الأربعاء، أغسطس ٢٩، ٢٠١٢

مصر تلجأ إلى صندوق النقد الدولي 1

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 29/8/2012

تقدمت مصر في أعقاب الثورة بطلب إلى صندوق النقد الدولي لاقتراض 3.8 مليار دولار، غير أنه قبل بدء المفاوضات بين الصندوق ومصر لتمرير القرض أعلنت مصر من جانبها عن تأجيل طلبها للحصول على القرض لاعتبارات عدة. إلا أنه مع اشتداد حدة نقص السيولة من النقد الأجنبي وبدء تراجع معدل صرف الجنيه على نحو مثير للقلق في الأشهر الأخيرة، وتسجيل الميزانية العامة للدولة لعجز تاريخي، قررت الإدارة الحالية المضي قدما في طلب المساعدة، ولكن هذه المرة تم رفع مبلغ القرض إلى 4.8 مليار دولارا. وقد أعلنت كريستين لا جارد أن الصندوق سوف يستجيب بسرعة لطلب مصر، وأن طاقما من الفنيين في الصندوق سوف يتوجه إلى مصر في أوائل سبتمبر القادم لمناقشة الأشكال المختلفة من المساعدة الفنية التي يمكن أن يقدمها الصندوق.  كما أشارت لاجارد إلى إن مصر تواجه تحديات جوهرية أهمها ضرورة استعادة عملية النمو والسيطرة على العجز المزدوج في الميزانية العامة وميزان المدفوعات، كما أكدت على ضرورة فتح المزيد من الوظائف ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة الحجم، ونبهت إلى أن عملية رفع مستويات المعيشة للمصريين ليست مهمة سهلة، على الرغم من التوقعات المشروعة للناس في الرفاه والعدالة الاجتماعية.
لقد أثارت زيادة لاجارد لغطا كبيرا، خصوصا من جانب غير المتخصصين، ذلك أن هناك سوء فهم واضح لدور الصندوق كمؤسسة دولية والفرص التي يمكن استغلالها من خلال التعاون معه من جانب الدول التي تواجه مشكلات اقتصادية كمصر، وربما كان ذلك بسبب السمعة السيئة التي تحيط بالصندوق نتيجة فشل بعض الاقتصادات التي تعامل معها مسبقا في حل مشكلاتها الاقتصادية الهيكلية، والتي علقتها حكومات تلك الدول على كاهل الصندوق، دون أن تحمل نفسها مسئولية الفشل في معالجة تلك الاختلالات وانتهاج السياسات الاقتصادية السليمة اللازمة لمعالجة الاختلالات الهيكلية التي تعاني منها، وتتمثل أهم جوانب الاعتراض الأساسي على الساحة المصرية في أن الاقتراض من الصندوق يعزز تبعية مصر للخارج ويفتح السبيل للنيل من استقلال عملية صناعة القرار فيها، وهو أيضا سوء فهم واضح لطبيعة الدور الذي يقوم به الصندوق في الدول التي يساندها اقتصاديا، حيث يتمثل دور الصندوق في تقديم المساعدة  المالية مصحوبة بالمساعدات الفنية في عملية صناعة السياسات الاقتصادية المناسبة للدولة وتطبيقها، والتي يفترض في حالة التطبيق السليم لها أن تؤدي إلى إصلاح الخلل الذي تواجهه الدولة. بالطبع يقوم الصندوق من وقت لآخر بمراجعة مدى التزام الدولة بتطبيق السياسات المتفق عليها بموجب برنامج المساندة، والتي قد تتقاعس بعض الحكومات عن الالتزام بها نظرا لما يحتويه جانب كبير منها من آثار على الفئات ذات الدخول المحدودة، وهو ما يؤثر بصورة واضحة على شعبية الحكومات والقبول السياسي لها في الشارع.
تعتبر تجربة مصر مع صندوق النقد الدولي غير مريحة بالنسبة للكثير من المراقبين، خصوصا وأن جانبا كبيرا منها قد ارتبط بفترات حكم النظام السابق، التي صاحبها العديد من الإخفاقات في الجوانب الاقتصادية التي تزامنت مع التعاون مع الصندوق، ونظرا لغياب  القدرة على انتقاد النظام، فقد ألصقت هذه الإخفاقات ببرامج الصندوق، خصوصا وأنها تضمنت بعض الإجراءات غير الشعبية التي أثرت بشكل سلبي على حياة الكثير من المصريين، مثل تعديل نظام الدعم وخصخصة المشروعات العامة وتنظيم العلاقة الإيجارية بين المالكين والمستأجرين.. الخ، ولقد كانت الصورة السائدة هي أن الجانب الأكبر من المعاناة التي يواجهها المصريون سببها الصندوق لا فشل النظام السابق، ولذلك عندما بدأت الاتصالات مع الصندوق في بداية الثورة، واجهت مثل هذه الاتصالات هجوما كبيرا على أساس أن مصر الثورة لا يجب أن تخضع لتأثير أي جهة في العالم، واستجابة لتلك الدعوات قامت الحكومة السابقة برفض عرض الصندوق بإقراض مصر، نظرا لتصاعد الخلاف بين مجلس الشعب والحكومة حول اللجوء إلى صندوق النقد الدولي.
تنبغي الإشارة إلى أن القروض التي يمنحها الصندوق للدول الأعضاء غالبا ما تكون مصحوبة بخطاب للنوايا Letter of intent يتم صياغته بمساعدة الخبراء الاقتصاديين في الصندوق، والذي تعلن فيه الدول عن حزمة السياسات التي ستطبقها خلال الفترة الزمنية القادمة، وغالبا ما تتناول هذه السياسات ثلاث قضايا بصفة أساسية وهي عجز الميزانية، وعجز ميزان المدفوعات والسياسات المالية التي ستتبعها الدولة، خصوصا ما يتعلق منها بسياسات الدعم وكيفية تسعير السلع والخدمات العامة للدولة وكيف ستتم إدارة عملية تحديد سعر صرف العملة. غير أن المشكلة الأساسية التي تواجهها تلك الدول هي أن اثر سياسات التصحيح على الهيكل الاقتصادي والمالي للدولة سوف يظهر في الأجلين المتوسط والطويل، بينما تظهر الآثار السلبية لتلك السياسات سريعا على الفئات محدودة الدخل في الأجل القصير، وهو ما قد يتسبب في اضطرابات سياسية قد تدفع الدولة إلى إيقاف العمل بالبرنامج أو تأجيل بعض السياسات فيه.
يتمثل الهدف الأساسي من القرض الذي تسعى مصر إليه في رفع درجة سيولة الاقتصاد المصري من النقد الأجنبي، حيث تعاني مصر من أزمة سيولة حادة في الوقت الحالي. فقد فقدت مصر اكثر من نصف احتياطياتها من النقد الأجنبي منذ قيام ثورة 25 يناير حتى اليوم، نتيجة لسداد التزاماتها المالية بالنقد الأجنبي في موعدها، وحتى لا تتوقف مصر عن خدمة ديونها وينخفض تبعا لذلك تصنيف مصر الائتماني، وكذلك نتيجة للدفاع عن الجنيه المصري في سوق النقد الأجنبي من خلال ضخ السيولة اللازمة لاستيفاء احتياجات الطلب على العملات الأجنبية، وقد ظل الجنيه نتيجة لهذه الإجراءات محتفظا بقيمته إلى حد كبير، مقارنة بعملات دول الربيع العربي التي شهدت  تراجعا بصورة حادة نتيجة الثورات بها، وقد كان من المتوقع أن يحدث انخفاضا كبيرا في قيمة الجنيه المصري تحت هذه الظروف.
لذا ينبغي التنبيه إلى أنه إذا استمر استنزاف احتياطيات النقد الأجنبي بالمعدلات الحالية ولم تجد مصر سبيلا لاستعادة احتياطياتها إلى مستويات آمنة فإن الاقتصاد المصري لا محالة مقدم على إعلان الإفلاس، كما أنه من المرجح حدوث انهيار في قيمة الجنيه لتتراجع قيمته بشكل كبير أمام العملات الأجنبية، خصوصا الدولار، وهو ما سيتسبب في حدوث تضخم مرتفع وتراجع في الدخول الحقيقية لعموم الناس، خصوصا ذوي الدخول المحدودة، الذين يشكلون الغالبية العظمى من الشعب المصري.
إن القيمة الحقيقية لقرض صندوق النقد الدولي ليست في حجمه، فهو من الناحية الفعلية اقل بكثير من الاحتياجات المالية الحقيقية لمصر، وإنما في مغزاه والإشارات الإيجابية التي سيرسلها إلى العالم، فقيام مؤسسة دولية مهمة مثل صندوق النقد الدولي بإقراض مصر والدخول معها في مفاوضات حول حزمة السياسات الاقتصادية والمالية اللازمة لمعالجة الأوضاع الاقتصادية السارية، يعد بمثابة شهادة ثقة يمنحها الصندوق للاقتصاد المصري، والتي تمثل في رأيي أهم مزايا الاتفاق، وهذا بلا شك هو أهم ما تحتاج إليه مصر في الوقت الحالي، من اجل طمأنة المستثمرين ولضمان استمرار عودة تدفقات الاستثمارات الأجنبية إليها مرة أخرى، ولتيسير عملية طرح سندات الدين المصري، خصوصا بالعملة الأجنبية، ولتخفيض معدلات العائد التي تدفعها مصر على ديونها بالعملة المحلية والعملات الأجنبية والتي ارتفعت بصورة كبيرة حاليا مع تراجع تصنيف مصر الائتماني دوليا.
في الجزء الثاني من هذا المقال سوف نستعرض، بإذن الله، الملامح المتوقعة لبرنامج المساندة الذي سيتم توقيعه مع الصندوق والمحاذير التي يجب أن تتجنبها مصر في مثل هذا الاتفاق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق