الاثنين، مارس ١٦، ٢٠٠٩

القنبلة المالية القادمة: انهيار النظام المالي لدول شرق أوروبا

نشر في جريدة القبس بتاريخ الاثنين 16/3/2009
دول أوروبا الشرقية الآن على حافة أزمة مالية يمكن أن تنطلق في أي لحظة، في حال حدوث أي خطأ في التعامل معها. المشكلة الأساسية أن ضغوط الأزمة المالية العالمية تتراكم وتتعمق وهو ما يهدد بسرعة انفجار القنبلة المالية التالية وهي انهيار اقتصاديات شرق أوروبا في أي لحظة، مخلفة آثارا تدميرية لن تقل عن تلك التي خلفتها ازمة الرهون العقارية في الولايات المتحدة، ولكن هذه المرة على الاقتصاد الأوروبي، حيث أن معظم ديون الكتلة الشرقية مملوكة لبنوك دول غرب أوروبا، بصفة خاصة بنوك النمسا والسويد واليونان وايطاليا وبلجيكا وفرنسا لتقضي بذلك على أية آمال بنهاية سريعة للازمة الاقتصادية العالمية.
أزمة شرق أوروبا أعمق بكثير من أزمة آسيا في التسعينيات، وقد أصبح من المؤكد انه ما إن تسقط واحدة من هذه الدول حتى تتساقط باقي الدول كقطع الدومينو، مما سيؤدي إلى انطلاق أزمة ضخمة ذات اثر انتشاري عبر الاتحاد الأوروبي ربما تؤدي إلى دمار النظام المصرفي الأوروبي برمته، الذي يواجه أصلا مشكلات عميقة بسبب الأزمة المالية، بشكل تجاوز كافة توقعات قادة أوروبا. لقد أصبح ينظر حاليا إلى دول شرق أوروبا على أنها الرجل المريض في الدول الناشئة، فبعد سنوات من النمو المرتفع الذي تجاوز متوسط معدلات نمو دول العالم، باتت تلك الدول على حافة الكارثة. مشكلة دول شرق أوروبا تنبع من عاملين رئيسيين، الأول هو تدهور صادراتها، والثاني هو جفاف منابع تدفقات رؤوس الأموال إليها. فقد مثلت صادرات أوروبا الشرقية مفتاح النجاح الاقتصادي للإقليم، على سبيل المثال تمثل الصادرات ما بين 80-90% من الناتج المحلي الإجمالي لجمهورية التشيك والمجر وسلوفاكيا. بينما شكلت تدفقات رؤوس الأموال إلى الإقليم الوقود الذي أدار عجلة التوسع الاقتصادي في السنوات الأخيرة في الإقليم.
عملات دول شرق أوروبا معرضة أيضا للانهيار، فقد انخفض الزولتي البولندي بحوالي 50% في مقابل اليورو، والفروينت المجري بحوالي 20%، والليو الروماني بنسبة 17%، والكرونا التشيكية بنسبة 12%، ومع كل انخفاض يحدث في عملات تلك الدول تزداد قيمة ديونها مقومة بالعملات المحلية. وهو ما دفع بحكومات أوروبا الشرقية إلى زيادة معدلات الفائدة بها في محاولة منها للدفاع عن عملاتها المحلية من الانخفاض في مقابل عملات الدول المقرضة وذلك للتخفيف من عبء خدمة ديونها الخارجية على الأسر. إذا ما مالت معدلات الصرف نحو التراجع بشكل أكبر فان ذلك سوف يرفع معدلات التوقف عن السداد بشكل درامي، وهو ما يتطلب تقديم مساعدات مالية للأسر لرفع قدراتها على استئناف عمليات السداد لديونها العقارية. إن الشواهد تشير إلى أن قدرة دول شرق أوروبا على خدمة ديونها أصبحت محدودة جدا، وجميع هذه الدول الآن عرضة للتوقف عن السداد. وقد فشلت القمة الأوروبية في الاتفاق على خطوات جدية لمعالجة مشكلة ديون أوروبا الشرقية، الأمر الذي قد يهدد بانهيار بنوك أوروبا، وقد حذر رئيس المجر بأنه في حال فشل الاتحاد الأوروبي في رصد ميزانية كافية لإنقاذ دول شرق أوروبا، فانه من المحتمل أن يحدث انحسار شديد في اقتصاديات شرق أوروبا، ومن ثم انتشار حالات الإفلاس على نطاق واسع مما يهدد الاتحاد الأوروبي بأكمله. ومما لا شك فيه أن هذه التطورات لا بد وان يصاحبها إجراءات عنيفة للتعديل الاقتصادي في تلك الدول.
ترجع أهم الأخطاء التي ارتكبتها حكومات دول شرق أوروبا والتي أدت إلى نشوء الأزمة هو السماح للأسر في تلك الدول بالحصول على قروض عقارية بالنقد الأجنبي، على سبيل المثال فان القروض العقارية في المجر أساسا عبارة عن قروض بعملات أجنبية، بصفة خاصة بالفرنك السويسري، كذلك فان 60% من القروض العقارية في بولندا بالفرنك السويسري، كذلك تواجه البلقان والبلطيق وأوكرانيا أوجها مشابهة لهذه المشكلة، ومع تراجع عملات هذه الدول فان مدخرات الأسر بالعملات المحلية قد انهارت. الخطأ الثاني هو أن أعضاء المنطقة الأوروبية يسمح لهم بالانضمام لليورو على أساس اختياري، ذلك أن وقع الأزمة على المقترضين في تلك الدول سيكون اقل لو تم السماح لها بالانضمام مباشرة إلى اليورو فور انضمامها للاتحاد الاوروبي. الخطوة الوحيدة الصحيحة التي قامت بها اقتصاديات أوروبا الشرقية في ظل هذه الأزمة هي أن بنوكها كانت مملوكة بواسطة الأجانب، بصفة خاصة البنوك النمساوية، حيث مثل الإقراض للإقليم حوالي 70% من الناتج المحلي الإجمالي للنمسا. ويعني ذلك انه في حال حدوث مشكلة توقف عن السداد في المجر، على سبيل المثال، فان المجر لن تكون الدولة التي تواجه المشكلة وإنما النمسا. كذلك فان البنوك السويدية والايطالية والفرنسية والبلجيكية واليونانية معرضة بشكل واضح في دول أوروبا الشرقية. معنى ذلك أن انطلاق الأزمة المالية لدول شرق أوروبا سيؤدي إلى حدوث مخاطر نظامية في المنطقة الأوروبية كلها.
حجم الدين القائم على لاتفيا وليثوانيا واستونيا وبلغاريا ورومانيا والمجر والمعرض للتوقف عن سداده حوالي 2 تريليون دولار، ثلثيها باليورو والثلث الباقي بالفرنك السويسري. الدلائل تشير إلى قرب بدء عمليات الإفلاس في أوروبا الشرقية، فأوكرانيا التي انخفض ناتجها المحلي بنسبة 12% بعد انهيار أسعار الصلب، تسير نحو إعلان التوقف عن سداد التزاماتها، بينما أعلن محافظ البنك المركزي للاتفيا أن اقتصاد بلاده ميت إكلينيكيا. أكثر الدول المعرضة للتأثر بأزمة الديون الشرق أوروبية هي النمسا وايطاليا والسويد وفرنسا واليونان وبلجيكا، بهذا الوضع في شرق اوروبا يصل حجم الديون المسمومة في الاتحاد الاوروبي الى حوالي 23 تريليون دولار، مقارنة بحوالي 11 تريليون دولار ديونا مسمومة في الولايات المتحدة. مما يعني ان الوضع الآن في أوروبا أكثر خطورة من أزمة الائتمان الامريكية. وهو ما يهدد بانكماش الاقتصاد الأوروبي بصورة اكبر من الاقتصاد الامريكي، وكذلك احتمال ارتفاع معدل التضخم الأمر الذي يعزز الوضع الحالي للدولار الأمريكي في مقابل اليورو الأوروبي، حيث أصبح اليورو حاليا عملة يحيط بها قدر كبير من المخاطرة، منذ تصاعدت الأزمة المالية لدول أوروبا الشرقية.
إن جانبا كبيرا من القروض التي اقترضتها دول شرق أوروبا قصيرة الأجل، ومن المقرر أن تقوم تلك الدول بإعادة سداد 400 مليار دولار من ديونها هذا العام، وهو ما يعادل حوالي ثلث الناتج المحلي للإقليم. فكيف لها أن تتمكن من سداد حوالي ثلث الناتج المحلي لها في ظل أوضاع الأزمة. كذلك فإن الأزمة المالية - في ظل تدهور العملات المحلية لتلك الدول- قد أدت إلى إثارة التساؤلات حول قدرة هذه الدول على تمويل عجوزات الحساب الجاري في تلك الدول. من ناحية أخرى فقد أصبح من رابع المستحيلات أن تستطيع تلك الدول تدبير هذا المبلغ بدون تدفق كاف لرؤوس الأموال، مثلما كان يحدث في الماضي. جميع السيناريوهات المتاحة حاليا تشير إلى أنه أصبح من المؤكد حدوث انخفاض حاد في الائتمان الممنوح لإقليم شرق أوروبا. إذ يتوقع انخفاض تدفق رؤوس الأموال في عام 2009 إلى حوالي 11% فقط من مستوياتها في عام 2008. من ناحية أخرى فان محاولة تدبير هذا المبلغ من خلال المؤسسات الدولية متعددة الأطراف مثل صندوق النقد الدولي ستواجه بحقيقة أن هذا المبلغ يتجاوز إمكانيات صندوق النقد الدولي، حيث أن إجمالي احتياطيات الصندوق لا يتجاوز حوالي 200 مليار دولار تم استخدام جانب كبير منها في مساعدة المجر وأوكرانيا ولاتفيا وروسيا البيضاء وأيسلندا وباكستان، وتركيا في الطريق. المسألة إذن مسألة وقت قبل أن يسقط النظام المالي لدول شرق أوروبا ومعه يسقط النظام المالي الأوروبي بأكمله.
غير أن برجلوف الاقتصادي في البنك الأوروبي للتعمير والتنمية يشير إلى أنه على الرغم من احتمال اتساع نطاق الأزمات المصرفية في أوروبا إذا فشلت الحكومات الغربية في التنسيق فيما بينها لمعالجة الأوضاع السيئة في شرق أوروبا، إلا أنه، وفقا لوجهة نظرة، فانه من الممكن التعامل مع الوضع من خلال تنسيق أكثر فعالية بين الحكومات الأوروبية. من الواضح إذن أن الجانب الأكبر من التمويل الذي يجب الحصول عليه ينبغي أن يأتي من دول أوروبا الغربية، غير أن هناك من الدلائل ما يشير إلى أن البنوك الأم في الاتحاد الأوروبي بدأت الآن في الحد من عمليات التمويل من خلال فروعها في دول شرق أوروبا. يبقى هناك خيار آخر وهو أن تأتي عملية إعادة التمويل التي تحتاجها دول شرق أوروبا من المؤسسات المالية الدولية مثل بنك الاستثمار الأوروبي والبنك الأوروبي للتعمير والتنمية ومجموعة البنك الدولي.
على الاتحاد الأوروبي إذن أن يتناول ضرورة معالجة هذه القضية قبل فوات الأوان. للأسف التنسيق الأوروبي الحالي، على الرغم من أهميته، غير كاف، حيث رفض قادة أوروبا مقترح أن يتم تخصيص 180 مليار دولار لإنقاذ اقتصاد أوروبا الشرقية مفضلين التعامل مع الأمر حسب كل حالة على حده. الأمر ربما يحتاج إلى تنسيق بين البنك المركزي الأوروبي وغيره من البنوك المركزية خارج المنطقة الأوروبية والتي تمتلك كميات كافية من السيولة بما يمكن أن توفر خطوط ائتمانية بالعملات الأجنبية، أما بشكل مباشر أو من خلال مؤسسات التمويل الدولي. بدون هذا التعاون فان دول شرق أوروبا معرضة لهجمات مضاربة، يمكن أن تطيح بعملاتها وبنظامها المالي برمته. إذا لم تنجح تلك الجهود فان عبئ الدين الخارجي سوف يصل إلى مستويات كبيرة تهدد بافلاس تلك الدول. المشكلة ألكبري هي أن انهيار النظام المالي لدول أوروبا الشرقية سوف يحدث آثارا مدمرة عبر الاتحاد الأوروبي بشكل خاص، يعتمد ذلك على درجة تعرض كل دولة من أعضاءه للإقراض لهذا الإقليم، ومن الواضح أن درجة التعرض كبيرة، وهو ما يجعل من انهيار النظام المالي في دول شرق أوروبا القنبلة المالية العالمية التالية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق