الجمعة، فبراير ٠٣، ٢٠١٢

اتجاهات النمو في الاقتصاد السعودي: الإنفاق الكلي

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 3/1/2012

في حلقة اليوم نتناول توازنات الناتج المحلي الإجمالي للمملكة خلال الفترة من 1970-2011. يتكون الإنفاق الكلي من الناحية النظرية من الإنفاق الاستهلاكي الخاص، والإنفاق الاستثماري والإنفاق الحكومي على السلع والخدمات (أحيانا يطلق عليها المشتريات الحكومية)، وصافي الصادرات (الفرق بين الصادرات والواردات).


عبر الأربعة عقود الماضية حدث تحول واضح في هيكل الإنفاق الكلي في المملكة، ففي عقد السبعينيات كان صافي الصادرات هو أكبر مكونات الإنفاق في المملكة، حيث كانت المملكة تحقق فوائض كبيرة في ميزان مدفوعاتها بالنسبة للناتج في ذلك الوقت، غير أن هذه الفوائض لم تنعكس بصورة واضحة على مستويات الاستهلاك، سواء الاستهلاك الخاص أو الاستهلاك الحكومي، سوى لاحقا في عقد الثمانينيات، ففي خلال فترة السبعينيات بلغ الإنفاق الاستهلاكي الخاص أدنى مستوياته كنسبة من الناتج في عام 1974 حوالي 10.9%، وهي نسبة متدنية للغاية، تعكس انخفاض حجم الإنفاق الاستهلاكي الخاص سواء من الناحية المطلقة أو كنسبة من الناتج في ذلك الوقت. غير أنه بمرور الوقت أخذت نسبة الإنفاق الاستهلاكي الخاص إلى الناتج في التزايد بفعل زيادة مستويات الدخل الفردي نتيجة لانعكاس الفوائض على دخول الأفراد ومستويات معيشتهم.


تشير البيانات المتاحة إلى أن الفورة الاستهلاكية الحقيقية في المملكة قد تحققت في عقد الثمانينات، حيث بلغت نسبة الإنفاق الاستهلاكي الخاص في عام 1986 حوالي 55% من الناتج وهي نسبة مرتفعة للغاية، وفي المتوسط بلغ الإنفاق الاستهلاكي الخاص 46.8% خلال الثمانينيات، غير أنه الإنفاق الاستهلاكي الخاص قد مال نحو التراجع في العقدين اللاحقين، من 44.2% في المتوسط في عقد التسعينيات، إلى 32.1% في المتوسط في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولكن هذا بالطبع لا يعني أن الإنفاق الاستهلاكي الخاص قد تراجع من الناحية المطلقة، على العكس لقد استمر الإنفاق الاستهلاكي الخاص في التزايد، كما يتضح من الشكل رقم (1)، ذلك أن هذه الفترة قد شهدت تزايد معدلات النمو في الناتج بصورة أكبر من معدلات النمو في الإنفاق الاستهلاكي.


مكنت الفوائض النفطية الضخمة التي حققتها المملكة القطاع الحكومي من أن يلعب دورا جوهريا في الاقتصاد السعودي، فقد كان الإنفاق الحكومي متواضعا للغاية، كنسبة من الناتج في عقد السبعينيات، حيث لم تزد نسبة الإنفاق الاستهلاكي الحكومي إلى الناتج عن 16%، غير أن ارتفاع حجم الفوائض قد ساعد الحكومة على توسيع دورها لدرجة أنه في عقد الثمانينيات بلغ متوسط نسبة الإنفاق الاستهلاكي الحكومي 30.1%، وهي نسبة مرتفعة نسبيا. كذلك يلاحظ أن نسبة الإنفاق الاستهلاكي الحكومي تناقصت في المتوسط حتى بلغت 23.3% في العقد الأول من هذا القرن، إلا أن الشكل رقم (1) يوضح أن الإنفاق الحكومي يتزايد بشكل عام من الناحية المطلقة، وتنبغي الإشارة إلى أن هذا الدور المكثف للقطاع الحكومي يعد قاسما مشتركا في الدول النفطية في المنطقة، حيث ينظر إلى الإنفاق الحكومي على أنه أحد وسائل توزيع الثروة وآلية هامة لرفع مستويات الرفاه لعموم المواطنين.
يعبر صافي الصادرات عن صافي انفاق القطاع الخارجي، أي الفرق بين إنفاق المقيمين على الناتج المحلي الإجمالي في الخارج (الواردات)، وإنفاق غير المقيمين على الناتج المحلي الإجمالي للدولة (الصادرات). وكما يتضح من الجدول رقم (1) فإن صافي الصادرات كان في المتوسط موجبا، بمعنى أن المملكة تحقق فوائض في ميزان مدفوعاتها بشكل عام، وقد بلغت نسبة صافي الصادرات إلى الناتج في الفورة النفطية الأولى خلال السبعينيات 37.6%، أما عقدي الثمانينيات والتسعينيات فقد شهدا تراجعا كبيرا لهذه النسبة على نحو واضح بلغ في المتوسط 0.3% خلال عقد التسعينيات نظرا لتراجع الإيرادات النفطية بفعل انخفاض أسعار النفط الخام، من ناحية أخرى ترتب على الفورة النفطية الثانية في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين إلى ارتفاع نسبة صافي الصادرات مرة أخرى إلى 24.1% من إجمالي الناتج، وبشكل عام كان ميزان المدفوعات السعودي في حالة فائض خلال الأربعة عقود الماضية في المتوسط.



يعد الإنفاق الاستثماري اهم جوانب الإنفاق الكلي في أي اقتصاد، إذ تعتمد عليه مستويات نمو وتنافسية اقتصاديات الدول بشكل عام، لذا يعد استقرار هذا الإنفاق من العناصر الهامة للنمو، وبالنظر إلى اتجاهات الإنفاق الكلي في المملكة يلاحظ أن الإنفاق الاستثماري هو أكثر أنواع الإنفاق تقلبا، حيث يتضح من الشكل رقم (3) أن هذا الإنفاق يميل إلى التقلب بصورة واضحة من سنة إلى أخرى، وهو ما لا يوفر أساسا متينا لعملية التنمية الاقتصادية في الدولة، ذلك أن أحد الخصائص الأساسية لخطط التنمية التي تتبناها الدول المختلفة تتمثل في ضرورة تخصيص انفاق كبير على مشروعات التنمية الأساسية مثل مشروعات البنية التحتية ومشروعات تقديم الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة وتوليد الكهرباء وتحلية المياه وغيرها من المشروعات الهامة لإرساء أساس مناسب لتحقيق تلك الخطط لمستهدفاتها الأساسية التي تسعى إليها، ويمكن أن يعزى تقلب الإنفاق الاستثماري إلى التقلبات في حصيلة الإيرادات النفطية، وذلك بفعل الدور المحوري الذي يلعبه القطاع النفطي. لقد كان من المفترض أن تستخدم المملكة احتياطياتها العامة لضمان استقرار الإنفاق على هذا الجانب الحيوي.

من ناحية أخرى يلاحظ أن الإنفاق الاستثماري كنسة من الناتج في المملكة يعد صغيرا، وذلك أخذا في الاعتبار الإمكانيات المالية الكبيرة للمملكة، حيث لم تزد نسبة الإنفاق الاستثماري في المتوسط عن 23% تقريبا من الناتج خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، وحاليا تصل هذه النسبة في المتوسط إلى حوالي 20%، وهي  نسبة محدودة جدا سواء بمقاييس الدول النامية أو بالمقاييس العالمية، خصوصا بالنسبة للدول التي تحقق فوائض مالية كبيرة في ميزانياتها مثل المملكة. إن هذه المستويات للإنفاق الاستثماري في الدولة تفسر عدم القدرة على تنويع مصادر الإنتاج والدخل، وعدم القدرة على الفكاك من قيد النفط الذي يكبل انطلاق عملية النمو للقطاعات غير النفطية حتى الآن.

هناك تعليق واحد: