نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 7/2/2012
بعد انتهاء اتفاقية بريتون وودز في أوائل السبعينيات من القرن الماضي اقترح
عالم الاقتصاد الشهير جيمس توبن J. Tobin والحاصل
على جائزة نوبل في الاقتصاد، فرض ضريبة على صفقات العملات في السوق الحاضر. فقد
كانت هناك مخاوف من أن يؤدي انتهاء العمل بالاتفاقية إلى زيادة مستويات التقلب في
معدلات صرف العملات والناتجة عن تبني الدول الرئيسة في الصندوق لنظام التعويم بدلا
من نظام معدلات الصرف الثابت التي كان معمولا بها وفقا للاتفاقية.
الصورة الأساسية لضريبة توبن هي فرض ضريبة بنسبة 1% على تحركات رؤوس
الأموال الساخنة لاستهداف الأطراف المشتركة في هذه المعاملات الضارة بالسوق، مع إعفاء
تدفقات رؤوس الأموال التي تتم لأغراض
الاستثمار طويل الأجل، وقد كان الهدف من الضريبة في الأساس هو تقليل تقلبات أسواق
النقد الأجنبي وتمكين الدول من تحقيق درجة أكبر من الاستقرار في سياساتها الوطنية،
ولذلك وصف توبن ضريبته بأنها بمثابة عملية "إلقاء الرمال على عجلات
المضاربين".
يكمن السبب الأساسي لمقترح توبن بفرض الضريبة على المعاملات المالية هو
أن تحركات رؤوس الأموال قصيرة الأجل هي السبب الأساسي في حالات عدم الاستقرار في أسواق
النقد الأجنبي، وأن مثل هذه التحركات تتم أساسا بواسطة المضاربين، بينما تحركات
رؤوس الأموال طويلة الأجل تتم أساسا لأغراض الاستثمار المنتج، لذلك تستهدف الضريبة
تحويل المضاربين نحو هذا النوع الثاني من الاستثمارات، من خلال جعل عملية إحلال
الأصول نحو الاستثمارات المنتجة طويلة الأجل أكثر جاذبية للمستثمرين.
يقول الاقتصادي الشهير جون ماينارد كينز "إن المضاربة يمكن أن
تهيمن على النشاط الاقتصادي المنتج كلما اتسعت أسواق الاستثمار في الاقتصاد"،
كما نبه كينز إلى أن الموقف يصبح أكثر خطورة عندما تصبح الأنشطة الاعتيادية
للشركات أقل أهمية مقارنة بأنشطة المضاربة، وهذا هو بالضبط ما يسيطر على كثير من أعمال
المؤسسات المالية في عالم اليوم، حيث أصبحت المضاربة في البورصات أحد الأنشطة
الأساسية للجانب الأكبر من هذه المؤسسات. مثل هذا الاتجاه يؤدي أساسا إلى رفع
مستوى التقلبات في مؤشرات البورصات بصورة كبيرة ويجعل المعلومات التي تحتويها تلك
المؤشرات ذات مغزى أقل.
الضريبة على المعاملات المالية من القضايا الساخنة جدا على الساحة هذه
الأيام، حيث تم طرح الموضوع على طاولة النقاش أكثر من مرة في الاتحاد الأوروبي، من
منطلق أن كل السلع والخدمات تخضع لفرض الضريبة، فلماذا تستثنى المعاملات المالية
منها. النسخة المقترحة حاليا من اللجنة الأوروبية هي فرض ضريبة على المعاملات بين
المؤسسات المالية مثل البنوك وشركات الاستثمار وشركات التأمين وصناديق التقاعد
وصناديق التحوط وغيرها، وذلك بمعدل 0.1% (واحد من عشرة في المئة) على التجارة في
الأسهم والسندات، و 0.01% (واحد من مئة في المئة) على المشتقات، وهي معدلات ضئيلة
جدا كما هو واضح، غير أن المقترح لم ير النور حتى اليوم، ومنذ عدة أيام اعلن
الرئيس ساركوزي أنه سوف يبدأ بتطبيق ضريبة المعاملات المالية، حتى يشجع ذلك باقي
دول أوروبا في أن تحذو حذو فرنسا.
لضريبة توبن
على المعاملات المالية عدة مزايا أهمها
·
أنها تؤدي إلى تخفيض ربحية عمليات المضاربة في البورصات بصورة واضحة،
إذ أنه على الرغم من انخفاض معدل هذه الضريبة، إلا أن ارتفاع معدل تكرار عمليات
المضاربة في البورصة سوف يضمن ارتفاع معدل الضريبة على هذه الأرباح بصورة واضحة،
وبما أنها لا تفرض على المعاملات الاستثمارية العادية فإن تلك الأخيرة لن تتأثر
مما يكفل توجيه الأموال نحو مجالات الاستثمار المنتج، وهو الهدف الأساسي من إنشاء
البورصات باعتبارها وسيط لنقل المدخرات ممن لا يملكون فرصا استثمارية ولديهم فائض
في المدخرات إلى المبادرين الذين لديهم أفكار استثمارية أو إلى شركات الإنتاج التي
تواجه نقصا في المدخرات، بدلا من أن تتحول البورصات إلى شبه صالات للقمار، مثلما
هو الوضع حاليا في معظم أسواق الأسهم في العالم.
·
أنها تؤدي إلى
خفض تقلبات مؤشرات البورصات، نتيجة
خفض عمليات المضاربات في الأصول المالية في الأجل القصير.
·
أنها
تجعل اتجاهات البورصة تعكس الصورة الاقتصادية الحقيقية للشركات المدرجة وأوضاع
الربحية وجودة الأصول بها .. إلى آخر هذه القائمة من المتغيرات التي يفترض أنها
تحدد اتجاهات أسعار الأصول المالية من الناحية الحقيقية في ظل غياب الحوافز نحو
المضاربة.
·
أن هذه الضريبة تتسم بغزارة الحصيلة
مما يساعد على مواجهة عجز الميزانيات العامة للدول، من خلال زيادة إيرادات
الدولة، على سبيل المثال فإن الضريبة المقترحة من جانب اللجنة الأوروبية، على
ضآلتها، يتوقع أن تؤدي إلى تحقيق إيرادات تقدر بـ 57 مليار يورو (حوالي 75 مليار
دولارا) سنويا.
·
أنها تعطي
السلطات النقدية استقلالية أكبر في تحديد معدلات الفائدة وفقا للمستهدفات التي
يراها البنك المركزي، وليس وفقا لضغوط المضاربة.
·
أنها
تمكن صانع السياسة الاقتصادية من السيطرة بصورة أكبر على الأزمات المالية نظرا
للسيطرة المفترضة على تدفقات رؤوس الأموال مع فرض الضريبة، حيث ستؤدي الضريبة إلى الحد
من التدفقات الحادة لرؤوس الأموال بين البورصات المختلفة في الدول التي تسمح بهذه
التدفقات.
·
إجبار
المؤسسات المالية على المشاركة في تحمل أعباء عمليات إنقاذ الأسواق المالية نتيجة
للأزمات، على سبيل المثال لقد كلفت الأزمة المالية الحالية الاتحاد الأوروبي أكثر
من 4.6 تريليون يورو (حوالي 6 تريليون دولارا)، وأن الوقت قد حان لكي تساهم
المؤسسات المالية بجزء من هذه التكلفة الضخمة في صورة الضريبة المقترحة.
·
أن عملية فرض وتحصيل مثل هذه الضريبة سوف تكون مسألة
سهلة حيث يصعب التهرب منها لسهولة حصرها، باعتبار أن العقود المنفذة للمعاملات
المالية تسجل في أسواق المال والمؤسسات المالية، وهذه يسهل فرض الرقابة اللصيقة
عليها ومتابعتها بشكل جيد.
هذه هي مزايا الضريبة على المعاملات المالية.
بالطبع، نظرا لضخامة الأرباح التي تحققها المؤسسات المالية والمضاربين في أسواق
المال فمن المتوقع أن مجرد الحديث عن فرض مثل هذه الضريبة سوف يواجه بهجوم حاد من
تلك المؤسسات لمحاولة إبراز المضار التي يمكن أن تتحقق على المديين القصير والبعيد
من فرض مثل هذه الضريبة وهذا هو محور الجزء الثاني من هذا المقال في الأسبوع
القادم بإذنه الله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق