نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 4/9/2012
شهد العالم في 2007-2008 ارتفاعا حادا في أسعار الغذاء، وقد تم إرجاع
هذا الارتفاع لأسباب عدة منها نقص عرض الحبوب الغذائية بسبب أوضاع الطقس، وزيادة
استهلاك اللحوم في الصين والهند نتيجة ارتفاع مستويات الدخول، والاتجاه المتزايد
نحو تحويل الحبوب الغذائية مثل الذرة إلى الإيثانول في الولايات المتحدة وبعض دول
أوروبا المستوردة للنفط نتيجة ارتفاع أسعاره، فضلا عن عمليات المضاربة التي تتم
على الحبوب الغذائية في أسواق السلع. كاد العالم أن يتعرض لازمة غذاء حادة في ذلك
الوقت، غير أن الأزمة المالية العالمية أتت لتحد من ارتفاع أسعار الغذاء في العالم،
ورب ضارة نافعة.
منذ أوائل هذا العام وأسعار الغذاء تتزايد عالميا على نحو مثير للقلق
منذرة بحدوث أزمة غذاء حقيقية في العالم، خصوصا في الدول التي تعتمد في غذاءها على
الخارج والدول الفقيرة، حيث ترتفع نسبة الإنفاق للفرد من دخله على استيفاء
احتياجاته الغذائية. فقد تسببت أحوال الطقس السيئة في حدوث دمار كبير لمحصولي
الذرة وفول الصويا لهذا العام في الولايات المتحدة، اكبر مصدر للذرة في العالم،
بينما أدى الصيف الجاف نسبيا في روسيا وأوكرانيا وكازاخستان إلى تحقيق خسائر كبيرة
في محصول القمح لهذا العام.
لقد كان من المتوقع أن يصل محصول الذرة الأمريكي لهذا العام إلى حوالي
15 مليار بوشل، غير أن الظروف المناخية السيئة أدت بوزارة الزراعة الأمريكية إلى
تخفيض التوقعات حول مستوى الإنتاج إلى 10.8 بوشل فقط، وهو ما يمثل انخفاضا بأكثر
من الربع، وينظر إلى هذا الانخفاض في الإنتاج على أنه اكبر خسارة تمنى بها
الولايات المتحدة في إنتاج الذرة في تاريخها، ونتيجة لهذا الانخفاض الهائل في الإنتاج
تم اعتبار الكثير من المناطق في 38 ولاية أمريكية على أنها مناطق كارثة.
لكي نفهم آثار ارتفاع أسعار الغذاء فإن علينا أن ندرك أن هناك قدرا
كبيرا من العلاقات التشابكية بين عرض وطلب وأسعار الغذاء بكافة أنواعه، فارتفاع
سعر الذرة مثلا يؤدي إلى ارتفاع أسعار اللحوم ومن ثم أسعار الحليب والزبد، وباقي
الحبوب بالتبعية، وانخفاض عرض الذرة يؤدي إلى ارتفاع الطلب على القمح للأغراض
المختلفة سواء لغذاء الإنسان أو الحيوان، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار القمح
وبالتبعية أسعار باقي أشكال الغذاء، وهكذا. لذلك يتوقع العالم حدوث أزمة في أسعار
الغذاء بسبب تراجع العرض من محصول الذرة الأمريكي، نتيجة هذه العلاقات التشابكية.
مؤخرا حذر البنك الدولي من أن أسعار الغذاء ارتفعت في شهر يوليو
الماضي بنسبة 10%، حيث ارتفعت أسعار الذرة وفول الصويا إلى مستويات غير مسبوقة، في
الوقت الذي أعلنت فيه منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) أنها تتوقع تراجع الإنتاج
العالمي من الحبوب الغذائية نتيجة الجفاف، وهو ما سوف يؤدي إلى تراجع المخزونات
العالمية من الحبوب الغذائية بنهاية 2013، ووفقا للفاو فإن الإنتاج العالمي من
الحبوب قد تراجع ب 23 مليون طنا في يوليو الماضي فقط، ويرجع تراجع الإنتاج العالمي
من الحبوب الغذائية إلى استمرار حالة الجفاف وارتفاع درجة الحرارة عن المتوسط في
مراكز إنتاج الغذاء في العالم بصفة خاصة الولايات المتحدة وروسيا، وهو ما دعا
الفاو إلى تخفيض توقعات الإنتاج العالمي من الذرة، في الوقت الذي كان متوقعا فيه
حدوث زيادة كبيرة في الإنتاج العالمي من الحبوب الخشنة (مثل الذرة) هذا العام.
كذلك خفضت الفاو توقعاتها للإنتاج العالمي من القمح، حيث يتوقع أن ينخفض هذا الإنتاج
بحوالي 3.2% بسبب تراجع توقعات الإنتاج في كل من أستراليا والصين وروسيا، بينما
تتوقع المنظمة تراجع إنتاج الأرز في الهند.
البيانات التفصيلية للرقم القياسي العام لأسعار الغذاء الذي تصدره
منظمة الفاو تشير إلى حدوث ارتفاع في الأسعار في شهر يوليو بنسبة 6% تقريبا، وهو
ما يختلف بصورة واضحة عن تقديرات البنك الدولي. غير قاعدة بيانات المنظمة تشير إلى
حدوث ارتفاع حاد في أسعار الحبوب في شهر يوليو بنسبة 17%، ويرجع ذلك إلى التوقعات
بحدوث تدهور حاد في محصول الذرة الأمريكي
بسبب ظروف الجفاف والارتفاع الكبير في درجات الحرارة عن المتوسط، خصوصا في
المراحل الحرجة من إنتاج المحصول، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار الذرة بنسبة 23% في
يوليو الماضي، كذلك ارتفعت أسعار القمح بنسبة 19% نتيجة تراجع إنتاج القمح الروسي
وتوقع زيادة الطلب على القمح لأغراض تربية المواشي نتيجة تراجع عرض الذرة الأمريكي.
من ناحية أخرى ارتفع الرقم القياسي لأسعار الزيوت والدهون بنسبة 2% في
يوليو، مدفوعا بارتفاع أسعار زيت الصويا نتيجة نقص العرض من فول الصويا، والتوقعات
حول ارتفاع الطلب المستقبلي عليه نتيجة تراجع عرض الذرة، في الوقت الذي أدت فيه
الوفرة النسبية لزيوت النخيل وعباد الشمس إلى الضغط على أسعار الزيوت ومنعها من
الارتفاع بصورة كبيرة، وبينما تراجعت أسعار اللحوم عالميا بنسبة 1.7%، إلا أنه
نتيجة لظروف العرض من الحبوب الخشنة فقد أصبح من المؤكد ميل أسعار اللحوم نحو
الارتفاع، ذلك أن هناك بالطبع فترة تباطؤ زمني بين ارتفاع أسعار الحبوب وارتفاع أسعار
اللحوم، حيث يفترض أن تأخذ أسعار الحبوب وقتا لكي تنعكس على أسعار اللحوم.
كذلك ارتفعت أسعار السكر بنسبة 12% في يوليو، منهية بذلك الاتجاه
النزولي للأسعار الذي بدأ من مارس، ويرجع ذلك إلى تراجع عمليات جني محصول قصب
السكر في البرازيل أكبر مصدر للسكر في العالم نتيجة الأمطار، وكذلك تأخر موسم
المونسون في الهند، فضلا عن الإخفاقات المتوقعة في الإنتاج في أستراليا.
من ناحية أخرى يتوقع معهد الغذاء أن تستمر أسعار الحبوب الغذائية،
خصوصا التي تقدم للماشية، في الارتفاع في الجزء المتبقي من 2012 وكذلك في عام
2013، حيث يتوقع أن يظهر الأثر الحقيقي للجفاف على أسعار الحبوب في العالم في ذلك
العام. أسعار الغذاء تميل إذن نحو التصاعد بشكل واضح في العالم وهو ما يحمل أخبارا
سيئة للكثير من الدول التي يرتفع اعتمادها على الغذاء المستورد ومنها مصر، كما ينذر
بحدوث كارثة لسكان العالم الفقير، حيث يقدر عدد السكان في العالم الذين يعيشون تحت
خط الفقر بحوالي 1.7 مليار نسمة.
يترتب على الارتفاع الكبير في أسعار الغذاء تراجع القوة الشرائية
لدخول الفقراء، وهو ما قد يدفعهم إلى التقليل من الكميات المستهلكة منه أو التحول
نحو الأنواع الأقل منفعة غذائيا بالنسبة لهم، وهو ما ينعكس على مستويات التغذية
التي يحصل عليها الفقراء مسببا لهم أمراض سوء التغذية، حيث تشير الدراسات
التطبيقية عن آثار ارتفاع أسعار الغذاء على نمط التغذية الذي ينتهجه الفقراء في
العالم إلى أن تخفيض الكميات المستهلكة من الطعام وكذلك نوعية الطعام كانت
الاستجابة الأكثر شيوعا بين الفقراء لارتفاع أسعار الغذاء. من ناحية أخرى يترتب
على ارتفاع أسعار الغذاء توجيه الفقراء للجانب الأعظم من دخولهم للإنفاق على سد
احتياجاتهم من الغذاء، وهو ما يؤثر على استهلاكهم من السلع الأخرى. كذلك من
المتوقع أن يكون التضخم في العالم أعلى من مستوياته المتوسطة الحالية، وقد بدأت
بالفعل عمليات مراجعة الاتجاهات العامة المتوقعة لمعدلات التضخم في ظل سيناريو
استمرار أسعار الغذاء في الارتفاع، وإن كان المدى الزمني للأثر المتوقع للجفاف على
أسعار الغذاء غير معلوم حتى الآن.
بالنسبة لنا في الخليج حيث نعتمد بصورة شبه كاملة على العالم في تدبير
احتياجاتنا من الغذاء سوف نشهد ارتفاعا في أسعار الحبوب الغذائية والزيوت واللحوم،
وهو ما سيترتب عليه ارتفاعا طفيفا في معدلات التضخم، غير إن ارتفاع المستوى العام
للدخول سوف يقلل بالطبع من الأثر المتوقع لارتفاع أسعار الغذاء على المستهلكين في
المنطقة.
بالنسبة للدول الفقيرة في العالم سوف يحتاج الكثير من هذه الدول إلى
المساعدة وسوف يكون لزاما على الدول الغنية أن تزيد من مساعداتها الغذائية لهذه
الدول للتخفيف من آثار ارتفاع الأسعار، وحتى لا تنعكس الأسعار المرتفعة على صحة
الفقراء ومستويات تغذيتهم، من ناحية أخرى سوف تواجه الدول التي تقدم دعما مكثفا
لأسعار الغذاء، مثل مصر، مشكلات مالية حقيقية في سبيل سعيها لتثبيت الأسعار
الحالية للغذاء، وللتأكد من حصول الفقراء على حاجاتهم منه من ناحية أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق