الجمعة، مارس ١٣، ٢٠٠٩

الخيارات المتاحة للاستفادة من الفوائض. الخيار الأول: تعميق سياسات الرفاه الحالية

أي تعظيم مستويات الرفاهية للجيل الحالي (إلغاء قروض، إلغاء فواتير، إلغاء فوائد قروض المتقاعدين، زيادة الرواتب، المنح الأميرية، زيادة المعاشات، إقرار الكوادر، التوزيعات المالية ... الخ). وتستند الحجة الأساسية وراء هذا الخيار إلى أن سوء إدارة موارد الدولة والهدر الكبير الحادث بها سوف يعني أن جانبا كبيرا من هذه الفوائض سوف يذهب إلى فئات محددة، ومن ثم فإن العدالة تقتضي أن توزع هذه الفوائض على عموم الشعب ضمانا لوصولها إلى رجل الشارع، وليس لفئة المنتفعين من المال العام وحدهم. ولمثل هذا الخيار مزايا ضخمة للجيل الحالي، إلا انه يلاحظ الأتي:

* أن الحجة الأساسية لهذا المقترح مدمرة من الناحية الاقتصادية، فبدلا من أن نبحث عن موطن الداء، أي الفساد والمحسوبية وهدر المال العام، ونحلل مسبباته ونجتث جذوره، فإننا نسير في الاتجاه ذاته بهدر المال العام، ولكن على نطاق واسع، أي على المستوى الكلي.

* أن انتهاج مثل هذه السياسات سوف يعني استمرار إفرازات الأوضاع الحالية وتعميق اختلالاتها، وسوف تنتهي بنا إلى نهاية سيئة للغاية، أسوأها هو استمرار ارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات مخيفة في المستقبل القريب، خصوصا في ظل ارتفاع أعداد الداخلين الجدد من المواطنين إلى سوق العمل، وضيق فرص إيجاد وظائف للداخلين الجدد في سوق العمل.

* أن انتهاج مثل هذه السياسات سوف ينمي الحس الشعبي بأن الحكومة في كافة الأحوال يجب أن تدفع عن الناس قروضهم وفواتيرهم، وكافة أعباءهم، بغض النظر عن المجالات التي أنفقت فيها هذه القروض، والكيفية التي استخدمت فيها السلع العامة من قبل الأشخاص، بحيث يصبح ذلك حق شبه مكتسب، وغني عن البيان أن مثل هذه السياسات تعمق من الآثار السلبية للأنماط الاستهلاكية للجيل الحالي.

* أن إسقاط الفواتير يعني من الناحية العملية أن الحكومة الحالية، على عكس كافة حكومات العالم، تكافئ الذي يخالف القانون بالتخفيف عن التزاماته، وتعاقب الملتزم بالقانون.

* أن عملية إلغاء الديون، وإلغاء الفواتير، وإلغاء الفوائد.... الخ، هي جريمة ترتكب في حق الأجيال القادمة، ولكن بمقتضى قانون.

* أن هذا الخيار يضر بصورة أساسية بقضية العدالة بين الأجيال وهي قضية محورية في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية. إذ يفترض في السياسات الاقتصادية المتوازنة أنها لا تهدف إلى تعظيم منافع جيل على حساب جيل آخر.

تداعي الأكلة على القصعة

منذ أن بدأت أسعار النفط في التزايد حتى انبرى البعض مطالبا بتوزيع هذه الزيادة في الفوائض المالية على الناس، وقد تعددت المقترحات في سبيل ذلك وأهمها:

* زيادة الرواتب
* إقرار عدد كبير من الكوادر
* تخفيض فواتير الكهرباء
* إقرار منحتين متتاليتين بمبلغ 200 دينار لكل مواطن
* إلغاء فوائد قروض المتقاعدين
* إنشاء صندوق للمتعثرين في سداد قروضهم
* إضافة إلى ذلك فقد تم إقرار إجراء تحويلات للتأمينات الاجتماعية 11 مليار دينار على قسطين متساويين بدأ من ميزانية 2008/2009، وذلك لسداد العجز الاكتوري لدي مؤسسة التأمينات الاجتماعية. وقد توقف دفع القسط الثاني في مشروع ميزانية 2009/2010 بسبب تطورات أسعار النفط.
* إلغاء القروض الشخصية
* اقتراح توزيع 10000 دينار لكل مواطن

كلها هذه المقترحات أقرت، ما عدا المقترحين الأخيرين، على الأقل حتى الآن. خلاصة ما سبق هو أن الفوائض النفطية الحالية تميل إلى أن تتوزع بين زيادة في الرواتب والمنح والإعفاءات وسداد العجز الاكتواري في معاشات التقاعد، بمعنى آخر فان الفوائض النفطية كانت مدمرة ماليا لدولة الكويت.

اتجاهات الإنفاق العام في دولة الكويت

يوضح الجدول التالي اتجاهات الإنفاق العام في دولة الكويت على أبواب الإنفاق الخمسة، وهي المرتبات (الباب الأول) ، والمستلزمات السلعية والخدمات (الباب الثاني)، ووسائل النقل والمعدات والتجهيزات (الباب الثالث) والمشاريع الإنشائية والصيانة والاستملاكات (الباب الرابع) المصروفات المختلفة والمدفوعات التحويلية (الباب الخامس).





وبتتبع اتجاهات الإنفاق العام في دولة الكويت يلاحظ الآتي:

* بشكل عام فإن التبويب الحالي للميزانية لا يمكننا من فصل الإنفاق الرأسمالي عن الإنفاق الجاري بسهولة. ولذلك يمكن مجازا اعتبار الإنفاق على الباب الرابع على أنه يمثل الإنفاق الاستثماري الحكومي.

* أن نسبة الإنفاق الاستثماري في الكويت متواضعة، حيث في المتوسط بلغت نسبة الإنفاق على هذا الباب حوالي 10% من إجمالي الإنفاق العام، وهي نسبة متواضعة جدا، سواء بمقاييس الدول الغنية أو الدول الفقيرة. ومما يؤسف له أنني عندما رجعت إلى تقارير الحساب الختامي للدولة في السنوات القليلة الماضية، والتي تظهر حجم الإنفاق الفعلي على الأبواب المختلفة، وجدت أن ما يتم رصده من اعتمادات للباب الرابع لا ينفذ بالكامل، أي أن الحكومة ترصد أموالا لمشروعات استثمارية، ولا يتم تنفيذها. إن المشكلة الأساسية لكافة الدول النامية هي كيف تجد مصادر التمويل اللازمة لمشروعاتها التنموية المختلفة، لذا تحرص تلك الدول على أن تجد من يوفر لها مصادر التمويل إما من خلال قروض خارجية، أو اللجوء إلى المؤسسات الدولية، أو من خلال تدفقات للاستثمار المباشر، أو في صورة مساعدات .. الخ. أما نحن فالحمد لله لدينا الأموال، ومع ذلك لا نوظفها. على سبيل المثال في عام 2003/2004 تم تخصيص 722 مليون دينارا للإنفاق على بنود الباب الرابع، تم إنفاق 569 مليون دينارا فقط منها، أي بنسبة 79%، وفي عام 2004/2005 تم تخصيص 825 مليون دينارا كاعتمادات في الباب الرابع، انفق منها فقط، 678 مليون دينارا، أي بنسبة 82%. كما تم اعتماد ما مقداره 930 مليون دينار للمشاريع الإنشائية والاستملاكات العامة في ميزانية 2005/2006، واقتصر الإنفاق الفعلي عليها على 750 مليون دينارا، أي بنسبة 80%، أما في عام 2006/2007، فقد تم تخصيص 1261 مليون دينار، تم تنفيذ 989 مليون دينارا فقط منها، أي بنسبة 78%. وهكذا تتجه اعتمادات الإنفاق الاستثماري كنسبة من الإنفاق العام نحو التراجع، والنسبة التي يتم تنفيذها منه تقل بمرور الوقت، أي أن أبواب الإنفاق الجاري للحكومة تميل نحو التزايد بشكل سريع بمرور الوقت بينما يقل إنفاق الحكومة الرأسمالي.

* أن الإنفاق على الرواتب يزداد بشكل واضح ولافت للنظر، وكل زيادة تحدث في الرواتب لا بد وان يصاحبها زيادتين أخريين، الأولى هي زيادة مساهمة الدولة في التأمينات الاجتماعية، والثانية هي في العجز الاكتواري الناجم عن ارتفاع مستويات المعاشات مع زيادة المرتبات. فقد أدت الزيادات المتتالية في باب الرواتب إلى عجزا اكتواريا متسعا نتيجة ارتفاع تكاليف معاشات التقاعد التي تحسب على أساس الرواتب المرتفعة في مقابل مساهمات للتأمينات الاجتماعية التي جمعت طوال حياة الموظف المهنية على أساس رواتب منخفضة، مما يخلق فجوة بين موارد مؤسسة التأمينات ونفقاتها، وقد قدر العجز الاكتواري بحوالي 11 مليار دينار، رصدت الحكومة له 5.5 مليار دينار في مشروع ميزانية العام السابق، أي نصف العجز الاكتواري المقدر. ومن المتوقع مع هذه الزيادات الهائلة في الرواتب اتجاه العجز الاكتواري نحو التزايد في المستقبل، بدرجة قد تهدد قدرة مؤسسة التأمينات على سداد معاشات المتقاعدين، الأمر الذي سوف يستدعي، كما حدث اليوم، تدخل الدولة بشكل متتابع لسداد هذا العجز.

