقت أكثر التوقعات تفاؤلا، وذلك بعد أن تراجع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الألماني بحوالي 5% في العام الماضي، فقد كشفت تقارير مكتب الإحصاءات الأوروبي عن أن معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لألمانيا في الربع الثاني من هذا العام قد بلغ 2.2% (أي حوالي 9% على أساس سنوي)، وهي معدلات لم يشهدها الاقتصاد الألماني منذ توحيد شطري ألمانيا، أي منذ حوالي عقدين من الزمان. جاءت هذه النتائج بصورة أعلى بكثير من أفضل التوقعات حول مسار النمو في الاقتصاد الألماني هذا العام، أخذا في الاعتبار الأوضاع الاقتصادية السيئة السائدة في أوروبا، وهي تشبه معدلات النمو التي تحققها مجموعة الدول الناشئة في العالم مثل الصين والهند، وتشير التقارير إلى أن السبب الرئيس في هذا النمو يرجع إلى تزايد الصادرات الصناعية الألمانية إلى الاقتصاديات الناشئة، والتي تستعيد عافيتها بصورة واضحة، مستفيدة من تراجع معدل صرف اليورو أمام الدولار والعملات الرئيسية في العالم في أعقاب الأزمة، والذي يعد أحد الجوانب الايجابية لأزمة الديون السيادية، كما أشرت في مقال سابق. غير أنه من الواضح أن استفادة دول منطقة اليورو من انخفاض قيمته لم تكن على نسق واحد، الأمر الذي يعكس اختلاف مستويات التنافسية الدولية للدول الأعضاء بصورة واضحة.
الإنفاق على الصادرات وكذلك الإنفاق الاستثماري للعديد من الشركات التي تحاول ان تزيد من رأسمالها لمواجهة هذا النمو في الطلب الخارجي، كان إذن هو المسئول بشكل أساسي عن هذه المعدلات المرتفعة للنمو في الإنفاق، إذ تنمو واردات الاقتصاديات الناشئة من ألمانيا بمعدلات كبيرة بصفة خاصة الصين. على سبيل المثال تشير البيانات المتاحة إلى نمو صادرات سيارات المرسيدس بمعدل يتكون من رقمين حتى يوليو الماضي، حيث بلغت نسبة الزيادة في الصادرات من هذه السيارة في هذا الشهر 17%، ويتوقع ان يستمر الحال كذلك حتى نهاية العام، ونفس الوضع ينطبق على باقي السيارات والسلع ذات مستويات الرفاهية المرتفعة التي تنتجها ألمانيا، ومن الواضح أن هناك شبه تحول في استراتيجيات الشركات الصناعية الألمانية التي أصبحت تركز الآن بصورة أكبر على الاقتصاديات الناشئة في آسيا وأمريكا اللاتينية، أكثر منها على عملاءها التقليديين في أوروبا والولايات المتحدة، ومن الطبيعي أن ينعكس هذا النمو المرتفع بالتبعية على سوق العمل، حيث مالت معدلات البطالة في ألمانيا نحو الانخفاض إلى مستويات تقل عن معدلاتها قبل نشوب الأزمة المالية العالمية، وذلك مقارنة بالاتجاه العام للبطالة في باقي دول أوروبا، والتي تبلغ حوالي 10% في المتوسط، أكثر من ذلك فإن الشواهد المتاحة تشير إلى أن النمو الألماني بدأ ينعكس بصورة أكبر على مستويات الإنفاق في الداخل، بصفة خاصة الإنفاق الاستهلاكي.
كذلك جاءت بيانات النمو في فرنسا ثاني اكبر اقتصاد في منطقة اليورو مشجعة وأفضل مما كان متوقعا أيضا، حيث حققت معدل نمو 0.6%، أو 2.4% سنويا، ومن الواضح أن الاقتصاد الفرنسي يستعيد نشاطه، وإن كان ذلك بصورة بطيئة. على الجانب الآخر يلاحظ ان النمو في باقي دول منطقة اليورو، بصفة خاصة في البرتغال وايرلندا واليونان وأسبانيا، أو ما يطلق عليه مجموعة دول الـ PIGS مستمر في التباطؤ، حيث تتعدد المشكلات الاقتصادية التي تواجه دول هذه المجموعة بصورة تجعل التعامل مع تلك المشكلات مسألة في غاية الصعوبة، فضلا عن أنها سوف تستغرق المزيد من الوقت، حيث لا تواجه هذه الدول مشكلة نمو فقط، وإنما تعاني أيضا من مشكلة ديون سيادية حادة، فقد حققت ايرلندا معدل نمو سالب، كذلك جاءت بيانات النمو في اليونان مخيبة للآمال، حيث حققت معدل نمو سالب 1.5%، وهو معدل نمو أقل مما كان متوقعا في إطار حزمة الإنقاذ الأوروبية التي يديرها صندوق النقد الدولي، بينما لم تحقق كل من اسبانيا والبرتغال أي نمو تقريبا (0.2%)، أكثر من ذلك فإن هناك تأكيدات بأن الاقتصاد الاسباني والبرتغالي ربما يكونان في طريقهما إلى مواجهة تراجع مزدوج حاليا، في الوقت الذي تعاني فيه كافة دول أوروبا من فجوة في الناتج المحلي الإجمالي، وتشير التقارير إلى أن ألمانيا تعد مسئولة عن ثلثي النمو في منطقة اليورو في الربع الثاني من هذا العام، وذلك وفقا لمكتب الإحصاءات الأوروبي.
نحن إذن أمام تكتل اقتصادي ينمو بسرعتين مختلفتين، ويفترض نظريا أن يحدث تقارب في معدلات النمو بين المجموعتين من الدول في منطقة اليورو في النهاية، وذلك من خلال استفادة اقتصاديات أوروبا ذات النمو الضعيف، من النمو السريع في ألمانيا، حيث يتوقع حدوث اثر انتشاري نتيجة للنمو الألماني في باقي دول أوروبا، على سبيل المثال، تشير بيانات مكتب الإحصاءات الأوروبي إلى أن الاقتصاديات المرتبطة بشكل كبير بقطاع التصدير الألماني مثل النمسا وهولندا تشهد نموا موجبا نسبيا أيضا نتيجة للنمو الألماني.
من ناحية أخرى فإنه من المعلوم أن ألمانيا تواجه عجزا حاليا في ميزانيتها، وأن هذا النمو السريع في الناتج المحلي الإجمالي سوف يساعد على تخفيض عجز الميزانية العامة في ألمانيا، الأمر الذي قد يشجع ألمانيا على تقديم يد العون والمساعدة لباقي الدول الأعضاء في اليورو، والذين يواجهون مشكلات خاصة بديونهم السيادية. غير أن الأزمة اليونانية أثبتت انه لا يمكن الاعتماد على ألمانيا في تأمين التحفيز المالي اللازم لمساعدة باقي دول الاتحاد، طالما ان تنافسية وإنتاجية تلك الدول لا تسير في الاتجاه الصحيح، وهو الأمر الذي أدى إلى تأخير معالجة المشكلة اليونانية، ومن ثم اضطراب الأسواق المالية لفترة من الزمن، ويترتب على تفاوت سرعات النمو من الناحية النظرية أضرارا على المستوى الكلي في منطقة اليورو، نظرا لآثار قصور بعض الدول ذات النمو السالب أو المنخفض، عن اللحاق بالدول الرائدة في النمو.
من ناحية أخرى، من الواضح أن دول اليورو التي تعاني من عجز كبير في ميزانياتها تواجه حاليا احتمالات دخولها في حلقة خبيثة تحول دول انطلاق معدلات النمو بها، على الأقل في الأجل القصير، وتقلل من درجة استفادتها من الفرص التي يتيحها النمو الألماني، حيث يترتب على العجز الكبير في ميزانيات هذه الدول اضطرار هذه الدول إلى تبني برامج تقشفية، كما هو الحال الآن، وذلك في صورة ارتفاع في مستويات الضرائب وانخفاض في مستويات الإنفاق العام، ويترتب على برامج التقشف تراجع مستويات الإنفاق الكلي ومن ثم معدلات النمو، الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من العجز في الميزانية، ومن ثم الحاجة إلى المزيد من التقشف وهكذا، ومن المعلوم أن برامج التقشف التي تتبعها هذه الدول تضعف من ثقة المستثمرين في اقتصادياتها، وهو ما يزيد من مصاعب اختراق هذه الحلقة الخبيثة بسرعة، خصوصا وأن هذه الدول لا تملك سياسات معدل صرف مستقلة، باعتبارها أعضاء في اليورو، الأمر الذي يؤثر على قدرة الدول الأوروبية في منطقة اليورو على التعامل مع أزمتها بالمرونة الكافية، مثلما هو الحال بالنسبة لحالة اليونان وأسبانيا.
معنى ذلك أن النمو الألماني، على الرغم من أنه من المتوقع، من الناحية النظرية، أن يؤدي إلى مساعدة النمو في الدول المتبقية في الاتحاد، إلا انه في ظل هذه الأوضاع يعد غير كاف لكسر هذه الحلقة المفرغة، والتغلب على ضعف النمو في باقي دول اليورو. النمو الألماني، وبدرجة أقل الفرنسي، يضع منطقة اليورو في وضع غير متوازن، حيث توجد اقتصاديات تحقق معدلات نمو قوية نسبيا، وأخرى تحقق معدلات نمو ضعيفة، أو لا تحقق نموا على الإطلاق، وما زالت تعاني من آثار برامج التقشف التي تبنتها للتعامل مع العجز المتصاعد في ميزانياتها، ويدور حاليا الكثير من الشك حول قدرة اقتصاديات مثل اليونان واسبانيا والبرتغال وايرلندا على الحد من عجز ميزانياتها، ففي ظل برامج التقشف التي تتبناها دول أوروبا، من المتوقع ان تتزايد الهوة بين الدول ذات النمو المرتفع والدول ذات النمو المنخفض في التكتل، حيث سيساعد النمو المرتفع دولا مثل ألمانيا وفرنسا على التوسع في الإنفاق، بينما سيظل الإنفاق مقيدا في باقي دول المجموعة، الأمر الذي يؤثر على النمو العام في المنطقة.
فهل تعود ألمانيا لتلعب دورها التقليدي كقائد لعملية النمو في أوروبا؟ الإجابة على هذا السؤال تعتمد بصفة أساسية على مصادر النمو في الإنفاق الألماني الذي أدى إلى تحقيق هذه المعدلات الاستثنائية من النمو. إذا كان النمو الألماني راجعا أساسا إلى قطاع التصدير في الوقت الذي تراجع فيه الطلب من قبل عملاء ألمانيا التقليديين، فإن النمو الألماني ربما يكون غير قابل للاستدامة على هذا النحو السريع الذي شهدناه في الربع الثاني من هذا العام، حيث سيعتمد الأمر على معدلات النمو في الإنفاق في الدول الناشئة، ويرى البعض انه ربما يكون من غير المتوقع أن نرى مثل هذه المعدلات المرتفعة من النمو التي شهدتها ألمانيا مرة أخرى، أخذا في الاعتبار أن النمو في الاقتصاد الأمريكي يتراجع وكذلك في الصين – مصدر النمو الأساسي في الصادرات الألمانية هذا العام. أي أنه إذا لم تستمر معدلات الإنفاق على الصادرات الألمانية مرتفعة في الخارج، فان برامج التقشف في أوروبا قد تهدد استمرار النمو المرتفع في ألمانيا، ولذلك تتهم الولايات المتحدة ألمانيا بأنها تعيش حاليا على الإنفاق الذي تقوم به الدول الأخرى، وبأن الإنفاق، ومن ثم النمو، الألماني لا يضيف كثيرا للطلب الكلي على المستوى العالمي، أي أن استدامة هذا النمو في الوقت الحالي سوف يرتبط باستمرار خطط الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري في الدول شركاء ألمانيا في التجارة.