الاثنين، أغسطس ٠٦، ٢٠١٢

هروب رؤوس الأموال (2)


نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 3/8/2012 
تناولنا في الحلقة الأولى من هذا المقال خلفية نظرية عن عمليات هروب رؤوس الأموال ومسبباتها وطرق التهريب، اليوم نتناول تقديرات هروب رؤوس الأموال في العالم وذلك وفقا للتقرير الذي أصدرته شبكة العدالة الضريبية في الشهر الماضي عن الثروات التي غير المسجلة والتي يعتقد أنها توجد في مراكز الأوفشور التي تمثل جنة الضرائب لمثل هذه الثروات.


مراكز الأوفشور التي تمثل جنات للضرائب تتصف بخاصيتين رئيسيتين، السرية المطلقة حيث لا يمكن، أو ليس من السهل، الحصول على المعلومات المالية من البنوك الموجودة في هذه المراكز أو غيرها من المؤسسات المالية لاستخدامها في أغراض مثل فرض الضرائب، وكذلك سرية الكيانات القانونية القائمة فيها، حيث قد لا تسمح القوانين أو الممارسات الإدارية المطبقة بتوفير المعلومات عن الشركات أو المؤسسات أو غيرها من الكيانات القانونية، مثل المعلومات عن المالكين أو المساهمين أو المستفيدين، أو الأشخاص المسؤولين عن استخدام الأصول أو الحسابات المالية إلى آخر هذه المعلومات المهمة التي يمكن أن تساعد في تتبع اصحاب الثروات المختبئة في هذه المراكز. الصفة الثانية الأساسية هي عدم وجود الضرائب أو انخفاض الضرائب الى مستويات دنيا، أو أن القوانين السارية يمكن الالتفاف حولها بسهولة للتخلص أو التهرب من عبء الضريبة، على سبيل المثال من خلال تشكيل الكيانات القانونية للشركات بالصورة التي تمكن من ذلك.


بالطبع تقدم جنات الضرائب في العالم خدمة جليلة لأصحاب الثروات والتي تتمثل في إمكانية التهرب من دفع التزاماتهم الضريبية، نظرا لضمان إخفاء أساس الضريبة وهو الثروة،  وبالرغم من أن هذا الأمر مفيد لصاحب الثروة، إلا أن ذلك يترتب عليه خسارة للدول التي ينتمي إليها أصحاب هذه الثروات، وذلك لفقدان الإيرادات الضريبية التي يمكن تحصيلها على هذه الثروات أو الدخول التي تتولد عنها. معنى ذلك أن مراكز الأوفشور تساهم بهذا الشكل وبصورة فعالة في جريمة التهرب الضريبي على المستوى الدولي.


تقدر شبكة العدالة الضريبية أنه في عام 2010 يملك أثرياء العالم أصولا مالية تقدر بحوالي 21 تريليون دولارا من الأصول المالية غير المسجلة والمخبأة في جنات الضرائب السرية، لاحظ أن هذا الرقم ضخم جدا إلى الحد الذي يتجاوز فيه إجمالي الناتج المحلي الإجمالي لاثنين من أكبر اقتصاديات العالم وهما اقتصاد الولايات المتحدة واليابان. من ناحية أخرى فإن الشبكة أيضا تقدر أن الأشخاص ذوي الثروات المرتفعة يملكون حوالي 32 تريليون دولارا من الأصول المختبئة في مراكز الأوفشور، وهو ما يقترب من نصف حجم الاقتصاد العالمي. الواقع أن مثل هذه التقديرات الخيالية تثير الشكوك حول مدى دقة تلك التقديرات.


بالنسبة للشبكة تعد هذه التقديرات متحفظة لأنها تتناول فقط تقديرات الثروة المالية للأغنياء، ومن ثم لا تشمل باقي أشكال الثروة مثل الأصول الحقيقية كالعقارات والمقتنيات الثمينة وغيرها من أشكال الثروة غير المالية. على أي حال تمثل تقديرات الشبكة لهذه الثروات المختبئة ما يتراوح بين 21 – 32 تريليون دولار، والتي تمثل أساس للضريبة التي لو جمعت على عوائد هذه الثروات فإن الدول النامية يمكن أن تحقق ما بين 190-280 مليار دولارا سنويا كإيرادات ضريبية على عوائد هذه الثروات، وهو رقم ضخم بمقاييس المالية العامة لحكومات الدول النامية، حيث يمثل هذا الرقم ضعف تدفقات مساعدات التنمية الرسمية إلى الدول النامية سنويا.


بالطبع عندما نقوم بالتعميم على الدول النامية فإن هذه الإيرادات الضائعة تمثل مصادر مالية يمكن أن تحدث فارقا كبيرا في التمويل المتاح للعديد من دول العالم، بصفة خاصة الدول الفقيرة، لكن بالنسبة لبعض الدول الأخرى مثل الدول النفطية التي لا تجمع ضرائب أصلا ولا تتدفق لها مساعدات مالية خارجية، بل إنها في واقع الأمر تندرج في نطاق الدول المانحة، أو حتى الدول الناشئة مثل الصين، فإن إيراداتها الضائعة من الضرائب على هذه الثروات لن تضيف بعدا جوهريا لماليتها العامة.


من بين هذه التقديرات قامت شبكة العدالة الضريبية بعمل تقديرات لرصيد ثروات الأغنياء في أكبر 20 دولة يتم تحويل الأموال منها في العالم إلى مراكز الأوفشور والموضحة في الجدول رقم (1)، ويلاحظ من الجدول أن هناك دولتان عربيتان تقعان بين أكبر 20 دولة في العالم يملك أثرياءها ثروات في مراكز الأوفشور وهما الكويت والسعودية. حيث تحتل الكويت المرتبة الخامسة عالميا بالنسبة لحجم الثروات المخبئة في مراكز الأوفشور المالية برصيد يصل إلى حوالي نصف تريليون دولارا، بينما تحتل المملكة المرتبة العاشرة عالميا برصيد يقدر بـ 308 مليار دولارا. فهل بالفعل هذه التقديرات لثروات أثرياء هاتين الدولتين دقيقة؟ شخصيا أميل إلى التشكيك في صحة هذه التقديرات لهذه الثروات المختبئة في جنات الضرائب لأثرياء هاتين الدولتين لعدة أسباب:


الأول أنه إذا كان الحافز الأساسي للاحتفاظ بهذه الثروات في الخارج هو البحث عن جنة للضرائب في مراكز الأوفشور، فإن السعي نحو التهرب من الضرائب لا يمثل حافزا لأصحاب الثروات في هاتين الدولتين حيث لا توجد ضرائب تقريبا على الثروات في هاتين الدولتين، ومن ثم فليس هناك المحفز الضريبي الذي يمكن أن يدفع بهذه الثروات الضخمة للانتقال والاختباء في هذه المراكز. فبشكل عام تعد دول مجلس التعاون جنات ضرائب.


قد يقول قائل أيضا أن هذه الثروات تختبئ بسبب محفزات أخرى، أهمها أنها نشأت أساسا من مصادر غير مشروعة، قد يكون هذا مبررا معقولا، ولكن هل يصل حجم الاقتصاد الخفي في هاتين الدولتين إلى الحد الذي يمكن أن يولد هذا القدر من الثروات؟ في الحقيقة لا يمكن الإجابة عن هذا التساؤل لغياب الدراسات الدقيقة عن حجم الاقتصاد الخفي في الدولتين.


جدول رقم (1) تقديرات الثروات المختبئة في مراكز الأوفشور


الرصيد
الدولة
الترتيب
الرصيد
الدولة
الترتيب
283
ماليزيا
11
1189
الصين
1
283
نيجيريا
12
798
روسيا
2
242
المجر
13
779
كوريا
3
169
سنغافورة
14
520
البرازيل
4
167
أوكرانيا
15
496
الكويت
5
165
بولندا
16
417
المكسيك
6
158
تركيا
17
406
فنزويلا
7
147
ايران
18
399
الأرجنتين
8
141
ساحل العاج
19
331
إندونيسيا
9
138
كزاخستان
20
308
السعودية
10


المصدر: Tax Justice Network “The Price of Offshore Revisited” July 2012


الثاني أن هذه التقديرات للثروات المختبئة قد تكون مرتفعة بشكل كبير جدا في حالة الكويت على نحو خاص لعدة أسباب أهمها أن الدولة هي المالك الرئيس للعنصر الأساسي المولد للدخل في الدولة وهو النفط، والذي تتولى الدولة مهمة بيعه إلى الخارج وتوزيع الإيرادات النفطية من خلال برامج الإنفاق العام المختلفة، ومثلما هو الحال في الدول النفطية في المنطقة، يمثل القطاع النفطي المساهم الأكبر في الناتج المحلي الإجمالي، من ناحية أخرى فإن الناتج غير النفطي ليس جوهريا إلى الحد الذي يمكن من تكوين هذا القدر الضخم من الثروات، وأخيرا فإن الصندوق السيادي للدولة وهو أكبر الأصول المالية التي تملكها الكويت على الإطلاق يمثل حوالي نصف هذه التقديرات وهو أمر غير منطقي. 


لهذه الأسباب أميل إلى الاعتقاد بأن هذه التقديرات مبالغ فيها، وأن هذه المبالغة في التقديرات ربما تعود إلى أسلوب حساب الثروات بالطرق المستخدمة في تقدير هروب رؤوس الأموال من ميزان المدفوعات الخاص بالدولة، على سبيل المثال غالبا ما يدرج بند "السهو والخطأ" ضمن تقديرات الأموال الهاربة، وفي عام 1992 عندما بدأت عملية تحرير الكويت من الاحتلال العراقي وإعادة إعمار الكويت أنفقت الكويت قدرا ضخما من احتياطياتها في العملية، وفي هذا العام ظهر بند السهو والخطأ في ميزان المدفوعات الكويتي على نحو غير مسبوق، بالطبع وفقا لأساليب التقدير المتعارف عليها في مجال هروب رؤوس الأموال سوف ينظر إلى هذا الرقم على أنه هروب لرؤوس الأموال الخاصة، بينما هو في حقيقة الأمر غير ذلك.


وأخيرا إذا ما افترضنا أن هذه التقديرات صحيحة هل يمكن تبرير ارتفاع حجم الثروات المختبئة لأثرياء الكويت بالنسبة لأثرياء المملكة، مع أن الاقتصاد السعودي يفوق حجم الاقتصاد الكويتي؟ الإجابة هي أنه على فرض أن هذه التقديرات صحيحة فإن هذا الفرق يمكن تبريره بالفروق في الفرص المتاحة للقطاع الخاص في كل من المملكة والكويت، حيث تنحسر هذه الفرص على نحو كبير في الكويت مقارنة بالوضع في المملكة. /

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق