نشر في صحيفة الاقتصادية يوم الثلاثاء 30/7/2012
يعد هروب رؤوس الأموال من الظواهر التي يعتقد أنها تنتشر على نطاق
واسع في كل من الدول النامية والدول المتقدمة على السواء، ولكن أسباب الهروب تختلف
على نحو واضح بين المجموعتين. فغالبا ما تتم عمليات هروب رؤوس الأموال في الدول
المتقدمة على نحو قانوني وذلك كاستجابة لفروق العوائد والمخاطرة بين الداخل
والخارج، أو كوسيلة لتنويع المحافظ المالية للمستثمرين بين المراكز المالية
المختلفة في العالم، حيث يحاول المستمرون تدنية المخاطر التي يتعرضون لها عن طريق
تنويع محافظهم الاستثمارية من خلال الاستثمار ليس فقط في الأصول المحلية، وإنما
أيضا في الأصول الأجنبية.
ولكن إلى أين تذهب هذه الأموال التي تهرب من الدول النامية؟ الإجابة
هي أن الأمر في غالب الأحوال يعتمد على مصدر هذه الأموال، فإذا كانت مصادر هذه
الأموال مشروعة فإنها تخرج من خلال القنوات المشروعة (البنوك)، وغالبا ما تخرج هذه
الأموال وتعود مرة أخرى يعتمد ذلك على فروق معدلات العائد والمخاطرة بين الداخل
والخارج، وطبيعة الأزمات التي تحدث في الداخل مثل الأزمات المالية أو الثورات أو
الانقلابات العسكرية أو غيرها من ظروف عدم الاستقرار السياسي بشكل عام، ولمثل هذا
الهروب لرأس المال ضرر محدود نسبيا، كما أنه يمكن استبقاؤه في الداخل باستخدام
السياسات المناسبة.
أما النوع الثاني من الهروب فهو هروب رؤوس الأموال ذات المصادر المشبوهة
أو غير المشروعة مثل أموال الرشاوى والاختلاسات، وأموال المخدرات، وأموال
العمولات، وأموال الصفقات السرية والأعمال القذرة... الخ. عندما تهرب رؤوس الأموال
هذه فإنها تبحث بصفة أساسية عن مصدر آمن لتتوارى على الأنظار بحيث تظل بمنأى عن
تتبع السلطات المالية المحلية لدولة الأصل وبحيث لا تتمكن المصادر الاستخبارية
الوطنية من الوصول إلى هذه الأموال، وذلك من خلال إرسالها إلى الدول التي تقدم
غطاء من السرية على المودعات المصرفية مثل سويسرا، حيث تعد السرية أحد الأعراف
الأساسية للنظام المصرفي السويسري، على سبيل المثال قدرت الإيكونيميست أن قادة الدول
الإفريقية قاموا بتحويل 20 مليار دولارا للبنوك السويسرية في عام 1999 فقط. يمكن
أيضا أن تذهب الأموال إلى مراكز الأوفشور، حيث جنة الأمن والسرية المصرفية وصعوبة
وصول سلطات أي دولة إلى هذه الأموال، ببساطة لأن النظم القانونية أو الرقابية على
أعمال المؤسسات المالية بهذه المراكز تعد ضعيفة أو متراخية، ومن ثم توفر هذه
المراكز الفرصة لأصحاب الأموال المشبوهة لإيداع هذه الأموال في مثل هذه المراكز،
ربما بقدر من المخاطرة، ولكنه بالتأكيد أقل خطرا من استمرار الاحتفاظ بهذه الأموال
في دولة الأصل.
تختلف المسببات المسئولة عن هروب رؤوس الأموال من الدول النامية، غير
أن الدراسات الكثيرة التي تمت في هذا المجال على الدول النامية غالبا ما تنظر إلى
هروب رأس المال من الدول النامية على أنه معاملة غير قانونية، حيث تشير الدراسات
إلى أن ذلك ربما يكون بدافع الخوف من مصادرة الأموال من جانب السلطات في الدولة،
أو بدافع التهرب من الضريبة أو ربما بسبب الكبح المالي الذي يصبغ النظام المالي
المحلي على نطاق واسع والذي من الممكن أن يترتب عليه تخفيض قيمة الأصل مقارنة بقيمته
إذا ما تم استثماره في الخارج، على سبيل المثال اذا كان معدل الفائدة المحلي مراقب
على نحو كبير ولا يعكس قوى العرض والطلب في سوق النقود، أو إذا كانت العملة
المحلية مقومة بقيمة تختلف بشكل واضح عن قيمتها الحقيقية، فإنه في ظل هذه التشوهات
للسوق يلجأ المستثمرون إلى نقل أموالهم للاستثمار في الخارج.
كذلك تساعد عمليات غسيل الأموال Money
laundering على
تسهيل عمليات الفساد في المؤسسات العامة في دول العالم، بصفة خاصة في الدول
النامية، ولا شك إن استخدام مراكز الأوفشور في غسيل حصيلة أموال عمليات الفساد
الإداري تعد من القضايا ذات الأهمية الحيوية بالنسبة لدول العالم النامي في عالم
اليوم. حيث تقف مثل هذه المراكز حائلا دون تحقيق الشفافية المالية على المستويين
المحلي والعالمي، ذلك أن تلك المراكز تساعد على توفير الأمان المناسب الذي يسمح
للقادة والموظفين الفاسدين في الدول النامية الذين يحصلون على رشاوى أو الذين
ينهبون المال العام بأن يتمكنوا من إخفاء مصادر تلك الأموال التي يقومون بتحويلها.
ولكن كيف تتم عمليات تهريب الأموال إلى الخارج، الدراسات المتاحة تشير
إلى تعدد وسائل هروب رؤوس الأموال، منها على سبيل المثال عندما يقوم التجار مثلا
بتزوير فواتير التجارة الخارجية من خلال تقديم فواتير للسلع المصدرة إلى الخارج
بأقل من القيمة الحقيقية للصفقة المصدرة بحيث يتم تحويل القيمة المسجلة في
الفاتورة إلى الداخل بينما يتم الاحتفاظ بباقي قيمة الصفقة في الخارج، أو قد يتم
ذلك من خلال المغالاة في فواتير الواردات وذلك من خلال إثبات قيمة أكبر للواردات
في فواتيرها عن قيمتها الحقيقية، بحيث يتم تحويل قيمة أكبر إلى الخارج يدفع منها
قيمة السلع المستوردة وإيداع ما يتبقى لحساب المستورد أو لحساب شخص آخر من طرفه.
كذلك من الممكن أن يتم تهريب رؤوس الأموال من خلال قنوات أخرى مثل نقل
الأموال السائلة عبر الحدود، أو من خلال عمليات تهريب السلع والأنتيكات والأحجار
الثمينة والذهب والفضة وغيرها من المعادن الثمينة، أو أن يتم ذلك من خلال استخدام
تقنيات خاصة للتحويل من خلال الشبكة العنكبوتية التي تنقل حاليا ما يزيد عن 4
تريليون دولارا كل 24 ساعة عبر مختلف أنحاء العالم.
كذلك يلعب فساد المسئولين والساسة في صفقات السلاح بالذات دورا هاما
في تكوين هذه الأموال القذرة، ذلك أن عمولات صفقات الأسلحة من الأعراف المعمول بها
على نطاق واسع في هذه التجارة، خصوصا في الدول النامية. كذلك فإن أحد المصادر التي
يتكرر ذكرها في عمليات هروب رؤوس الأموال هي عمليات الخصخصة التي تدار على نحو
فاسد، فلقد مثلت عمليات الخصخصة ونهب الموارد الطبيعية للدول مصادر مهمة للأرباح
التي تتحقق من العمليات المصرفية الخاصة private banking، في دول مثل روسيا
والبرازيل وجنوب أفريقيا ونيجيريا، حيث تمكنت الصفوة من تحقيق تراكم هائل في ثرواتها
من خلال عمليات تخصيص الأصول العامة للدول مثل شركات الاتصالات والطاقة والمطارات
والموانئ والمناجم والمنافع العامة.. الخ.
وتنبغي الإشارة إلى أنه في موازين المدفوعات لكل دول العالم يوجد بند
يسمى "السهو والخطأ errors and omissions" لتسجيل المعاملات
التي تمت بالنقد الأجنبي ويصعب تتبع مصادرها أو ربما بسبب عدم توافر الوقت الكافي
للتأكد من وجهتها والغرض الذي استخدمت من أجله، وفي كثير من الأحيان قد يكون هذا
البند جوهريا، وفي حالة الدول النامية غالبا ما يعكس هذا البند المعاملات المشبوهة
في النقد الأجنبي، وكثيرا ما ينظر إلى بند السهو والخطأ على أنه عمليات تملك
الأصول الأجنبية غير المبلغ عنها.
بالطبع يترتب على هروب رأس المال التأثير السلبي على الاقتصاد الوطني،
حيث يفقد الاقتصاد أحد موارده النادرة، غالبا لمصادر سرية فيما بعد، وتفقد الدولة
كافة العوائد التي يمكن أن تترتب على استثمار هذه الأموال في الداخل، وفي الكثير
من الأحيان فإن تكلفة الفرصة البديلة لمثل هذه الأموال قد تكون مرتفعة للغاية، على
سبيل المثال عندما تضطر الدولة للاقتراض من الخارج لنقص موارد النقد الأجنبي
لديها، مثلما هو الحال في الدول النامية، وهو ما يضطر الدولة إلى تحمل دين خارجي كبير
بينما مواردها من النقد الأجنبي تتسرب إلى الخارج. فقد أثبتت الدراسات التطبيقية أن
عمليات هروب رؤوس الأموال في الدول النامية صاحبها ارتفاع في مستويات مديونية
الدول التي تعاني من الهروب، مما يعني أن عملية الاقتراض من الخارج لا تضيف إلى
موارد الدولة من النقد الأجنبي على النحو المفترض من الناحية النظرية، وإنما تبدو
العملية وكأنها اقتراض النقد الأجنبي لتمويل عمليات هروب رؤوس الأموال. بالطبع
تكون عمليات هروب رؤوس الأموال اكثر ضررا للدولة عندما لا يقابلها تحركات في
الاتجاه المعاكس لرؤوس الأموال لكي تعوض التدفق الخارجي للأموال، وهو ما قد يخلق
مشكلة حادة لبعض الدول التي تعاني من ندرة في موارد النقد الأجنبي على نحو خاص.
في هذا الشهر أصدرت شبكة العدالة الضريبية Tax
justice network تقريرا عن تقديراتها للأموال التي يحتفظ بها
أغنياء العالم في مراكز الأوفشور بصورة خفية وهذا هو موضوع الجزء الثاني من هذا
المقال بإذن الله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق