تلعب المؤسسات سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية دور المحرك
الأساسي للرفاه في اقتصاديات العالم المتقدم، كما تلعب عكس هذا الدور تماما في الدول
المتخلفة، فالمؤسسات الكفؤة تضمن توافر سوق حر يوجه الموارد لأفضل سبل استخدامها،
ويعطي الفرصة كاملة لكل فرد في المجتمع في أن يعمل حيث يجد مواهبه وحيث يستطيع أن
ينتج ويبدع بدون أية قيود تقف أمامه وتحول دون ذلك سواء أكانت قانونية أو إجرائية
او مالية.. الخ. الأسواق الحرة الكفؤة تمكن أي مبادر لديه فكرة في أن يحولها إلى مشروع
قائم، حيث لا يمنعه القانون أو المؤسسات القائمة سواء أكانت سياسية أو اقتصادية من
أن يقوم بذلك، في ذات الوقت سوف يجد نظام ماليا مساعد يوفر فرصة التمويل الملائم
للأفكار المجدية من الناحية الاقتصادية، ونظاما قانونيا يحترم العقود التي يبرمها
والأهم من ذلك يحترم الملكية التي ستترتب على ذلك. في الكثير من الدول المتخلفة
كان أصحاب المبادرات يعزفون عن الاستثمار خوفا من مصادرة السلطات للملكية أو
استيلاءها على الجانب الأكبر مما تدره من أموال من خلال النظام الضريبي التعسفي.
عندما قام انقلاب يوليو 1952 كان الضباط الأحرار عازمين على عدم إتاحة
الفرصة لأي رأسمالية من أي نوع أن تعود إلى البلاد، وتم وضع نظام ضريبي يصل في
جوهره إلى قانون للمصادرة وليس قانونا للضرائب. حتى عام 1965 كان معدل الضريبة على
الأرباح التي تزيد عن 10000 جنيها مصريا هو 95%، هل يمكن أن تتخيل رجل أعمال
يستثمر ويتعب لينتج ويربح، وفي مقابل كل عشرة آلاف جنيه يحققها كأرباح تذهب منها
فقط 500 جنيه كأرباح صافية له بينما يذهب الباقي إلى الدولة، لا يمكن أن نتخيل أنه
في ظل هذا النظام أن يقدم مجنون على الاستثمار في مشروع عرضة لهذا القدر الظالم من
الضرائب، في ذات الوقت لا يمكن أن تتوقع أي حكومة مهما بلغت درجة بلاهتها أن مثل
هذا النظام يمكن أن يوفر إيرادات عامة للدولة لتتمكن من الإنفاق من خلالها على
الخدمات الأساسية التي يحتاجها عموم الشعب
من تعليم وصحة ودفاع... الخ، لذلك لم تمض سوى سنوات قليلة مما اطلق عليه الثورة
الاشتراكية في مصر، حتى ركعت المالية العامة تحت ضغط نقص الموارد، وتم اللجوء إلى
البديل المدمر وهو طباعة الجنيه الذي انهارت قيمته، وبدأ الحديث عن الإصلاح
الضريبي حتى قبل وفاة عبد الناصر. أمثال هذه المؤسسات الاقتصادية لا يمكن أن تساعد
دولة أو نظام على التقدم او الرقي، ولا يمكن استبدال نظام شمولي فشلت تجاربه في كل
دول العالم التي حاولت أن تطبقه.
نظام السوق الحر الذي تحميه المؤسسات الكفؤة والفعالة والتي تضمن عدم
انحراف المنافسة فيه وتصون آلياته ، يكفل حرية المبادرة والإبداع للمبادرين من أصحاب
الأفكار الجديدة. لقد تمكن توماس أديسون ، وبيل جيتس، وستيف جوبس وغيرهم من
الأسماء العملاقة من تحويل مبادراتهم إلى منتجات وشركات عملاقة في ظل هذا النوع من
الأسواق وفي حماية لصيقة من المؤسسات التي تكفل حق الإبداع والملكية وتحترم القعود
وتصونهما. لقد بدأت جوجل بفكرة، والفيس بوك بفكرة، وأمازون دوت كوم بفكرة، وكل ما
يحيط بنا من منتجات من سلع وخدمات، كان مجرد فكرة، تحولت إلى ما نراه الآن ودرت
مئات المليارات على أصحابها. لماذا إذن تخرج الأفكار في الدول المتقدمة ولا تخرج
من دولنا، هل لأننا لا نفكر؟ بالتأكيد الوضع ليس كذلك، ولكنها طبيعة المؤسسات التي
تحكم مناخ الأعمال الذي يحيط بنا، فكل من لديه أي فكرة في بلادنا يصطدم بحائط هائل
من القيود سواء الإجرائية أو القانوني أو المالية أو متطلبات التعامل مع الفاسدين
العاملين في الأجهزة الحكومية، كل هذه القيود تفرضها للأسف الشديد طبيعة المؤسسات القائمة
التي هي بالأساس مهيكلة حول مصالح محددة سواء القائم أو للصفوة من رجال الأعمال المحيطين
به.
(أفكار مستوحاة من قراءتي لكتاب Why Nations Fail)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق