الاثنين، سبتمبر ١٧، ٢٠١٢

في ذكرى إفلاس بنك ليمان براذرز (2 من 2)

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ 15/9/2012
 
تعمد بعض المؤسسات المالية إلى تضخيم حجمها إما بالتوسع وإما بالدمج مع/ وإما بالاستحواذ على المؤسسات المالية الأخرى، بحيث تتمكن في النهاية من أن تكون كيانا ماليا ضخما يؤمن لها الإنقاذ المناسب وقت الأزمات المالية. على سبيل المثال تحتفظ أكبر خمسة بنوك أمريكية وهي: جي بي مورجان، بنك أوف أمريكا، سيتي جروب، ولز فارجو، وجولدمان ساكس، بأصول تصل إلى 8.5 تريليون دولار في نهاية 2011، أي ما يمثل أكثر من نصف حجم الاقتصاد الأمريكي، ومثل هذه المؤسسات الضخمة تمثل في حال تعرضها لأي مخاطر للسقوط خطرا عظيما على الاقتصاد الأمريكي.
نظرا لتمتع مثل هذه المؤسسات بدعم ضمني بأن الحكومة ستتدخل لإنقاذها في أي وقت، ولن تسمح بسقوطها، فإن هذه المؤسسات تتمتع أيضا بميزة إضافية، وهي إمكانية حصولها على احتياجاتها المالية بتكلفة أقل أو بمعدلات فائدة أقل من المعدلات السوقية، نظرا لانخفاض مخاطر إقراض مثل هذه المؤسسات نسبيا مقارنة بالمؤسسات الأخرى، وهو ما يعني بالفعل أن هذه المؤسسات تحصل على دعم خفي. على سبيل المثال تشير "البيزنس ويك" إلى أنه خلال الفترة من 2007-2010 تمكنت البنوك الأربعة الكبار في الولايات المتحدة ومؤسسة AIG للتأمين من تخفيض تكلفة اقتراضها بنحو 120 مليار دولار، منها 53 مليار دولار لبنك سيتي جروب فقط. يرجع هذا الانخفاض في تكلفة الاقتراض إلى أن من بين تكلفة الاقتراض ما يسمى تكلفة مخاطر التوقف عن السداد أو الإفلاس، وفي حالة البنوك الكبرى، فإن مثل هذه المخاطر تتلاشى بفعل وجود الدعم الحكومي الضمني عند ميل مثل هذه المؤسسات لمواجهة أي مخاطر تنذر بسقوطها.
سقوط بنك ليمان براذرز أثار جدلا مهما حول المؤسسات المالية الكبرى. فهل يجب من حيث المبدأ أن يسمح لمثل هذه المؤسسات الكبرى بالسقوط؟ أم أن مثل هذه المؤسسات هي بالفعل مؤسسات أكبر من أن تسقط Too big to fall؟ باعتبار أن سقوط مثل هذه المؤسسات سيخلف آثارا مدمرة في القطاع المالي، التي يمكن أن تسبب اضطرابا عنيفا في مستويات النشاط الاقتصادي والتوظف. المؤسسات الأكبر من أن تسقط هي الحالة التي تكون فيها المؤسسة المالية كبيرة جدا، أو مترابطة بشكل كبير مع عدد كبير من المؤسسات المالية الأخرى، بحيث يترتب على فشلها حدوث كارثة للاقتصاد، بالشكل الذي يملي على الحكومة ضرورة تقديم الدعم اللازم، أيا كان حجمه، للحيلولة دون سقوط هذه المؤسسات. الأمر بالطبع لا يقتصر على البنوك الضخمة، إنما يمتد أيضا إلى شركات التأمين وصناديق التحوط، وصناديق سوق النقد وشركات التمويل الضخمة.
بل ربما يكون السؤال الأهم: هل يجب السماح لمؤسسات مالية ضخمة مثل جولدمان ساكس وبنك أوف أمريكا، وسيتي بنك ورويال بنك أوف سكوتلاند وبي إن بي باريبا، بأن تكون موجودة من الأساس وتمارس أنشطتها المالية المعقدة والمترابطة بالشكل الذي يضع النظام المالي بأكمله تحت رحمة القرارات التي تتخذها مثل هذه الشركات التي تمارس أنشطة متعددة تتجاوز الأنشطة المصرفية الاعتيادية إلى أعمال السمسرة والتأمين والتغطية.. إلى آخر هذه السلسلة الطويلة من الأعمال التي تمارسها بنوك الظل والتي يصل بعضها إلى مرتبة المقامرة، وذلك باستخدام أموال المودعين التي من المفترض أن تستخدم في استثمارات قصيرة الأجل تتسم بالأمان والسيولة.
إن أهم الدروس المستقاة من سقوط ليمان براذرز هي أن المؤسسات المالية الكبرى ينبغي أن يتم تقسيمها حتى لا تستمر في أن تمثل خطرا على النظم المالية المحلية والدولية، فتقسيم المؤسسات المالية العملاقة ضرورة أساسية لتحمل تلك المؤسسات نتائج أعمالها والقرارات التي تتخذها حيال مستويات المخاطرة التي تسعى إلى تحملها. من الحلول التي طرحت للتعامل مع مثل هذه الحالات هو تقسيم هذه المؤسسات إلى كيانات مالية أصغر، أو فرض ضرائب على تلك المؤسسات التي يتجاوز حجمها مستوى محددا يمثل الحد الفاصل بين المؤسسة الضخمة وغير الضخمة، أو أن يفرض عليها قيودا على الحد الأدنى لحجم رؤوس أموالها كنسبة من أصولها، بحيث يصبح هذا الحد الأدنى كبيرا إلى الدرجة التي تقلل من معدلات العائد على الأسهم التي تحققها هذه المؤسسات من ناحية وتجعل مديري مثل هذه المؤسسات يفكرون بشكل جيد قبل الدخول في عمليات توسعة لحجم مؤسساتهم، أو أن يطلب من هذه المؤسسات الاحتفاظ باحتياطيات مرتفعة في مقابل كل الأصول التي يتم الاحتفاظ بها، بحيث ترتفع نسب هذه الاحتياطيات مع ارتفاع مستوى المخاطرة الكامنة في هذه الأصول، أو أن يطلب من هذه المؤسسات أن تحتفظ باحتياطيات عامة ضخمة لمواجهة أي مخاطر يمكن أن تلحق نتيجة اضطراب الأسواق أو فشلها، أو غيرها من الممارسات التي تجعل من ضخامة الحجم عبئا حقيقيا على تلك المؤسسات، وبالشكل الذي يترتب على ارتفاع الحجم تراجع معدلات الأرباح أو انخفاض مستويات الأداء وبحيث لا يشكل الحجم في هذه الحالة ميزة، إنما يشكل عبئا عليها.
من الحلول التي طرحت أيضا على نطاق البحث أن على الحكومات أن تؤكد أنه لا يوجد شيء اسمه أكبر من أن يسقط، وأن تمارس ذلك من الناحية الفعلية، وأن أي مؤسسة مهما كان حجمها قابلة للسقوط، لكن هذا الخيار في ظل كيانات مالية ضخمة يمكن أن يقال على الورق فقط، أما على أرض الواقع فإن السماح بسقوط مثل هذه المؤسسات الضخمة هو بمنزلة تناول السم بصورة اختيارية، الحل إذن في منع مثل هذه الكيانات الضخمة من أن توجد بأي صورة من الصور أو تمارس أعمالها على نطاق واسع.
لقد كان من المفترض أن يترتب على تجربة "ليمان براذرز" اتخاذ إجراءات جادة من جانب حكومات الدول الكبرى في العالم، بصفة خاصة في الولايات المتحدة للتعامل مع مثل هذه الحالات على المدى المتوسط والطويل للحد من اتجاه المؤسسات المالية نحو التوسع لتخلق لنفسها كيانات مالية ضخمة، غير أنه حتى اليوم لم يتم التعامل بجدية مع حالة المؤسسات المالية الضخمة، ولم يتم اتخاذ ما يلزم من إجراءات لتفتيت هذه المؤسسات إلى كيانات صغيرة تكون أكثر مسؤولية عن أعمالها ولا تشكل تهديدا للقطاعات المالية المحلية أو الدولية، بحث يمكن السماح لها بالسقوط بسهولة، ويبدو أنه حتى هذه اللحظة ليس هناك من هو مستعد، أو ربما قادر على تنفيذ ذلك، حتى يحدث ذلك الأمر ستظل الأسواق المالية في أنحاء العالم كافة رهينة للممارسات الخطرة المتهورة التي تقدم عليها مثل هذه المؤسسات الأكبر من أن تسقط.

هناك تعليق واحد: