نشر في صحيفة الاقتصادية يوم الثلاثاء 25/9
الصين لم تعد فقط دولة عملاقة اقتصاديا أو عسكريا، إنما أصبحت أيضا دولة عملاقة ماليا، حيث تعد من الناحية المالية أقوى اقتصاد في العالم من زاوية تحقيقها أكبر فائض تجاري على المستوى الدولي، وأكبر قدر من الاحتياطيات المالية في العالم، وفيما يبدو أن الصين بدأت تلوح من وقت إلى آخر باللجوء إلى الحرب الاقتصادية كأحد الأسلحة التي يمكن أن تكون فاعلة في عالم اليوم، فقد دعت الصين من قبل دول العالم إلى وقف استخدام الدولار الأمريكي كعملة لتسوية المعاملات الدولية، كما قامت بإبرام بعض الاتفاقيات مع بعض الدول من بينها اليابان لتسوية المعاملات التجارية باستخدام عملاتها الخاصة، الذي يعد خطوة عملية ضد استخدام الدولار كعملة رئيسية لتسوية المبادلات التجارية.
تمر العلاقات السياسية بين كل من الصين واليابان بمرحلة صعبة في الوقت الحالي بسبب النزاع الجاري حاليا حول الجزر الموجودة في بحر الصين الشرقي في أرخبيل دياويو التي تسيطر عليها اليابان والمملوءة بالموارد الطبيعية، التي يعتقد أنها تحوي كميات كبيرة من النفط في باطن البحر. فقد تناقلت يوم الثلاثاء الماضي بعض الوكالات أخبارا عن احتمال شن الصين حربا اقتصادية ضد اليابان، فوفقا للتليجراف نصح أحد مستشاري الحكومة الصينية بأن تستخدم الصين قوتها كأكبر مقرض لليابان كي تفرض عقوبات اقتصادية عليها حتى تركع اليابان وبحيث تطفو أزمتها المالية على السطح وترجع عن قراراتها الخاصة بالجزر المتنازع عليها بين الصين واليابان. من ناحية أخرى هناك تسريبات بأن الصين تخطط لحرمان اليابان من إمدادات المعادن النادرة التي تعد أكبر منتج لها في العالم، وإذا فعلت الصين ذلك فإنها يمكن أن تخنق عرض هذه المعادن للصناعات العالية التقنية في اليابان. ومن وجهة نظري فإن أخطر ما في توصيات المستشار الصيني هو حث الحكومة الصينية على الهجوم على سوق السندات اليابانية وبيع السندات اليابانية بحرق سعري.
من المؤكد أن الحرب الاقتصادية بين اليابان والصين ستكون سلاحا ذا حدين، حيث سيتأثر سلبا كل من الاقتصاد الصين واليابان، فاليابان تمثل ثاني أكبر مصدر للاستثمارات إلى الصين، والصين تحتاج بالطبع إلى تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة من اليابان، التي تحمل معها ليس فقط رأس المال، إنما أيضا تدفقات التكنولوجيا الحديثة التي تفتقدها الصين، في الوقت ذاته تحتاج اليابان إلى السوق الصينية لتصريف المنتجات اليابانية، ومثل هذه الاضطرابات في العلاقات بين الدولتين تؤثر بصورة سلبية في تدفقات الاستثمارات من اليابان والتجارة فيما بين البلدين مثلما حدث في الماضي، على سبيل المثال انخفضت الاستثمارات اليابانية في الصين بنسبة 30 في المائة خلال عامي 2005-2006 مع تصاعد المسيرات الشعبية الصينية ضد اليابان. كذلك تعد الصين أكبر شريك تجاري لليابان، بينما تمثل اليابان ثالث أكبر شريك تجاري للصين، حيث تقدر التجارة البينية بين البلدين بنحو 340 مليار دولار، في الوقت الذي تمثل فيه التجارة مع الصين نحو 20 في الملئة من إجمالي التجارة الخارجية اليابانية، وهو ما يمثل ضعف مستوى التجارة بين اليابان والولايات المتحدة.
من ناحية أخرى، ربما قد ينظر البعض إلى أن اشتعال الحرب الاقتصادية بين اليابان والصين قد يكون في صالح أطراف تجارية أخرى مثل أوروبا والولايات المتحدة، أو حتى بعض الدول في المنطقة، على سبيل المثال يمكن أن تتحول الواردات اليابانية من الصين إلى دول أخرى في المنطقة مثل تايوان وإندونيسيا، لكن وجهة النظر هذه لا تأخذ في الاعتبار الآثار الانكماشية للحرب على النمو في كلا البلدين وعلى العالم، وأن الوقت الحالي لا يمثل ظروفا مثالية لمثل هذه التطورات على الإطلاق.
أعتقد أن النزاع الصيني اليابان لن تقتصر آثاره في البلدين، إنما ستمتد أيضا إلى المنطقة بأكملها، وربما العالم أجمع، فالإعلان عن الحرب الاقتصادية بين الدولتين سيمثل تراجعا كبيرا عن الخطوات التي تم اتخاذها من أجل مزيد من التعاون التجاري بين الدولتين، على سبيل المثال فإن الدولتين حاليا تتبادلان الصفقات التجارية بصورة مباشرة من خلال استخدام الين واليوان حيث يمكن لليابان أن تدفع بالين وتقبل اليوان، وكذلك الحال بالنسبة للصين، وهي إحدى الخطوات الرئيسة التي اتخذتها الصين لتحرير اليوان.
غير أنني أعتقد أن أخطر ما تمت الإشارة إليه في التقارير المنشورة هو الدعوة إلى استخدام المحفظة الصينية في الهجوم على سوق السندات اليابانية. فعلى الرغم من أن الدين الياباني معظمه مصدر بالين ولمؤسسات محلية، إلا أن هناك نحو 8.3 في المائة من هذا الدين مملوك بواسطة الأجانب، وعلى رأس الدائنين الأجانب لليابان تقع الصين في المركز الأول، فالصين تحتفظ بكمية كبيرة من السندات الحكومية اليابانية، ووفقا لإحصاءات البنك المركزي الياباني، فإن كمية السندات التي تحتفظ بها الصين من السندات اليابانية بما في ذلك أذون الخزانة قصيرة الأجل بلغت أخيرا أعلى مستوياتها في التاريخ، حيث تمتلك نحو 230 مليار دولار من السندات اليابانية، بحيث أصبحت أكبر محتفظ أجنبي بالسندات اليابانية.
بما أن الصين هي أكبر مقرض خارجي لليابان، فإنها عندما تقوم ببيع هذه السندات في السوق دفعة واحدة وبحرق أسعار، ستنخفض أسعار هذه السندات بصورة كبيرة، وهو ما سيقلل من جاذبية هذه السندات بالنسبة للمستثمرين في الداخل والخارج من جهة، ويجهض السياسات الحالية للحكومة اليابانية بالتوسع النقدي لخفض معدلات الفائدة والحفاظ على قيمة منخفضة للين الياباني من جهة أخرى، وهي آثار تحمل في مجملها تداعيات خطيرة على الاقتصاد الياباني الذي يواجه مشكلات في استعادة النشاط حاليا.
لكن هل يمكن أن تقدم الصين على هذا الخيار؟ في رأيي - أن احتمال اللجوء إلى الطرق الدبلوماسية لتصفية الخلافات هو السيناريو الأقرب إلى الحدوث، ذلك أن قيام الصين في هذه المرحلة الدقيقة جدا في كلا البلدين بإعلان الحرب الاقتصادية على اليابان ستكون له تأثيرات سلبية في النمو الصيني المتراجع من ناحية، كما أنه يمكن أن يجهض الجهود التي تبذلها اليابان حاليا من خلال التوسع النقدي لدفع النشاط الاقتصادي من ناحية أخرى، بل من الممكن أن يشيع حالة من التوقعات التشاؤمية حول مسار التعافي الاقتصادي في كلا البلدين، وهو ما يمكن أن تنتشر عدواه إلى باقي دول العالم. الحرب الاقتصادية إذن ستؤدي إلى خسارة صافية للبلدين ومن ثم للعالم أجمع الذي يسعى إلى تحسين التوقعات المستقبلية حول النمو، والذي تلعب فيه كل من الصين واليابان دورا محوريا باعتبارهما ثاني وثالث أكبر اقتصاديات العالم.
لكني أنظر إلى الموضوع من زاوية أخرى، فالحديث عن ردود الأفعال الانتقامية التي قد تفكر فيها الصين من الناحية الاقتصادية توضح بجلاء مدى الخطورة التي أصبحت تمثلها الصين على المستوى الدولي كعملاق اقتصادي ومالي، فبحكم امتلاكها أكبر قدر من الاحتياطيات على المستوى الدولي، فإن الصين تمتلك قدرا كبيرا من سندات العديد من الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة. وبالتالي فإن امتلاكها لقدر كبير من السندات لأي دولة في العالم، أصبحت الصين بعد هذه الدعوات تمثل خطرا على الدول المدينة، وإذا أخذنا في الاعتبار أن الصين هي أكبر دائن للولايات المتحدة، فإن الصين حاليا قادرة على تدمير سوق السندات الأمريكية إذا ما هجمت عليه في أي وقت، وعلى ذلك فإن مجرد التلويح أو الدعوة إلى التلويح بالهجوم على سوق السندات اليابانية يرسل رسالة في غاية الأهمية للإدارة الأمريكية، بأن الصين أكبر حائز للسندات الأمريكية يمكنها أن تلجأ إلى هذا الخيار إذا ما أرادت في وقت ما في المستقبل، وذلك إذا ما أملت الظروف ضرورة القيام بذلك، ومن ثم فإن على الولايات المتحدة أن تكون أكثر حذرا في تعاملها مع الصين، وألا تحاول إغضابها حتى لا تصب الأخيرة جام غضبها على سوق السندات الأمريكية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق