الثلاثاء، أبريل ٢٤، ٢٠١٢

آن الأوان لحظر عقود المضاربات النفطية في العالم

نشر في صحيفة الاقتصادية يوم الثلاثاء 24/4/2012

يتصاعد دور عمليات المضاربة في عقود المستقبليات النفطية Oil Futures Contracts على نحو واضح يوما بعد يوم، حيث تضخ صناديق التحوط التي تتعامل في السلع والبنوك والمستثمرين من كافة أنحاء العالم مليارات الدولارات بصورة يومية لتبادل تلك العقود. لتبسيط العرض على القارئ فإن عقد المستقبليات هو عقد لشراء كمية معيارية (على سبيل المثال 1000 برميل) من النفط تسلم في تاريخ محدد (على سبيل المثال بعد 3 أشهر)، في مقابل دفع هامش محدد من قيمة العقد، وليكن 5%، وذلك في سوق المستقبليات Futures Market الخاص بالسلعة، هذا الهامش سوف يمثل حساب المشتري لدى سمسار العقود، ومع تغير أسعار النفط يتغير بالطبع هذا الهامش ارتفاعا وانخفاضا، حتى ينفذ المشتري العقد أو يطلب من السمسار إنهاء الحساب.

من الناحية العملية فإن ما يتم تنفيذه فعليا من هذه العقود، أي بتسليم أو استلام النفط من الناحية المادية، هو نسبة ضئيلة جدا، إذ بمجرد ما يتم إبرام العقد، يتحول المشتري للعقد للبحث عن مشتر آخر له يدفع سعرا أعلى وذلك إذا مال السعر نحو الارتفاع، فيحقق ربحا من العقد، أو حتى إذا مال السعر نحو الانخفاض فيحقق خسارة في العقد. مثل هذه الخاصية التي تسمح لمشتري عقد المستقبليات ببيعها في أي وقت يؤدي إلى أن أسواق المستقبليات في النفط تشهد تبادلات لا نهائية للعقود النفطية قبل إتمام عملية تسليم الصفقة للمشتري النهائي، ومن الناحية العملية فإن معظم المتعاملين في أسواق المستقبليات النفطية ليس لديهم نية حقيقية في استلام الشحنات النفطية المنصوص عليها في العقود، وإنما الهدف الأساسي لمعظم المتعاقدين في عقود المستقبليات هو المضاربة في هذه العقود (أي المضاربة على ورق)، وذلك من خلال شراء عقود المستقبليات ثم البحث عن مشتر آخر لها في وقت لاحق، والخروج من السوق مع تحقيق أرباح أو خسائر حسب اتجاهات السعر، وبمعنى أدق فإن الطلب في مثل هذا النوع من الأسواق لا يمثل في الجانب الأكبر منه طلبا حقيقيا، وإنما تلاعب بأوراق عقود المستقبليات في النفط.

بما أنه ليس هناك التزام حقيقي بالتنفيذ المادي للعقد فمن الممكن مع اشتعال عمليات المضاربة أي يبلغ التداول الوهمي كميات هائلة من النفط، على سبيل المثال أشار مايكل ماسترز في شهادته أمام الكونجرس في 2009 إلى أن المضاربين في أسواق المستقبليات يتداولون عقودا بكميات تزيد عن مليار برميل يوميا، وذلك مقارنة بالإنتاج العالمي الفعلي للنفط والذي يقدر بحوالي 85 مليون برميل يوميا فقط، وهو ما يعني، إن صحت هذه التقديرات، أن الإنتاج الفعلي للعالم لا يمثل سوى حوالي 10% فقط من إجمالي ما يتم تداوله من نفط في أسواق المستقبليات. غير أن بعض الدراسات تشير إلى أن كمية النفط التي يتم تداولها في أسواق المستقبليات تمثل حوالي 3 أضعاف الإنتاج اليومي الفعلي، والبعض الآخر يشير إلى أن صافي هذه المعاملات ربما لا يصل إلى نصف الإنتاج اليومي للعالم، وأيا كان الوضع فإنه من الواضح أن الكميات التي يتم التعامل عليها في أسواق المستقبليات هي بالفعل كميات ضخمة، وهي من هذا المنطلق مرشحة لأن يكون لها تأثير على الأسعار الفعلية التي يدفعها العالم للنفط الخام.

وبما إن عمليات التداول في أسواق المستقبليات سوف تسمح بمضاربات يومية على كميات ضخمة من النفط، فإن المشكلة الأساسية هي أن هذا التلاعب "القانوني" يتعلق بأهم سلعة تجارية في العالم، ومن ثم فإنه في سبيل سعي حفنة من المضاربين لتحقيق أرباح من هذه العمليات الوهمية، فإن العالم أجمع يدفع الثمن في صورة ارتفاع تكاليف إنتاج السلع والخدمات وأسعار بيعها في كافة أنحاء العالم

في أوائل شهر أبريل ادعى جوزيف كيندي النائب السابق من ماساتشوستس ورئيس شركة Citizens Energy Corporation أن الارتفاع الأخير في أسعار النفط يعود إلى أنشطة المضاربين في سوق المستقبليات النفطية، وأن المستهلكين في الولايات المتحدة يدفعون سعرا أعلى للنفط بسبب أنشطة المضاربة في أسواق المستقبليات، فالمضاربة في رأي كيندي تؤدي إلى ارتفاع سعر النفط بصورة كبيرة عن تكلفة الإنتاج الفعلية التي تقدر حاليا بحوالي 11 دولارا في المتوسط عالميا، في الوقت الذي يزيد فيه  السعر السوقي عن 100 دولارا أمريكيا، ويشير جوزيف كيندي أن العوامل التي تقف وراء ارتفاع أسعار النفط يعود بعضها إلى قوى ليست تحت سيطرة الولايات المتحدة مثل تصاعد الطلب في الدول عالية النمو، على سبيل المثال الصين والهند، إلا أن هناك عوامل أخرى تسهم في السعر المرتفع للنفط والتي يمكن أن تسيطر عليها الولايات المتحدة، وعلى رأس هذه العوامل المضاربة والتي تتمثل في هؤلاء "المستثمرين" الذين يقومون بشراء وبيع النفط في الأسواق المستقبلية له ولكنهم لا يستلمون أو يسلمون الكميات المشتراه أو المباعة بالفعل من الناحية المادية. فمثل هذه المضاربات في النفط لا تقدم أية قيمة مضافة للصناعة النفطية أو للعالم، بقدر ما ترفع من تكلفة الإنتاج العالمي، وهي من هذا المنطلق تدخل في مجال المعاملات التجارية الضارة، لأن جوهر عملية المضاربة هو الضغط على السوق لدفع السعر نحو الارتفاع ومن ثم بيع العقود الورقية بأسعار أعلى.

وفقا لشهادة ركس تيلرسون المدير التنفيذي لإكسون موبيل أمام الكونجرس العام الماضي، فإن المضاربة ربما تكون مسئولة عن ارتفاع أسعار النفط بحوالي 40%. الدراسات الحديثة التي تناولت محددات أسعار النفط الخام أشارت بالفعل إلى أن النمو في أسعار النفط الخام لا يرجع كله إلى العوامل الأساسية المحددة للطلب والعرض في السوق العالمي للنفط الخام، وأن جانبا من الزيادات التي تحدث في أسعار النفط الخام ترجع أساسا إلى توافر التمويل المتزايد لأسواق المستقبليات في النفط الخام، الأمر الذي يسهل إبرام عقود المضاربة في النفط، والتي أصبحت أحد المحددات المستجدة لأسعار النفط في السوق الحاضر للنفط الخام حاليا، غير أن الدراسات المتاحة تشير أيضا إلى أن المضاربة لم تكن المحدد الأساسي للتقلبات السعرية للنفط، وأن اتجاهات الارتباط بين الأسعار الحاضرة والأسعار المستقبلية للنفط تعكس بالدرجة الأولى العوامل الاقتصادية الأساسية أكثر من آثار المضاربة في النفط. الموضوع إذن في حاجة إلى المزيد من الدراسة بمداخل عملية أدق أو أقوى من الناحية التطبيقية لتقييم الأثر الحقيقي لعمليات المضاربة على السعر العالمي للنفط الخام، إلا أنه من المؤكد أن هذه المضاربات تحدث ضغوطا على سعر النفط نحو الارتفاع أو الهبوط.

بعض الاقتصاديين يرون في عمليات المضاربة في سوق المستقبليات أمرا إيجابيا أكثر منه سلبيا لأنه يمكن المتعاملين في السوق، سواء المنتجين أو المستهلكين، من تنويع المخاطر من خلال تغطية مواقفهم المكشوفة بصورة أكثر كفاءة وزيادة مستويات سيولة الصناعة النفطية. غير أن كيندي يرى أن النفط يختلف عن باقي السلع، فارتفاع سعر سلعة ما يمكن المستهلكين لها من التحول نحو سلعة بديلة لها، أما النفط فمشكلته أنه سلعة ليس لها بديل، ومن ثم فإن ارتفاع أسعاره له آثار كبيرة على مستويات الأرباح والاستثمار في كافة اقتصاديات دول العالم. في نهاية مقالة دعا جوزيف كيندي الحكومة الأمريكية إلى منع عقود المستقبليات في النفط داخل الولايات المتحدة، ولم تقتصر دعوته على ذلك بل طالب الحكومة الأمريكية بالتعاون مع الأسواق الأوروبية والآسيوية لوقف المضاربات في أسواق السلع العالمية.

في رأيي أنه إذا كانت المضاربة مسئولة عن جانب من  التطورات في أسعار النفط الخام هبوطا وصعودا، فإن السيطرة على الاتجاهات السعرية لهذه المادة الحيوية للعالم تتطلب الحد من المضاربة الضارة في سوق النفط الخام لحماية كل من المنتجين والمستهلكين للنفط الخام من تأثيرات المضاربة الضارة. إذ لا يمكن للعالم، ولا يجب أن يسمح، أن يستمر سوق أهم سلعة تجارية في العالم بهذه الصورة، تحت ضغوط حفنة من المضاربين لا هم لهم سوى جمع المال بهذه الطرق الخبيثة التي حرمها الله سبحانه وتعالى.

هناك تعليقان (٢):