* من ناحية أخرى يلاحظ أن الإنفاق الجاري يميل إلى التزايد بشكل عام، بينما يتقلب الإنفاق الاستثماري بصورة واضحة، خصوصا مع أي انخفاض في الإيرادات النفطية.



الخلاصة هي انه من الواضح أن هذا الخيار هو ما تتبعه الكويت حاليا في الاستفادة من فوائضها، ومثل هذا الخيار يعقد من أوضاع الميزانية العامة للدولة، ويترتب عليه الكثير من الأعباء التي تفوق قدرة المالية العامة للدولة على تحملها على الأجل الطويل، فضلا عن انه يؤدي إلى هدر الموارد الحالية للدولة. بمعنى آخر فان النمط الحالي لاستخدام الفوائض جعل تلك الفوائض مدمرة ماليا لدولة الكويت.

هناك ٤ تعليقات:

  1. انا كويتي و مديون لعدة جهات

    ولكن اعارض وبشده كل المقترحات الي تم طرحها

    ولي اسباب عده

    لانه المستفيد الاساسي من المقترحات عدة جهات غير المواطن

    وعندي معتقد اساسي بأنه اساس الديون هو استعباد المواطن من خلال الدين
    سواء من خلال الجهات او من جهة الحكومة

    ردحذف
  2. شكرا مشاري على تعليقك، وكان الله في عونك.
    نحن نناقش هنا قضية مصلحة عامة. واحتمال التعارض بين المصلحة العامة والخاصة من المسلمات الاساسية في أي مجتمع، كويتي او غير كويتي. على سبيل المثال مصر أدخلت مؤخرا أنواعا جديدة من الضرائب على الملكية، أنا متضرر جدا منها، ولكن هل يعني ذلك أن اطالب بوقف هذا النوع من الضرائب، على العكس، أنا أراها خطوة في الاتجاه الصحيح نحو الاصلاح المالي ورفع قدرة الدولة على تمويل انفاقها العام دون اللجوء الى الاساليب التضخمية في التمويل التي تلجأ اليها بسبب نقص موارد التمويل لديها.
    من قال ان الغاء القروض امر جيد، القلة القليلة من الناس هي التي تعتقد بذلك، بصفة خاصة من لهم مصلحة مباشرة في الغاء القروض، سواء أكانت تلك المصلحة مالية أو انتخابية. الاهم من ذلك، من قال ان الغاء القروض حلال شرعا. كيف يستحل الفرد لنفسه أن يأخذ شيئا من المال العام للناس دون وجه حق. اذا كانت هناك مشكلة حقيقية تهدد قدرة الشخص على السداد، فالدولة مشكورة، قد يسرت سبل المساعدة من خلال صندوق مساعدة المتعثرين.
    أما قولك بأن اساس الديون هو استعباد المواطن من خلال الدين سواء من خلال الجهات او من جهة الحكومة، لا الجهات أو الحكومة اجبرت أحدا على الاقتراض حتى تستعبده، من اقترض قام بذلك بمحض اختياره المطلق، ويفترض دائما أن الشخص رشيد، بمعني انه يقوم بحساب جوانب العائد والتكلفة لكل قرار يتخذه.
    أدعو الله ان ييسر عليك أمرك، وأن ييسر لك قضاء دينك.

    ردحذف
  3. تعميق سياسيات الرفاه من خلال توزيع الثروة على المواطنين.. إعتراف من الدولة بأن المواطن على قدر أكبر من الوعي و حسن التدبير و التصرف من الدولة نفسها.. و إعتراف أيضا بقصور الدولة في إدارة أموالها لمصلحة شعبها.

    أسأل الله أن لا يحدث ذلك.. كما أسأله أن يمكن البلد من معرفة أولولياته و حسن إدارة ثروته الناضبة و المسارعة في القضاء على الفساد.

    و لك خالص الشكر أستاذي العزيز.

    ردحذف
  4. شكرا هاشم
    للأسف هذا الخيار هو الخيار الأكثر شيوعا في استغلال الفوائض النفطية في دولة الكويت, واصحاب هذا الخيار لهم حاليا الصوت الاعلى، في كل مكان. أما اصحاب الرؤية طويلة الأمد، الخائفين على مستقبل هذا البلد ومستقبل اجياله القادمة مثلك، فليس لهم صوت مسموع، أسأل الله أيضاان تتحقق دعوتك.

    تابع المدونة، سوف اطرح الخيارات الاخرى في استغلال الفوائض المالية تباعا.

    ردحذف