الأربعاء، أكتوبر ١٠، ٢٠١٢

هل تنشئ دول مجلس التعاون صناديق للأجيال القادمة؟


نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ 9/10/2012

اتخذ مجلس الوزراء الكويتي في الشهر الماضي قرارا يقضى برفع نسبة الاستقطاع التي تتم من الإيرادات العامة لصالح الأجيال القادمة في الدولة من 10% إلى 25%. الكويت هي أول دولة في العالم تفكر في إنشاء صندوق سيادي للثروة، حيث تم إنشاء صندوق الثروة السيادي للكويت في عام 1953، كما أن الكويت هي أول دولة أيضا تدخل نظام الادخار من الإيرادات العامة للدولة لصالح الأجيال القادمة. تنفرد الكويت من بين دول مجلس التعاون بصندوق الأجيال القادمة، حيث تقوم بخصم 10% من إجمالي إيراداتها العامة (نفطية وغير نفطية) سنويا لصالح صندوق الأجيال القادمة، ويتم هذا التحويل بغض النظر عما اذا كانت الميزانية تحقق فائضا أم عجزا، ففي الأوقات التي لم تكن الإيرادات النفطية تكفي لتغطية الإنفاق العام ويتحقق عجز في الميزانية نتيجة لذلك، كان نصيب الأجيال القادمة يضاف إلى العجز القائم في الميزانية باعتبار أن نصيب الأجيال القادمة من الثروة هو التزام ثابت على الجيل الحالي بغض النظر عما اذا كانت الميزانية تحقق فائضا أما لا. من ناحية أخرى فإن أصول هذا الصندوق غير قابلة للسحب منها تحت أي ظرف وذلك وفقا للمادة الثالثة من قانون صندوق الأجيال القادمة والتي تنص على أنه "لا يجوز خفض النسبة المنصوص عليها في المادة الأولى من هذا القانون أو أخذ أي مبلغ من "احتياطي الأجيال القادمة"، الأمر الذي يعمل على تحصين هذه الأصول ضد المساس بها لأي غرض من الأغراض.
بمرور الزمن أصبح من الواضح أن النسبة التي يتم استقطاعها من الإيرادات العامة لصالح الأجيال القادمة (10%) تبدو غير كافية وغير عادلة أيضا، لذلك تم رفع نسبة الاستقطاع من الإيرادات العامة إلى 25% لكي يتم تكوين مخصصات كافية للأجيال القادمة، وقد كان هذا القرار نابعا من أن ما يتم تحويله لصندوق الأجيال القادمة بمستويات الاستقطاع الحالية لم يعد كافيا لتدبير احتياجات الإنفاق لهذه الأجيال سوى لفترة قصيرة بعد نفاد النفط، حيث لم تعد له قيمة كبيرة من الناحية الحقيقية بسبب نمو حجم الإنفاق العام، وأنه قد آن الأوان لإحداث قدر من العدالة بين الأجيال في اقتسام الثروة النفطية بين الجيل الحالي والأجيال القادمة، فوفقا للنظام المتبع في الوقت الحالي يمكن أن يستأثر الجيل الحالي بـ 90% من الثروة النفطية، بينما يخصص 10% فقط من هذه الثروة للأجيال القادمة، وأخذا في الاعتبار أن الثروة النفطية ليست ملكا للجيل الحالي، فإن الاقتصار على تخصيص نسبة 10% فقط من الثروة النفطية لصالح كل الأجيال القادمة فيه غبن واضح لحقوق تلك الأجيال، ويتنافى مع مبادئ المحاسبة العادلة بين الأجيال، ويترتب عليه عدم التوزيع العادل للثروة النفطية بدولة الكويت.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا لم تحاكي دول مجلس التعاون الأخرى الكويت في تخصيص جانب من إيراداتها النفطية لمصلحة الأجيال القادمة؟ ذلك أن الثروة النفطية الاستثنائية والناضبة التي تتمتع بها دول المجلس حاليا ومنها الكويت هي في واقع الأمر ليست ملكا للجيل الحالي، وإنما ملك للجيل الحالي والأجيال القادمة، وبالتالي فإن اعتبارات العدالة في توزيع الثروة بين الأجيال تقضي بضرورة تحويل نصيب مناسب وعادل من تلك الثروة الاستثنائية للأجيال القادمة. المشكلة الأساسية التي تواجهها الدول النفطية حاليا هي أنه مع كل زيادة تحدث في الإيرادات النفطية وتعزز من الفوائض المحققة في الميزانية تنفتح شهية المطالبين برفع مستويات الدخول والدعم، بدلا من استخدام هذه الفوائض في إرساء أساس إنتاجي متين يمكن أن تواجه به هذه الدول فترة ما بعد النفط، وهي فترة ليست ببعيدة عنا كما يعتقد البعض، الأمر الذي يمثل هدرا واضحا لهذه الفوائض، دون أن يصاحب ذلك نمو في الإنفاق الاستثماري على النحو الذي يؤدي إلى زيادة رصيد رأس المال الثابت والبنى التحتية التي تشجع على زيادة حجم الأصول الإنتاجية ورفع مستويات تنافسية الاقتصاد الوطني، أو حتى أن يصاحب ذلك زيادة على نحو مماثل في حصة الأجيال القادمة من الثروة النفطية، وعلى العكس من ذلك فقد أصبحت المخصصات المالية للمرتبات والدعم تستهلك معظم الإنفاق العام، بينما تعد المخصصات الموجهة نحو الاستثمار العام كنسبة من الناتج تساوي تلك التي تخصصها الدول النامية الفقيرة في العالم لهذا النوع من الإنفاق، وفي بعض الأحيان ربما أقل.  في ظل هذه الأوضاع قد يكون من الأفضل لدول مجلس التعاون بدلا من أن تحقق فائضا يفتح المطالب نحو هدره، أن تحول الجانب الأكبر من هذا الفائض لصندوق للأجيال القادمة، فربما يكونوا أكثر رشدا وقدرة على استخدام هذه الفوائض على نحو أكثر إنتاجية من الأجيال الحالية. 
تنبغي الإشارة إلى أنه مما لا شك فيه أن التزام دول مجلس التعاون بتخصيص جانب من إيراداتها النفطية لصالح الأجيال القادمة سوف يشجع الحكومات على تحسين كفاءة المالية العامة للدولة، حيث سيجبر الحكومات المتعاقبة على أن تتحرك في نطاق مالي أضيق وتكون اكثر حذرا عندما تفكر في الاستجابة لزيادات غير المبررة في الدخول، أو ربما قد يدفع الحكومات إلى التفكير في كيفية رفع كفاءة الإنفاق العام من خلال الحد من جوانب الهدر المختلفة فيه والتفكير جديا في التحول إلى الاعتماد على مصادر أخرى للإيرادات العامة للدولة، بدلا من الاعتماد بشكل أساسي على الإيرادات النفطية.
كذلك لا بد من الإشارة إلى أن ادخار قدر محدد من الثروة لصالح الأجيال القادمة ليس هو الخيار الأمثل لدول مجلس التعاون، إذ يفترض أن تستخدم هذه الثروة في تهيئة بيئة اقتصادية قادرة على تنويع الدخل على نحو مستدام وبشكل يضمن استمرار مستويات الرفاه مرتفعة للأجيال القادمة على نحو يماثل ما تتمتع به الأجيال الحالية من الثروة على الأقل. غير أنه من الواضح أن الجيل الحالي لا يفعل ذلك، ومع كل ارتفاع في مستويات الإيرادات من النفط تنتشر أنماط من الاستهلاك الترفي لا تتماشى مع الاستخدام الأمثل لهذه الثروة الاستثنائية، وبدلا من ربط الأحزمة والبحث عن السبل المثلى لاستثمار هذه الثروة في تعديل الهيكل الحالي للإنتاج، ورفع قدرة الاقتصادات الوطنية على فتح المزيد من الوظائف المنتجة على المدى الطويل، فإن جانبا لا بأس به من هذه الثروة يتم هدره حاليا في الاستهلاك الذي لا يتوافق أبدا مع الإنتاجية الحقيقية للمستهلك.
لقد أصبحت تطلعات المستهلكين في دول المجلس اليوم بلا حدود، ومن الواضح أن الجيل الحالي قد أسرف، بشكل عام، في استخدام الثروة النفطية على نحو كبير ولم يبذل الجهد اللازم لتحويل هذه الثروة إلى أصول إنتاجية تسهم في تنويع مصادر الدخل وترسي أساسا متينا لاستدامة النمو المستقبلي بمستويات مرتفعة من الدخل بعيدا عن النفط، وبدلا من ذلك تبنى الجيل الحالي أنماط استهلاك ترفيه وانتشر دافع المحاكاة والتقليد على نحو واسع، وتم إهدار جانبا كبيرا من الثروة النفطية الناضبة للأسف الشديد في الاستهلاك الترفي الذي أصبح ينظر إليه على أنه أحد الحقوق الأساسية للفرد، بغض النظر عن مؤهله أو وظيفته التي يؤديها أو مدى المساهمة الحقيقية التي يبذلها في العمل والإنتاج، في ظل هذه الأوضاع غير المواتية لاستخدام الثروة على النحو الأمثل يصبح الادخار لصالح الأجيال القادمة هو الخيار الأمثل أمام الدول النفطية، فربما تكون الأجيال القادمة أكثر وعيا وقدرة وإبداعا من الجيل الحالي وتوجه هذه الثروات على نحو أفضل مما يتم حاليا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق