الأربعاء، مارس ٠٤، ٢٠٠٩

هل آن الأوان لتسييل صندوق الأجيال القادمة

نشر في جريدة القبس بتاريخ الأربعاء 4/3/2009
أنشئ صندوق الأجيال القادمة بمبادرة من حضرة صاحب السمو أمير البلاد الراحل الشيخ جابر رحمه الله، وذلك بتخصيص 10% من الإيرادات السنوية لدولة الكويت توضع في هذا الصندوق بهدف توفير ثروة كافية للأجيال القادمة بعد نضوب النفط،، وكذلك لتنويع مصادر الدخل من خلال بناء هياكل للأصول الخارجية تسهم في توفير عوائد تستثمر لصالح الأجيال القادمة. وقد تبدو فكرة صندوق الأجيال القادمة جذابة للكثير من الناس، بل ويدافعون عنها استنادا إلى ما حدث للكويت أثناء فترة العدوان العراقي وتحرير البلاد، حيث كان صندوق الأجيال القادمة خيار الكويت الاستراتيجي الأول ل في التعامل مع الأزمة، فقد دفعت منه بعض تكاليف التحرير للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضد جيش الاحتلال، كذلك استخدم لتمويل عمليات إعادة البناء والتعمير وتوفير سبل الإعاشة خلال فترة الحرب وما بعدها.

بالنسبة لي لا أختلف في أن وجود الصندوق قد ساعد الكويت أثناء الأزمة. ولكن هل كانت ستختلف النتائج بشكل كبير إذا لم يكن الصندوق موجودا. على العكس لقد أدى وجود الصندوق إلى الإسراف في الإنفاق وتكريس سلوكيات استهلاكية ضارة أدت إلى نشر دعوات مدمرة اقتصاديا. على سبيل المثال لم يكن هناك أي داع لإلغاء القروض بعد التحرير وإلغاء فواتير المياه والكهرباء كهدية للناس. كان من الممكن تأجيل عمليات سداد القروض حتى تتحسن أحوال المدينين ويصبحون أكثر قدرة على استئناف الدفع. ولذلك ليس من المستغرب أن نجد اليوم الدعوات ذاتها تتكرر مرة أخرى، وقد نجح بعضها في إلغاء جانب من فواتير الكهرباء (2000 دينار لكل مستهلك)، وما زال البعض بإسقاط القروض، وقد تم إلغاء فوائدها على الأقل للمتقاعدين.

لقد أدى وجود الصندوق بالحكومة في ذلك الوقت إلى استخدام حوالي 45 مليار دينار من أصول الصندوق السيادي للكويت وهو ما مثل خسارة كبيرة لأصول الصندوق في ذلك الوقت.

من وجهة النظر الاقتصادية صندوق الأجيال القادمة هو هدية نقدمها للدول التي نستثمر فيها، بينما تقتصر استفادتنا نحن على الحدود الدنيا، وتميل استفادتنا إلى التناقص بمرور الزمن، وعندما نعقد مقارنة بين عوائدنا وتكاليفنا من هذا الصندوق نجد أن صافي منافعنا يكون منخفضا، وربما يكون سالبا إذا ما أخذنا في الاعتبار تكلفة الفرصة البديلة لهذا الصندوق، فما هي فوائد الدول المستقبلة لاستثماراتنا من خلال الصندوق، إنها ببساطة تمثل في الآتي:

توفير مدخرات إضافية تسهم في رفع مستويات الاستثمار لديها وهو ما يؤدي إلى زيادة مضاعفة في مستويات الدخل والإنفاق لتلك الدول، يعتمد ذلك على قيمة مضاعف الإنفاق الاستثماري بها.
خلق فرص وظيفية مباشرة لمواطني تلك الدول مع كل دينار يتم استثماره فيها، وغير مباشرة نتيجة للحركة الانتشارية التي تحدثها تلك الاستثمارات في الاقتصاد الوطني لها.
تحقيق أرباح إضافية للأعمال بتلك الدول تسهم في رفع عوائد عناصر الإنتاج بها ومن ثم زيادة مستويات الدخل القومي الإجمالي بها.
رفع مستويات صادراتها والتقليل من مستويات وارداتها ومن ثم تحسين موقف موازين مدفوعات تلك الدول.

والآن ما هي فوائدنا من مثل هذا الصندوق، أنها على أفضل الأحوال تتمثل في:

تنويع مصادر دخولنا من خلال تكوين محافظ استثمارية خارجية.
تحقيق عوائد على تلك الاستثمارات يمكن استخدامها في تمويل الإنفاق العام أو في إعادة الاستثمار مرة أخرى لتضاف إلى رصيد تلك الأصول.
تكوين احتياطي استراتيجي يمكن استخدامه في أي وقت لمواجهة ظروف طارئة حادة (مثلما حدث أوقات العدوان العراقي على الكويت).

ولكن ما هي تكاليف مثل هذا الصندوق علينا، إنها للأسف متعددة وتتمثل في الآتي:

الفرصة الضائعة في صورة الناتج المحلي الضائع، بصفة خاصة الناتج غير النفطي، الذي كان من الممكن الحصول عليه لو تم استثمار تلك الأموال داخل الكويت.
فرص التوظف التي كان من الممكن خلقها للشباب من المواطنين، لو تم استثمار هذه الأموال هنا، حيث لا يستفيد شبابنا من الوظائف التي تخلقها تلك الاستثمارات، ومن ثم فإننا نحل مشكلة البطالة في الخارج، بينما تتعمق المشكلة لدينا هنا.
انخفاض معدلات النمو الاقتصادي وفرص الرقي التي كان من الممكن بلوغها لو تم استثمار تلك الأموال هنا.
تدني العوائد التي نحصل عليها من تلك الاستثمارات حيث نحصل على نسبة مئوية من الربح لا تتناسب مع تكلفة الفرصة البديلة لتلك الاستثمارات بالنظر إلى الفوائد الضخمة التي يمكن أن تعود علينا إذا ما تم استثمار هذه الأموال بكفاءة هنا.
المخاطر التي تصاحب استثمار تلك الأموال في الخارج والناجمة عن تعرض أصول تلك الصناديق للانهيار مع انهيار أصول المؤسسات التي يتم الاستثمار فيها، خصوصا في أوقات الأزمات الاقتصادية، مثل الأزمة الحالية.
المخاطر المصاحبة للتضخم في الدول المضيفة، حيث تميل القوة الشرائية لتلك الاستثمارات نحو التناقص بمرور الزمن، خصوصا في الدول التي ترتفع فيها تكاليف المعيشة ومن ثم المستوى العام للأسعار.
الخسائر الناجمة عن تقلبات أسعار العملات، وهو ما يطلق عليه مخاطر الصرف الأجنبي، والمتمثل في ميل عملات الدول المستقبلة لهذه الاستثمارات نحو الانخفاض ومن ثم تدهور القوة الشرائية لتلك الأصول.
المخاطر الأخلاقية، حيث ليس هناك ضمان لحسن إدارة تلك الأصول في الدول المضيفة، خصوصا وأننا في اغلب الأحوال لا نملك قوة تصويتية، ولا نمثل في مجالس إدارات تلك الأصول، وهو ما يعرض تلك الاستثمارات إلى الخطر.
المخاطر السياسية، والمتمثلة في تغير السياسات الخارجية للدول المضيفة لتلك الاستثمارات، خصوصا وأننا نعيش في منطقة ساخنة مليئة بالأحداث التي ربما تدفع الدول المضيفة في أسوأ الأحوال إلى تجميد تلك الاستثمارات وهو السيناريو الأسوأ على الاطلاق.

وفقا لبلومبرج في 15 يناير الماضي فان صندوق أبو ظبي السيادي ربما يكون قد حقق خسائر بلغت حتى هذا التاريخ حوالي 125 مليار دولارا. ومن المعلوم أن تقديرات معهد الصناديق السيادية لأصول الصندوق السيادي لأبو ظبي تبلغ 875 مليار دولار، غير أن هناك تقديرات أخرى تضع إجمالي أصول الصندوق بحدود 450 مليار دولارا. الخسائر الفعلية للصندوق في وجهة نظري ربما تكون اكبر من ذلك بكثير، حيث تقدر نسبة الخسائر التي لحقت بالصناديق السيادية من جراء الأزمة المالية الحالية بحوالي 40%. كذلك نشرت جريدة الوطن بتاريخ 11/2/2009 تصريحا للنائب وليد الطبطبائي عن مدير الهيئة العامة للاستثمار أن خسائر الصندوق السيادي للاستثمار في دولة الكويت بلغت 9 مليار دينار (31 مليار دولار أمريكي) من استثماراتنا المقدرة بحوالي 230 مليار دولار. وقد جاءت هذه التصريحات بناءا على ما تم مناقشته داخل الجلسة المغلقة للحالة المالية للدولة. مرة أخرى أعتقد أن الخسارة الفعلية ربما تكون 3 أضعاف الرقم المعلن.

لقد خلصت دراسة سعودية إلى انه من الأفضل للسعودية أن تقوم باستثمار الفوائض المالية التي تملكها داخل المملكة لا خارجها، ضاربة أمثلة على عظم عوائد عمليات الاستثمار في الداخل بحالة سابك وحالة شركات الاتصالات، وما وفرته من وظائف ودخول وأصول وثروة قومية للمملكة عندما تم استثمار تلك الأموال في داخل المملكة.

أرى أن الوقت قد أصبح مناسبا لتسييل تلك الأصول واستثمارها هنا، لصناعة مستقبل حقيقي للأجيال القادمة، يستند إلى اصول انتاجية حقيقية، وليس مجرد أن نترك لهم وديعة مالية لدى الغير، وهي بالتأكيد لن تكفي لتوفير حاجاتهم في المستقبل. بل ان الارقام المتاحة لدينا تؤكد أن صندوق الأجيال القادمة على الرغم من ارتفاع قيمة أصوله لن يمثل شيئا ذو قيمة حقيقية بالنسبة للحاجات الفعلية الأجيال القادمة. على سبيل المثال حسب أفضل البيانات المتاحة فان الصندوق السيادي لدولة الكويت يملك حاليا حوالي 200 مليار دولار، أي حوالي 58 مليار دينار كويتي. تم تكوينها عبر مدى زمني يتجاوز 30 عاما، ووفقا لآخر الأرقام المتاحة للإنفاق العام بدولة الكويت، حوالي 12 مليار دينار، فان صندوق الأجيال القادمة لن يكفي الأجيال القادمة سوى أقل من خمس سنوات فقط (بأرقام اليوم)، وبأرقام المستقبل ربما لن يكفيها سنتين أو ثلاث.

أما إذا تحولت تلك الأصول إلى مصانع وشركات وموانئ وأساطيل وبنى تحتية متنوعة ومدن جديدة ومؤسسات أبحاث وتطوير، فإنها ستحقق دخلا دائما لهم وتوفر وظائف كافية لهم، وبذلك نكون فعلا قد ضمنا مستقبل الأجيال القادمة. مستقبل الأجيال القادمة نصنعه اليوم، وهنا داخل ديرتنا، وليس في حدود دول أخرى. فهل آن الأوان لتسييل تلك الأصول واستثمارها في الداخل.

مصطلحات: مضاعف الإنفاق الاستثماري
هو العلاقة المضاعفة بين كل دينار يتم إنفاقه على الاستثمار والدخل الذي ينشا عن هذا الإنفاق. فإنفاق دينار يؤدي إلى زيادة دخول عناصر الإنتاج التي أسهمت في إنتاج الأصل الذي تم الإنفاق عليه، وهو ما يؤدي إلى زيادة إنفاق تلك العناصر، ومن ثم زيادة دخول عناصر الإنتاج التي تنتج السلع الاستهلاكية لأصحاب هذه العناصر، وهكذا، فإذا كان مضاعف الإنفاق الاستثماري 5، فان كل دينار يتم إنفاقه على الاستثمار سيؤدي إلى زيادة في الدخل بخمس دنانير.

هناك ٣ تعليقات:

  1. كلام جميل يا دكتور .. لكن مع الوضع الحالي من تشنج سياسي محلي ووضع أقليمي ما ان يهدء حتى يجنح للتأزم مرة أخرى و بيروقراطية حكومية تقتل أى محاولات للاستثمار فان خيار الاستثمار الخارجي يبدو حل أفضل.

    من وجهة نظرك دكتور هل تعتقد أن السوق المحلي قادر على استيعاب هذه الاموال وتطويعها باستثمارات انتاجية وحقيقية وليس متاجرات بالاوراق المالية؟

    ردحذف
  2. شكرا على التعليق.
    لا شك لدي في ان مناخ الاعمال في الكويت بحاجة الى بذل كثير من الجهد، بصفة خاصة في تخفيف البيروقراطية الحكومية وتحسين بيئة الاعمال واطلاق المبادرات الخاصة، وتخفيض حجم الحكومة، ... الخ. ولكن كل هذا لا يعني اطلاقا انه في ظل هذه الاوضاع يبقى الاستثمار خارجيا هو البديل الافضل. بالعكس انه البديل الاسوأ بالنسبة لنا في جميع الاوضاع.

    فالى متى سنظل نرتبط بالحكومة برباط شبه ابدي، ويتقيد دخلنا وناتجنا القومي برمته بقيد الصادرات النفطية يكبل كافة قوى التغيير الاقتصادي نحو الافضل.

    أوضاعنا السياسية قد لا تكون مناسبة حاليا، ربما لان هناك مشكلة في صيغةالممارسة السياسية الحالية والتي تجعل كل عضو عبارة عن حزب مستقل بذاته، وربما لو انتهجنا اسلوب الاحزاب السياسية بحيث تخوض الاحزاب الانتخابات ببرنامج عمل، ويشكل الحزب الفائز الحكومة يستطيع الحزب ان يسيطر على اعضاءه بدلا مما نشاهده حاليا. هناك صيغة ما لمعالجة الاوضاع السياسية الحالية، ولا يمكن ان نستمر هكذا على المدى الطويل، والا فمن الافضل للكويت اغلاق مجلس الامة، حيث انه التجربة في السنوات القليلة السابقة تشير الى ان الفوائد منه اقل بكثير من الضرر الذي ينجم عن وجوده.

    نحن نتحدث عن خيار استراتيجي، أي عن مستقبل الكويت كدولة، وهو ما يتطلب تضافر كافة القوى نحو التغيير المنشود.

    الطاقة الاستيعابية للكويت، ليست كما يصر البعض على أنها محدودة، فكلما استثمرت في بنيتها التحتية ومرافقها، وتسهيلاتها، كلما اتسعت قدرتها على الاستيعاب أكثر وأكثر. سنغافورة دولة مساحتها أقل من واحد على 25 من مساحة الكويت، وهي دولة فقيرة في مواردها الطبيعية، ومع ذلك ناتجها المحلي الاجمالي أعلى من الكويت، وربما يصل الى حوالي نصف الناتج المحلي الاجمالي للسعودية، ومتوسط نصيب الفرد من الناتج فيها أكثر من ثلاث اضعاف متوسط نصيب الفرد في المملكة. لو كانت سنغافورة تفكر بنفس ما نفكر نحن فيه من المبالغة في طبيعة القيود التي تواجهها، وضيق طاقاتها الاستيعابية وصعوبة تغيير مناخ الاعمال.. الخ، لم يكن قطار المعجزة الاقتصادية يتحرك فيها خطوة واحدة.

    من وجهة نظري، لا يوجد في عالم اليوم ما يحد من قدرة اي دولة على الانطلاق بلا حدود، اذا توافر لديها العزم والاصرار والارادة والرغبة الصادقة في التغيير. لماذا نذهب بعيدا. ودبي على بعد خطوات منا. دعك من الاثار الحالية للازمة عليها، فالجميع عرضة لتلك الاثار بدرجة او بأخرى، فما زالت موضع اعجاب الجميع.

    من ناحيةاخرى لا يمكن ان نتحجج بالقول ماذا نصنع أو ماذا ننتج. ماذا تنتج سنغافورة أو تايوان أو هونج كونج وغيرها من الدول الصغيرة التي تتشابه ظروفها معنا.

    نحن فقط في حاجة الى ان نخرج انفسنا مما نحن فيه والذي يستهلكنا حتى الرمق الاخير، ويجعل الوقت يضيع من أيدينا ونحن نقف موقف المتفرج. ولكن للاسف نحن لا نملك رفاهية تضييع الوقت، فالوقت الذي يفصلنا عن نهاية عصر النفط اصبح قصيرا جدا، أقصر من تصورات أي أحد.

    ردحذف
  3. مقاله تثلج الصدر بطرحها ،ما نحتاجه بالكويت هو اداره ناجحه لانتشال البلد من الفساد المالي والصرف اللامحدود وتحمل الدوله جميع أعباء الحياة .الكوبت بلد نادر في ادارته الفاشله للأسف ومن السهل أن تكون في صفاف الدول المتقدمه ذو الدخل المضاعف . فالقوانين معطله ،والحلول البديله متوفره ولكن لا أعلم لماذا المماطله في البدأ في تفعيل عجلة التغير !لابد من أن هناك من هو مستفيد من هذه الأوضاع . شكرا دكتورنا على دورك في تثقيف الناس في المجال الاقتصادي.

    ردحذف