نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 28/2/2012
نظرا لتصاعد المخاطر في الاقتصاد العالمي، بصفة خاصة نتيجة ارتفاع
درجة عدم التأكد الناتجة عن المخاطر الكامنة من مشكلة ديون أوروبا، فإن درجة عدم
التأكد المحيطة باقتصاديات العالم تعد في أعلى مستوياتها حاليا، ونتيجة لذلك
يتراجع معدل النمو في معظم أنحاء العالم المتقدم والناشئ على السواء. في مواجهة
الضغوط على النمو نحو التراجع فقد العالم قدرته على استخدام أدوات السياسة المالية
نظرا لبلوغ أدوات السياسة المالية حدودها القصوى، وبلوغ المخاطر المصاحبة للسياسة
أوجها مع تصاعد الديون السيادية للعالم إلى مستويات خطيرة بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي.
الخيارات المتاحة للعالم للتعامل مع أزمة النمو أصبحت محدودة للغاية، ولذلك عاد
العالم ليجرب مرة أخرى تيسير السياسات النقدية لرفع مستويات النشاط الاقتصادي ووقف
الاتجاه النزولي في النمو.
أهم الدول التي تتجه نحو تيسير سياساتها النقدية حاليا هي اليابان
والصين واللتان تتشابه مشكلاتهما إلى حد كبير مع وجود بعض الفوارق في المسببات.
ففي الصين تتراجع حاليا معدلات النمو في الكثير من القطاعات في الاقتصاد الصيني بصفة
خاصة سوق المساكن، حيث يمثل تراجع الاستثمار في قطاع المساكن أحد المخاطر الأساسية
التي تواجهها الصين اليوم، كذلك تتراجع الصادرات الصينية متأثرة بمشكلة الديون الأوروبية،
ويتراجع نتيجة لذلك معدل النمو في احتياطياتها، كما كان معدل النمو في عرض النقود
(رقم 1) سالبا لهذا العام.
جاءت استجابة صانع السياسة الصيني لهذه المشكلات في تيسير السياسة
النقدية، حيث قام البنك المركزي بتخفيض نسبة الاحتياطي القانوني بمقدار نصف في
المئة من 21% إلى 20.5% بدءا من 24 فبراير هذا الشهر، وذلك لمساعدة البنوك الصينية
على منح المزيد من التسهيلات الائتمانية للمحافظة على استمرار معدلات النمو
الاقتصادي. تجدر الإشارة إلى أن هذه النصف في المئة سوف تمكن البنوك الصينية من
تحرير حوالي 400 مليار يوان من احتياطياتها القانونية والتي يمكن استخدامها بشكل
مباشر في التوسع في عمليات الإقراض.
البنك المركزي الصيني يقاوم حتى الآن تخفيض معدلات الفائدة، حيث مازال
التضخم مرتفعا بعض الشيء (حوالي 4.5%)، ومع تراجع الضغوط التضخمية فإن البنك
المركزي الصيني سوف يقوم بتخفيض معدلات الفائدة، مما يعني أن معدلات الفائدة سوف
تظل أداة ثانوية للسياسة النقدية في الصين وأن التركيز الأساسي حاليا هو على استخدام
معدلات الاحتياطي القانوني، وتشير الدلائل المتاحة إلى أن التخفيض الحالي في نسبة
الاحتياطي القانوني لن يكون التخفيض الأخير، حيث يتوقع أن يتزايد عرض النقود (رقم
2) في الصين هذا العام بحدود 14% وهو ما يعني أن الخفض في معدل الاحتياطي القانوني
الحالي لن يكون كافيا لهذا العام، ومن المتوقع ان يتم تخفيض المعدل مرة أو مرتين
في الجزء المتبقي من السنة. المحصلة النهائية المتوقعة من هذه الإجراءات هي حدوث
تراجع في معدل الفائدة، لتشجيع قطاع المساكن والذي تراجعت الأسعار به أو توقفت في
بعض الأحيان عن الارتفاع، ورفع مستويات النمو في باقي القطاعات.
من ناحية أخرى هناك تقارير تشير إلى تدخل البنك المركزي الياباني في
سوق الصرف الأجنبي بشكل مكثف، وعلى نحو خفي في الوقت ذاته، لبيع الين (تسهيل
السياسات النقدية) بهدف الحد من ارتفاعه، والضغط على قيمته للاتجاه نحو الانخفاض،
وذلك لزيادة درجة تنافسية الصادرات اليابانية. التقارير المتاحة تشير إلى ان
اليابان استخدمت حوالي تريليون ين في الأيام الأربع الأولى من نوفمبر الماضي، وكذلك
استخدمت حوالي 8 تريليونات ين في أكتوبر عندما صعد الين إلى مستوى 75 ينا للدولار.
بالطبع هذه العمليات تحدث تأثيرا سلبيا على قيمة الين، والتي تمر حاليا مر الكرام
دون أن يلاحظها، أو ربما دون أن يعلق عليها، صانعي السياسة في الدول المنافسة
لليابان، ربما بسبب الأوضاع السيئة التي يمر بها الاقتصاد الياباني.
عمليات التيسير النقدي في اليابان تتم دون أن تحدث تأثيرات ملموسة على
الأسعار، ولذلك يستهدف بنك اليابان المركزي معدل تضخم مستهدف 1%، والذي يعد منخفضا
نسبيا، وقد تم انتقاده على انه يعكس استعداد اليابان لتحمل ين مرتفع القيمة، ويرغب
بعض أعضاء البرلمان الياباني في مضاعفة هذا المعدل المستهدف مرتين أو ثلاث، ولا شك
أن هذا سوف يتطلب تيسيرا كبيرا في السياسات النقدية اليابانية. استجابة بنك
اليابان المركزي بتيسير سياساته النقدية جاءت في أعقاب الانتقادات والضغوط
السياسية. بالطبع مع معدلات فائدة تتراوح بين صفر و 0.1% فإن تيسير السياسة
النقدية لا يمكن ان يأتي من جانب معدلات الفائدة ويجب ان يتم أساسا من خلال
التيسير الكمي، وللتبسيط فإن التيسير الكمي هو سياسة تهدف إلى زيادة عرض النقود من
خلال تعديل هيكل الأصول في ميزانية البنك المركزي، وقد تم بالفعل إضافة 10 تريليون
ين في عمليات شراء أصول قام بها البنك المركزي الياباني. التيسير الكمي الياباني
هدف أساسا إلى وقف الارتفاع المستمر في قيمة الين الذي أثر بشكل سلبي على الصادرات
اليابانية وميزان المدفوعات الياباني، كما تناولنا ذلك في الأسبوع الماضي
بالتفصيل.
مؤخرا أيضا قام البنك المركزي في الهند بخفض نسبة الاحتياطي القانوني
من 6% إلى 5.5% لأول مرة منذ 2009 وهو ما يسمح للجهاز المصرفي بزيادة حجم الائتمان
من خلال تخفيض نسب السيولة المطلوبة في البنوك، وتشير التقارير الواردة عن البنك
المركزي أن الهند في سبيلها لتخفيض معدلات الفائدة عندما تميل الضغوط التضخمية في
الهند نحو التراجع، وتنوي الهند تخفيض عجز ميزانيتها العامة لتخفيف الضغوط على سوق
الاقتراض ومن ثم السماح بخفض معدلات الفائدة بسهولة.
كذلك قام البنك المركزي الإندونيسي بخفض معدل الفائدة الأساسي لأول
مرة منذ 3 أعوام من 6% إلى 5.75%، وأعلن البنك المركزي البريطاني بأنه سوف يضخ 50
مليار جنيه في الاقتصاد البريطاني لحماية التعافي الاقتصادي من التأثير المحتوم
لأزمة الديون في منطقة اليورو. كما قامت دول ناشئة أخرى في العالم بخفض معدلات
الفائدة مثل البرازيل وروسيا والفلبين.
يوما بعد يوم يتزايد اتجاه العالم نحو تيسير السياسات النقدية خصوصا
وأن مخاطر تيسير السياسات النقدية في العالم تعد محدودة للغاية بسبب حالة الانكماش
التي يعاني منها العالم، ففي ظل الانكماش الحالي يصبح ارتفاع الأسعار أمرا غير
متوقع.
مووووووووووووووفق
ردحذف