من الواضح أن تداعيات أزمة الديون السيادية الأوروبية تؤثر بشكل واضح
على اتجاهات وأفاق النمو في الاتحاد الأوروبي بأكمله، وفي منطقة اليورو على نحو
خاص. فقد ترتب على الأزمة تذبذبا واضحا في معدلات النمو للناتج، حيث يواجه الإنفاق
الكلي، بصفة خاصة الاستثماري، تراجعها واضحا بسبب حالة عدم التأكد التي تعاني منها
المنطقة بشكل عام.
يقيس النمو في الناتج المحلي الإجمالي الزيادة في قيمة السلع والخدمات
التي يتم إنتاجها بواسطة اقتصاد ما، أو منطقة اقتصادية، وغالبا ما يتم حساب هذا
النمو من خلال التعديل بالتضخم، وذلك بغية التخلص من تأثير التغير في الأسعار على
بيانات الناتج المحلي الإجمالي، حتى تبدو الصورة واضحة بصورة أكبر حول حجم النمو
الحقيقي في قيمة السلع والخدمات التي يتم إنتاجها في الاقتصاد.
منذ عدة أيام تم الإعلان عن نتائج النمو في الاتحاد الأوروبي ومنطقة
اليورو في الربع الثاني من هذا العام، وقد جاءت النتائج للأسف الشديد، كما هو
متوقع، مخيبة للآمال، فقد تراجع النمو في الناتج في منطقة اليورو بمعدل 0.2%
مقارنة بالربع الأول. كذلك تراجع النمو في الاتحاد الأوروبي (27 دولة) بمعدل 0.2%.
تعد منطقة اليورو والتي تتكون من 17 دولة هي النمسا وإستونيا وألمانيا وإسبانيا وأيسلندا
وإيطاليا وبلجيكا وقبرص وفنلندا وفرنسا واليونان ولوكسمبورج ومالطا وهولندا
والبرتغال وسلوفاكيا وسلوفينيا ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة،
ومن بين هذه الدول يعد الاقتصاد الألماني أكبر اقتصاداتها بشكل عام، ولذلك يطلق
عليه الاقتصاد المفتاح بالنسبة لمنطقة اليورو Key Economy، يليه الاقتصاد الفرنسي
ثم الإيطالي فالإسباني. هذه الدول الأربع الكبرى في منطقة اليورو تواجه صعوبات
واضحة في النمو الحقيقي في الفترة الأخيرة، فالواقع أن تراجع النمو في الربع
الثاني من هذا العام لم يكن الأول، ففي الربع الرابع من العام الماضي تراجع النمو
في منطقة اليورو بنسبة 0.3%، بينما لم تحقق المنطقة أي نمو على الإطلاق في الربع
الأول من هذا العام. الأسوأ من ذلك أنه من المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه حتى نهاية
العام على الأقل. فالعديد من دول أوروبا غارق في سياسات التقشف التي تنعكس بصورة
واضحة على آفاق النمو في المستقبل.
الاقتصاد الرئيس في المنطقة، ألمانيا، حقق نموا أفضل مما كان متوقعا،
حيث كانت السيناريوهات تدور حول احتمال ألا يزيد النمو في الاقتصاد الألماني عن 0.2%،
بينما لم تحقق فرنسا أي نمو، وهو على الرغم من ذلك كان أفضل من النمو المتوقع
والذي كان مقدرا بسالب 0.1%. باقي الاقتصاديات الكبرى في المنطقة تراجع معدل النمو
بها، فقد تراجع الناتج في إسبانيا بمعدل 0.4% وفي إيطاليا بمعدل 0.7% وفي البرتغال،
التي يتراجع النمو فيها بشكل مستمر منذ سنتين، تراجع النمو فيها بنسبة 1.2%، وقد
كان من المتوقع أن يقتصر التراجع في النمو على 0.7%، وبالطبع ليس من المستغرب أن
تكون أكبر معدلات التراجع في حالة الاقتصاد اليوناني الذي تراجع النمو فيه بنسبة
6.2%، اكثر من ذلك فإن الاقتصادات القوية في الشمال مثل فنلندا تراجع النمو فيه
بنسبة 1%. باقي الاقتصادات الهامشية في المنطقة حققت إما نموا سالبا، أو نمو ضعيف
بشكل عام، وحتى لو حققت هذه الدول معدلات نمو جوهرية، فإن تأثيرها العام على النمو
في المنطقة يعد محدودا.
يلعب النمو الألماني بالطبع دورا هاما في نمو منطقة اليورو بشكل عام،
وفي الكثير من الأحيان من الممكن أن يعوض التراجع الذي يحدث في نمو باقي الاقتصاديات
في المنطقة، غير أن ضعف النمو الألماني في الفترة الأخيرة لم يساعد على تعويض
التراجع في الكثير من اقتصاديات المنطقة، ونتيجة لذلك تراجع النمو في منطقة اليورو
بنسبة 0.2%، ويتوقع أن يستمر النمو موجبا في ألمانيا بمعدلات هامشية في الجزء
المتبقي من السنة مدفوعا بالإنفاق الاستهلاكي الخاص. فمعدلات البطالة في ألمانيا منخفضة
جدا حاليا والتي بلغت 6.8% في شهر يوليو، وهو المعدل الأدنى منذ حوالي 20 عاما في ألمانيا،
ومع تزايد مستويات الأجور فقد مهد ذلك إلى نمو الإنفاق الاستهلاكي الخاص، ومن ثم الإنفاق
الكلي.
المشكلة الأساسية هي أن الأوضاع المتردية للاقتصاد الأوروبي تؤثر بشكل
واضح على الاقتصاد الألماني، بصفة خاصة على الطلب على الصادرات الألمانية الذي
يتراجع حاليا، حيث تمثل صادرات ألمانيا إلى دول الاتحاد الأوروبي ثلث الصادرات
الألمانية، بين يتجه ثلثي الصادرات خارج دول الاتحاد الأوروبي، والواقع أن هذا النمو
المتواضع في الاقتصاد الألماني كان حصيلة النمو في الإنفاق الاستهلاكي وصافي
الصادرات خارج أوروبا. من ناحية أخرى يشهد انفاق الشركات الاستثماري تراجعا واضحا،
فعلى الرغم من شروط الإقراض المناسبة فإن خطط الاستثمار لقطاع الأعمال تم تأجيلها
في ظل مناخ عدم التأكد السائد حاليا حول الأوضاع الاقتصادية المستقبلية في ألمانيا
والمنطقة.
من ناحية أخرى فإن هناك توقعات بأن يستمر النمو الألماني ضعيفا في
الربع الثالث من 2012، على الرغم من انخفاض معدل البطالة، وانخفاض معدل التضخم،
وارتفاع الأجور، ذلك أن نتائج المسوحات المختلفة التي تم أجراءها تشير إلى أن
النظرة ما زالت سلبية حول آفاق النشاط الاقتصادي الذي ربما يكون ضعيفا في الأشهر
القادمة، أكثر من ذلك فإن تراجع حجم التجارة العالمية بصفة خاصة بالنسبة لآسيا
يضيف المزيد من الضغوط على النمو الألماني.
من العوامل التي ساعدت على تدهور النمو في منطقة اليورو بشكل عام تراجع
النمو في الاقتصاد الإيطالي، والذي بلغ 2.5% مقارنة بالربع الثاني من العام
الماضي، كذلك شهد الإنتاج الصناعي في يونيو الماضي تراجعا بنسبة 1.4% مقارنة
بالشهر السابق، وفي الربع السابق تراجع الإنتاج الصناعي بنسبة 1.8%، وهذا هو الربع
الرابع الذي يتراجع فيه الناتج في إيطاليا على نحو مستمر، أكثر من ذلك تتوقع
الحكومة الإيطالية أن يحقق الاقتصاد الإيطالي تراجعا هذا العام بنسبة 1.2%، في ظل
معدل للبطالة يصل إلى 11% حاليا.
حاليا يشهد الإنتاج الصناعي الشهري في منطقة اليورو تراجعا في الجانب
الأكبر من المنطقة، فقد انخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 0.6% في يونيو، وفي الربع
الثاني من العام تراجع الإنتاج الصناعي بنسبة 0.5%، وينتظر استمرار التراجع في
الربع الثالث. هذه الصورة القاتمة حول اتجاهات النمو في منطقة اليورو وفي الاتحاد
الأوروبي بشكل عام تضيف المزيد من التعقيدات على اتجاهات النمو الاقتصادي العالمي،
حيث يواجه النمو في الاقتصادات الرئيسة في العالم، بما في ذلك الصين، صعوبات
واضحة، على سبيل المثال لم يتجاوز معدل النمو في الربع الثاني من هذا العام في
الولايات المتحدة 0.4% وفي اليابان 0.3%.
ولكن هل هذه مقدمة لتراجع مزدوج يشهده الاقتصاد الأوروبي المثقل
بالديون، بعض المراقبين يرون أن أوروبا في طريقها إلى التراجع المزدوج، فالنمو في
الاقتصاد المفتاح في منطقة اليورو ضعيف ويواجه مشكلات ضخمة وآفاقه ليست مبشرة،
وتراجع النمو في الاقتصادات الكبرى في جنوب أوروبا مستمر، ولهذا يؤكدون على أن
أوربا ستدخل لا محالة مرحلة التراجع المزدوج. شخصيا لا أستطيع التأكيد على احتمال تحقق
ذلك، حيث أفضل دائما ألا أستبق الأحداث وأن أرى الأرقام على أرض الواقع حتى يمكن
التأكد من هذا الاحتمال من عدمه. فمن غير المؤكد، حتى الآن، أن الاقتصاد الألماني
سوف يشهد استمرار تراجع النمو فيه في الفترة القادمة، على الرغم من الإشارات
المتناقضة حول اتجاهات هذا النمو، وبما أن الاقتصاد الألماني يمثل قاطرة النمو في
منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي بشكل عام، فإن الأمر سوف يعتمد بشكل أساسي حول
اتجاهات النمو في هذا الاقتصاد. الإنفاق الكلي في الاقتصاد الألماني يتزايد، كما
سبقت الإشارة، مدفوعا بالانفاق الاستهلاكي الخاص، وهو ما قد يحد من احتمالات أن
تشهد منطقة اليورو تراجعا مزدوجا
وأخيرا، وبمناسبة حلول عيد الفطر المبارك، أدعو الله للجميع بأن يتقبل
منهم صالح أعمالهم وأن يعيده الله على الأمة الإسلامية باليمن والبركات، وكل عام
وأنتم بخير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق