نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 18/9/2012
شهد هذا العام تراجع مؤشرات الأداء للاقتصاد الأمريكي على نحو مثير
للقلق إلى الحد الذي دفع اللجنة الفدرالية للسوق المفتوح إلى الإشارة أكثر من مرة
بأنها تراقب عن كثب تطورات الأوضاع الاقتصادية، خصوصا أوضاع سوق العمل، وأنها سوف
تتخذ الإجراءات المناسبة للتعامل مع تراجع النمو وبطء تحسن سوق العمل، وقد كانت
الأوضاع في الأشهر الأخيرة تسير من سيء إلى أسوأ، وبدا من الواضح أن الشروط التي
علقها الاحتياطي الفدرالي لاتخاذ إجراءات توسعية تتراكم الواحد تلو الآخر، وقد ذكر
اجتماع اللجنة الفدرالية للسوق المفتوح في أغسطس الماضي أن الاقتصاد الأمريكي
استمر في النمو بمعدلات متواضعة، في الوقت الذي استمر معدل البطالة في الارتفاع نتيجة
استمرار الضغوط في سوق العمل الأمريكي، بينما ظل معدل التضخم منخفضا دون المعدل
المستهدف، وهو ما يوفر الشروط المناسبة للاحتياطي الفدرالي لإطلاق المرحلة الثالثة
من برنامج التيسير الكمي.
كان تقرير سوق العمل الأخير هو القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث أصبح
من الواضح أن الاقتصاد الأمريكي عاجز عن فتح كمية الوظائف المناسبة لتخفيض معدلات
البطالة، فقد تمت إضافة 96 ألف وظيفة فقط في أغسطس الماضي، وهو أقل مما كان
متوقعا، في الوقت الذي تراجع فيه معدل البطالة من 8.3% إلى 8.1%. غير أن هذا
التراجع لم يكن مرجعه إلى فتح المزيد من الوظائف التي ساعدت على خفض المعدل، وإنما
نتيجة لانسحاب عدد من العاطلين من سوق العمل وتوقفهم عن البحث عن وظائف، وهم ما
نطلق عليهم في الاقتصاد الكلي عبارة "العمال المحبطين"، وهؤلاء لا
يحسبون من قوة العمل، مما يعني أن تحسن معدل البطالة كان راجعا لانخفاض عدد قوة
العمل بشكل أساسي وليس انخفاض أعداد العاطلين، وقد قدر التقرير الأخير لسوق العمل
أعداد من انسحبوا بحوالي 368 الف أمريكي، ولا شك أن انسحاب هذا العدد من سوق العمل
يدل بوضوح على عمق الضغوط التي يواجهها، وأن الأمر يتطلب تدخلا مباشرة من
الاحتياطي الفدرالي لتحقيق أولى مستهدفاته في رفع مستويات التوظف.
كذلك أظهرت تقارير مراجعة النمو في الاقتصاد الأمريكي تراجع معدل
النمو إلى 1.7% في النصف الثاني من هذا العام، مقارنة بـ 4.1% في الربع الرابع من
العام الماضي، وبالتالي فقد أصبح من الواضح انه إذا لم تتخذ اللجنة الفدرالية الإجراءات
المناسبة، فإن النمو سوف ينخفض على نحو لا يساعد على تحسن سوق العمل. في اجتماع
اللجنة الفدرالية للسوق المفتوح في الأسبوع الماضي قررت اللجنة إطلاق الموجة
الثالثة من برنامج التيسير الكمي لتحفيز الاقتصاد الأمريكي. فما هي أهم ملامح خطة
التيسير الكمي3؟ تتمثل أهم ملامح الخطة الحالية في الآتي:
أولا: سوف يقوم الاحتياطي الفدرالي بشراء سندات إضافية مغطاة بالرهون
العقارية عقارية (لمؤسستي ماني فاي وفريدي ماك) بمعدل 40 مليار دولارا شهريا، وقد
يبدو هذا الرقم صغيرا بالنسبة لسوق السندات الأمريكي، إلا انه في ذات الوقت سوف
يواصل الاحتياطي الفدرالي خطته الحالية التي بدأها في يونيو الماضي والرامية إلى
توسيع نطاق مواعيد استحقاق السندات التي يحتفظ بها في محفظته، بهدف تعديل هيكل
معدلات الفائدة على السندات، وهو البرنامج الذي تناولناه بالتحليل في الاقتصادية
مسبقا في مقال بعنوان "عملية لي منحنى العوائد على السندات" والمقدرة قيمته
بحوالي 667 مليار دولارا. كذلك سوف يستمر الاحتياطي الفدرالي في سياسة إعادة
استثمار ما يستحق من السندات التي يحتفظ بها في شراء سندات مؤسسية مغطاة بالرهون العقارية،
جميع هذه العمليات سوف يترتب عليها زيادة ما يحتفظ به الاحتياطي الفدرالي من
السندات شهريا بحوالي 85 مليار دولارا حتى نهاية هذا العام بصورة مرحلية.
ثانيا: تختلف خطة التيسير الكمي3 عن الخطط السابقة في أنها غير محددة
المدة، فليس لها اجل زمني محدد لانتهائها، كما أنه ليس من المعلوم حاليا طبيعة
الشروط التي يتوقع معها أن تتوقف خطة
التيسير الكمي3، فقد أشار بن برنانكي رئيس الاحتياطي الفدرالي بأن الخطة مربوطة
بالتطورات التي ستحدث في الاقتصاد، فإذا لم تتحسن أوضاع سوق العمل على نحو جوهري
فإن اللجنة سوف تستمر في عمليات شراء السندات المغطاة بالرهون العقارية وكذلك
الأصول الأخرى وتطبق الأدوات المختلفة للسياسة النقدية حتى تتحسن أوضاع سوق العمل.
أكثر من ذلك فإن هذه الخطة لن تتوقف بمجرد حدوث الانتعاش وإنما سوف تستمر لفترة
طويلة بعد الانتعاش، أعتقد طالما أن التضخم تحت السيطرة.
ثالثا: أن القيمة المحددة لخطة التيسير الكمي3 غير معلومة أيضا، بعكس
الحال مع خطط التيسير الكمي السابقة، وهو ما يعني أن ميزانية الاحتياطي الفدرالي
مرشحة للزيادة بدون حدود من حيث المبدأ، أي أن كمية الدولارات التي ستتم إضافتها
غير معلومة حتى الآن، ومن المعلوم أن حجم ميزانية الاحتياطي الفدرالي في ديسمبر
2007 أي قبل انطلاق الأزمة الحالية، بلغ حوالي 900 مليار دولارا، غير أن عمليات
التوسع النقدي منذ بداية الأزمة ترتب عليها ارتفاع حجم الميزانية إلى حوالي 2.85
تريليون دولارا حاليا، أي أنه تم ضخ حوالي 2 تريليون دولارا دون أن يخرج الاقتصاد
الأمريكي من حالة الكساد.
رابعا: لتدعيم خطة التيسير الكمي3 سوف تستمر اللجنة في الحفاظ على معدلات
الفائدة منخفضة حتى منتصف 2015، وهو ما يعني توسيع المدى الزمني لمعدل الفائدة
الصفرية من 2014 إلى 2015.
ولكن كيف يعمل التيسير الكمي على تحقيق أهدافه في تحفيز الطلب الكلي
في الاقتصاد؟ الإجابة هي أن التيسير الكمي يعمل على تحفيز الطلب الكلي من نواحي
عدة، فعندما يقوم الاحتياطي الفدرالي بشراء السندات، سوف تتحول قيمة هذه السندات إلى
حسابات البائعين في البنوك، فيتم تعلية حسابات البنوك بالقيمة لدى الاحتياطي
الفدرالي، وهو ما يعني أن العملية بهذا الشكل تمثل إصدار نقود (بشكل الكتروني) من
لا شيء لتستخدم في شراء أصول تضاف إلى ميزانية الاحتياطي الفدرالي، ولكن إذا
استمرت البنوك التجارية في الاحتفاظ بهذه الاحتياطيات لدى الاحتياطي الفدرالي
فإنها ستحصل على فائدة لا تتجاوز ربع في المئة، لذلك سوف تفكر البنوك جديا في إقراض
هذه الأموال والحصول على معدلات فائدة أعلى، وهذا هو الهدف الأساسي من العملية، أي
حث البنوك على منح المزيد من الائتمان، فتزيد العمليات الائتمانية للشركات
وللأفراد.
من ناحية أخرى عندما يقوم الاحتياطي الفدرالي بشراء السندات بكميات
كبيرة، مثلما يفعل في حالة التيسير الكمي، ترتفع أسعار السندات، ومن ثم تميل
معدلات العائد عليها نحو الانخفاض، وهو ما يؤدي إلى انخفاض معدلات الفائدة، الأمر
الذي يخفض من تكاليف شراء المساكن، فينتعش الطلب على قطاع المساكن الذي يواجه
مشكلات حادة حاليا، وهكذا عندما تقترض الشركات فإنها تستخدم هذا الائتمان في
الاستثمار، بينما يستخدم الأفراد هذا الائتمان غالبا في شراء السلع المعمرة مثل
السيارات أو المساكن، وهو ما يساعد على انعاش الطلب الكلي ومن ثم النمو وتخفيف
الضغوط في سوق العمل، وهذا هو الهدف الرئيس لخطة التيسير الكمي3 الحالية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق