الاثنين، مارس ٣٠، ٢٠٠٩

يجب أن يخضع قادة القطاع المالي للمحاكمة

نشر في جريدة القبس بتاريخ الاثنين 30/3/2009

يختلف القطاع المالي عن أي قطاع اقتصادي آخر في الاقتصاد المحلي من عدة نواح أهمها:
· أن التعامل في هذا القطاع دائما ما يكون بأموال الغير، على سبيل المثال فإن مدير البنك عندما يتخذ قرارا بالإقراض فإنه لا يقرض أو يخاطر بماله الخاص أو أموال البنك، وإنما يقرض ويخاطر بأموال المودعين في البنك، ومن ثم فإنه في حالة حدوث أي توقف عن السداد فإن أقصى تكلفة قد يتحملها مدير البنك هو أن يفصل من عمله، وأقصى خسارة يمكن أن يتعرض لها البنك هي أن يفقد رأس ماله والذي يمثل عادة نسبة صغيرة من أصول البنك، أي حوالي 8% للدول التي تطبق قواعد اتفاقية بازل (1)، و 12% في الدول التي تلتزم باتفاقية بازل (2)، بينما يتحمل المودعون كامل النتائج والتي قد تصل إلى إفلاس البعض، أو خسارته لكامل أمواله، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
· أن تعرض القطاع المالي لهزة غالبا ما يترتب عليه آثارا عنيفة على كافة القطاعات الأخرى في الاقتصاد، لأن القطاع المالي هو بمثابة المحرك لكافة القطاعات الاقتصادية الأخرى في المجتمع، باعتباره القناة الأساسية لتحويل الأموال من المصادر المختلفة للادخار إلى المقترضين والمستثمرين على كافة أشكالهم.
· نتيجة لهاتين الخاصيتين، فان القطاع المالي غالبا ما يكون عرضة لعدد كبير من القيود التنظيمية، على سبيل المثال اشتراط حد أدنى لرأس المال بالنسبة للأصول، كما سبقت الإشارة، أو قيود على الحد الأدنى من الأصول السائلة، أو قيود على الحد الأقصى لحجم الإقراض الموجه لعميل واحد أو قطاع اقتصادي واحد، أو قيود على أنواع المودعات الممكن قبولها، أو حتى قيود على الحد الأقصى على معدلات العائد التي يمكن توزيعها.

وتشير اقتصاديات المال إلى أن هناك ثلاث مشكلات أساسية تواجه عمليات اتخاذ القرارات الائتمانية في مؤسسات القطاع المالي، وغالبا ما تكون تلك المشكلات هي المسئولة عن الأزمات المالية التي يتعرض لها القطاع.
الأولى هي لا تماثل المعلومات، وتعني تلك المشكلة أن طرفا التعاقد المالي أحدهما لديه معلومات أكثر عن طبيعة المخاطر المحيطة بالصفقة أو بالعقد المالي، وهو غالبا ما يكون المقترض، والذي يحرص على ألا يكشف كل هذه المعلومات للطرف الآخر، خوفا من عدم تمكنه من الحصول على التسهيلات الائتمانية أيا كان نوعها، لذلك يفترض في المؤسسة المالية أن تجمع مزيدا من المعلومات عن المتقدمين للتعامل معها، وان تعمل دائما على وضع هؤلاء تحت المراقبة الدقيقة وأن تتابع أعمالهم بشكل مستمر.
الثانية وهي مرتبطة بالمشكلة الأولى وهي الاختيار الخاطئ، أي أنه نتيجة لعدم توافر كافة المعلومات المحيطة بالصفقة المالية يتم اختيار العميل الخطأ ذو مستوى المخاطرة الأعلى. ولكن لماذا يتم اختيار العميل ذو المخاطرة الأعلى في أغلب الأحوال؟ جانب كبير من الإجابة يرجع إلى أن العملاء ذوي المخاطر الأعلى عادة ما يكونون الأنشط والأحرص على تأمين إتمام الصفقة المالية، فتراهم يستخدمون كافة السبل المتاحة لهم بما في ذلك شبكة العلاقات الشخصية والكروت البيضاء.. الخ لتأمين حصولهم على التسهيل المالي. على سبيل المثال فان العميل الذي يرغب في الحصول على قرض لإبرام أحد عقود المشتقات ذات المخاطر العالية، يعلم انه في حالة نجاح تلك الصفقة سوف يحقق أرباحا مرتفعة، ومن ثم فإنه، مدفوعا بالأرباح المتوقعة، يحرص على تأمين العديد من المقابلات وتقديم الكثير من المستندات .. الخ إلى البنك لتأمين الحصول على الصفقة.
الثالثة وهي المخاطر الأخلاقية، وهي أسوأ النتائج التي يمكن أن تتعرض لها المؤسسات المالية، حيث يقوم العميل في هذه الحالة باستخدام الأموال على نحو يعرض مصلحة البنك أو المودعين أو المؤسسة المالية للخطر، مرة أخري يحدث ذلك بسبب مشكلة لا تماثل المعلومات أو الاختيار الخاطئ، كافة الأزمات المالية التي حدثت في دول العالم لم تخلو من هذه المشكلات.
المشكلة الأساسية هي أن القائمين على إدارة القطاع المالي يتمتعون بدرجة عالية من الأمان فيما يتعلق بنتائج القرارات التي يتخذونها وحجم المخاطر التي يعرضون المودعين أو أصحاب رؤوس الأموال لها، حيث غالبا ما ينظر إلى قرارات قادة القطاع المالي على أنها قرارات مرتبطة بالموازنة بين العوائد والمخاطرة، ومن ثم فان احتمال تحقيق خسائر في خضم هذه العملية احتمال وارد، غير أن الأزمة المالية الأخيرة أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن هناك إساءة واضحة لاستخدام مديري المؤسسات المالية لسلطاتهم داخل تلك المؤسسات، بما يتجاوز حدود الاستثمار الآمن للأموال في ضوء مستويات المخاطرة التي تتعرض لها تلك الأموال. أضف إلى ذلك أن الكثير من المؤسسات قد أفرطت في استخدام الابتكارات المالية، مع حالة الفوضى التي سادت القطاع المالي، وعلى نحو أدى إلى تحمل المؤسسات المالية، ومن ثم جمهور المتعاملين لدرجة عالية جدا من المخاطر. فقد شهدت السنوات الأخيرة موجة عارمة من الابتكارات المالية أدت إلى إدخال أدوات مالية واستثمارية دون أن إدراك حقيقي من قبل مبتكري تلك الأدوات لطبيعة المخاطر المحيطة بتلك الأدوات، كما اتضح أن مؤسسات التصنيف أعطت تصنيفات ائتمانية مرتفعة لأدوات لا تفهم طبيعة المخاطرة المحيطة بها في مقابل مادي تحصل عليه تلك المؤسسات، وهي عملية خداع تصل إلى حد الاحتيال على المستوى الكلي.
على سبيل المثال تفتق ذهن عباقرة التمويل العقاري في الولايات المتحدة عن أفكار شيطانية لزيادة حجم أصول مؤسساتهم طمعا في الحافز الإضافي Bonus الذي يحصلون عليه من تضخيم أصول تلك المؤسسات، فابتكروا فكرة القروض العقارية من الدرجة الثانية Subprime mortgage، وهي قروض تمنح لمقترضين لا يستوفون شروط الاقتراض التقليدية التي تتوافر في المقترضين المؤهلين للحصول على قروض من الدرجة الأولى Prime Mortgage. فإذا ما حاول أي من هؤلاء المقترضين التقدم للحصول على قرض فان طلبه سيقابل بالرفض إما بسبب تاريخه الائتماني السيئ، أو أنه ليس لديه مقدم مالي كاف لإتمام الصفقة، أو ليس لديه أي وثائق حول دخله الذي يحصل عليه، أو مزيج من هذه الأسباب أو أسباب أخرى، وبسبب أن المؤسسة المالية تصنف عملية الإقراض لمثل هؤلاء المقترضين على أنها عملية مرتفعة المخاطر، بصفة خاصة مخاطر التوقف عن السداد، فإنها تقوم بتحميلهم معدلات فوائد أعلى مقارنة بقروض الدرجة الأولى، ولتأمين نجاح عملية الإقراض فإن مؤسسات الإقراض كانت تتعمد تخفيض معدلات الفائدة في السنوات الأولى للقرض، بل وتسمح بتأجيل دفع الفوائد على القروض وإضافتها إلى اصل القرض نفسه، باعتبار أن المقترض غير قادر أصلا على خدمة الدين الذي يحصل عليه، ولكن كيف تقدم المؤسسات المالية على صفقة مثل هذه؟ إن انتشار هذه النوع من الإقراض كان يستند إلى توقع ارتفاع أسعار المساكن في المستقبل، وهو ما سيمكن المقترض من الحصول على قرض إضافي في مقابل الزيادة في سعر العقار يمكنه من خدمة دينه. أي أن عملية تطوير هذه الأداة في التمويل تمخضت عن جعل قرض الدرجة الثانية يتكون من مرحلتين؛ مرحلة تمهيدية تكون خلالها معدلات الفائدة على القرض منخفضة جدا، ومرحلة لاحقة تعود خلالها معدلات الفائدة وأقساط خدمة الدين إلى الارتفاع إلى مستوياتها الحقيقية وذلك استنادا إلى توقع ارتفاع أسعار المساكن خلال الفترة التمهيدية للقرض بما يساعد المقترض على إعادة التمويل بشروط أفضل. في ظل هذه الأداة الخطرة تدهورت شروط الإقراض في الولايات المتحدة بشكل جوهري لدرجة أن نسبة القروض العقارية القابلة للتعديل ارتفعت من 50% تقريبا في عام 1999 إلى حوالي 80% في عام 2006. عندما أخذت أسعار المساكن في الانحسار ومن ثم لم يتمكن الجانب الأعظم من المقترضين وفقا لهذه الأداة من الحصول على قروض إضافية لخدمة ديونهم حدثت الكارثة التي دفع ثمنها بلايين الناس في كل بقعة في العالم تقريبا، دون أي ذنب أو جريرة ارتكبوها وفي أزمة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ما يحدث في المؤسسات المالية يجب أن يكون تحت مراقبة دقيقة من السلطات النقدية حتى لا تتكرر الكارثة.
في مقال للرئيس الأمريكي باراك أوباما ترجمته القبس في 26/3/2009 يقول إذا "مضينا في التغاضي عن المؤسسات المالية حول العالم والسماح لها بالتصرف الطائش اللا مسئول، فإننا سنظل عالقين"، وأضاف "كل مؤسساتنا المالية في وول ستريت وحول العالم بحاجة إلى إشراف ورقابة شديدين ولقواعد سير منطقية .. والتشدد في الشفافية والمحاسبة"، نعم إن أذرع البنك المركزي يجب أن تكون دائما على دفاتر كافة المؤسسات المالية، لتفادي حدوث أي كارثة، وتحويل أي مخالف للمحاكمة.
لا يمكن أن تترتب على قرارات قادة القطاع المالي هذه الآثار الرهيبة ويتركون أحرارا بدون أن يدفعوا ثمن أخطائهم، أو ثمن ما سببوه لغيرهم من مآس، فما ذنب الأبرياء الذين وثقوا فيهم، وما ذنب الذين يتأثرون بشكل غير مباشر بقراراتهم، لا بد من سن قوانين مناسبة لمعاقبة أمثال هؤلاء. أن يقوم مدير بنك بمنح قرض كبير، ربما يتجاوز رأس مال البنك، لكي يتم استخدامه في عمليات ذات مخاطر مرتفعة جدا تعرض رأس مال البنك للخسارة، بل وتهدد بإحداث مخاطر نظامية في النظام المصرفي بكامله، فان ذلك لا يمكن أن يدخل في إطار عملية ائتمانية عادية أو طبيعية. مدير شركة الاستثمار أو مسئول الاستثمار في الشركة عندما يستخدم أموال المستثمرين على نحو غير مناسب، لا يمكن أن ينظر إلى تلك العملية على أنها تدخل في نطاق عمليات التمويل الاعتيادية، أصحاب شركات الاستثمار الذين يعلنون للجمهور أن شركاتهم تمارس نشاط استثماري حقيقي ثم يتضح بعد ذلك أن تلك الشركات ورقية لا يمكن أن يصنف ذلك بأقل من أنه عملية نصب واحتيال. أكثر من ذلك أن تقوم شركة للتصنيف الائتماني بمنح تصنيفات مرتفعة لأدوات مالية تقدم أدوات مالية لا تفهم طبيعة المخاطر المحيطة بها، فان ذلك يجب أن يعد خرقا للقانون، أو أن تقوم شركة للتصنيف الائتماني بمنح تصنيف مرتفع لمؤسسة مالية دون أن يعكس ذلك حقيقة وضع تلك المؤسسة فان ذلك يجب أن يعد بمثابة عملية احتيال ضد الغير، أو أن يقوم مكتب للمراجعة أو التدقيق بعدم نشر بعض بنود الميزانيات الخاصة بالمؤسسات المالية، أو تعمد عدم إظهار البنود خارج الميزانية مع علمه بمدى خطورة تك البنود، فان ذلك يجب أن يعد بمثابة مؤامرة على المتعاملين مع تلك المؤسسات المالية، جميع هؤلاء لا بد وأن يخضع للمسائلة.
إذا كان أقصى ما يمكن أن يتعرض له مدير بنك أو مدير شركة استثمار هو فصله من العمل، أو إجباره على تقديم استقالته، دون النظر إلى طبيعة الخسائر التي تعرض لها المودعين أو أصحاب الحصص في صناديق الاستثمار، فان تلك العقوبة لا تتناسب إطلاقا مع طبيعة الضرر الذي تحقق لجموع المودعين أو أصحاب الحصص أو حملة الأسهم. لقد حان الوقت لمراجعة هيكل العقوبات القانونية على قادة القطاع المالي لكي يدركوا بشكل اكبر خطورة ما يتخذونه من قرارات وانعكاسات تلك القرارات على مؤسساتهم المالية وعلى النظام المالي بأكمله، بل وعلى المجتمع برمته، حان الوقت لتغليظ العقوبات على من يتولى إدارة بنك أو شركة استثمار أو أي مؤسسة مالية أخرى بحيث يتوخى المزيد من الحذر عند عقد الصفقات الائتمانية أو إبرام العقود المالية المختلفة لضمان مراعاة مصالح جموع المودعين. حان الوقت لتقديم بعض قادة القطاع المالي للمحاكمة على ما اقترفوه من جرائم بقصد أو بغير قصد في حق غيرهم من الأبرياء الذي خسروا جانبا كبيرا من قيمة محافظهم المالية، أو أصولهم الأخرى، بسبب تلك القرارات أو الممارسات الخاطئة.

هناك تعليقان (٢):

  1. في امريكا التحقيقات جارية و سيقدمون للمحاكمة.
    في الكويت التحقيقات جارية. ولكن هل سيقدمون للمحاكمة؟
    اذا لم يحاسب من سبب الخسائر للناس سيفقد المجتمع المدني مصداقيته. و بالتبعية مؤسساته.

    ردحذف
  2. شكرا بو سالم على تعليقك القيم.

    تقديم المسئولين عن الأزمة للمحاكمة ضرورة حتمية، وإلا كما تفضلت سيفقد المجتمع المدني ومؤسساته مصداقيتهما.

    فما ذنب الابرياء الذين فقدوا ثرواتهم ووظائفهم وأسرهم وحياتهم .. الخ بسبب الفوضى التي زرعها هؤلاء عن عمد في جسد النظام المالي لا لشيء الا لاشباع حالة الجشع التي تملأ نفوسهم الدنيئة.

    لا بد وأن يدفع هؤلاء المسئولين الثمن من حريتهم وأموالهم التي تضخمت في ظل فوضى النظام المالي. أمثال هؤلاء لا يجب ان يعيشوا بيننا، مكانهم الطبيعي وراء القضبان.

    ردحذف