الأحد، يناير ٠٢، ٢٠١١

ماذا بعد هجوم الحكومات على أسواق الصرف الأجنبي؟ هل تندلع الحرب فعلا؟

نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية بتاريخ السبت 1/1/2011.
يعيش العالم حاليا في ظروف متشابهة لتلك التي سادت خلال الثلاثينيات من القرن الماضي عندما اندلعت اعنف حرب للعملات شهدها العالم، فقد حاولت دول العالم الخروج من الأزمة من خلال تجربة كافة أنواع العلاج، والتي فشلت في معظم الحالات في مساعدة الدول على الخروج من الكساد. لم يجد الكثير من دول العالم الغربي من بد أمامها سوى اللجوء إلى محاولة اكتساب ميزات تنافسية من خلال تعمد تخفيض قيمة عملاتها بغية رفع درجة تنافسيتها في مقابل تنافسية الدول الأخرى في العالم لمعالجة ضغوط سوق العمل المرتفعة في ذلك الوقت. غير أن كل عملية تخفيض لم تكن تساعد الدولة بقدر ما كانت تعمق من المشكلات التي تواجهها شركاءها في التجارة، والتي كانت ترى ان ركودها يزداد مع كل عملية خفض في قيمة عملات شركاءها التجاريين، الأمر الذي دفع كافة الدول بما في ذلك تلك التي كان تحرص دائما على استقرار عملاتها إلى سلوك نفس الاتجاه، وبالتالي لم يستفيد احد في النهاية من المنافسة على تخفيض قيمة العملات، وانحصرت الآثار الأساسية من حرب العملات في رفع مستويات الضغط السياسي في كافة دول العالم، ورفع درجات عدم التأكد حول عدم استقرار معدلات الصرف، وتقييد النظام التجاري الدولي. حرب العملات إذن تعني التلاعب بقيمة العملات بهدف تشجيع الصادرات وتقليل الواردات من الخارج لرفع مستوى النشاط الاقتصادي المحلي ومن ثم رفع معدلات النمو، ومن ثم فإن حرب العملات هي في جوهرها، حرب على الوظائف، حيث تستهدف كل دولة من وراء الحرب محاولة سرقة وظائف الآخرين وتحويلها إلى سوق العمل المحلي، لخفض معدلات البطالة لديها وامتصاص ضغوط سوق العمل.

عندما تكون الظروف الاقتصادية طبيعية، تستطيع دول العالم أن تتعامل بهدوء نسبيا مع أي تغيرات لمعدلات الصرف، ولكن عندما يكون العالم في أزمة، ترتفع درجة حساسية الدول لأي إجراءات تتخذها دول العالم الأخرى وتصب في قيمة عملتها على المستوى الدولي، ولذلك في ظل تعقد الأوضاع الاقتصادية لدول العالم حاليا، ينظر إلى سياسات التدخل من جانب أي دولة في العالم على انه عمل من أعمال حرب العملات.

مصطلح حرب العملات هو مصطلح جديد نسبيا على الساحة، وقد اخذ في الانتشار السريع مع تصريح وزير المالية البرازيلي "غويدو مانتيجا" بأن حرب العملات العالمية قد انطلقت مع قيام حكومات بعض الدول بالضغط على معدلات صرف عملاتها بهدف تشجيع تنافسيتها، ومنذ ذلك الوقت والمصطلح يتردد بقوة، حيث ازداد الجدل حول حتمية أقدام العالم على مرحلة جديدة من حرب العملات، وأخذ الكثير من دول العالم يدرس إمكانية فرض قيود على تدفقات حركة رؤوس الأموال إليها، تفاديا لما يمكن ان تتعرض له اقتصادياتها الوطنية نتيجة لمثل هذه التدفقات.

غير أنه عندما نقارن بين الأوضاع الاقتصادية الحالية مع تلك التي سادت في الثلاثينيات من القرن الماضي، نجد أن هناك بعض عناصر التشابه والكثير من عناصر الاختلاف. عناصر التشابه تتمثل في ان العالم قد أصيب بأزمة خانقة في الحالتين، ومثلما هو الحال في الثلاثينيات، جربت الدول الصناعية حاليا كافة أدوات السياسات للخروج من الأزمة ومواجهة الضغوط الانكماشية، غير أنها فشلت جميعا في تحقيق ذلك في الوقت المناسب وبالتكلفة المناسبة. على الجانب الآخر نجد أن من المزايا التي يتمتع بها النظام الاقتصادي الدولي حاليا هو سيادة نظام أسعار الصرف المعومة، وهو ما يمكن كل دولة من ان تتبع السياسات التي ترى أنها تتوافق مع أحوالها الاقتصادية، على الرغم من أن ذلك يخلق الكثير من المخاطر، نظرا لعدم وجود قاعدة تحكم النظام مثلما كان عليه الحال في ظل نظام الذهب، ومن ثم فإن على كل دولة ان تحاول حاليا إيجاد التوازن المناسب بين أهدافها الداخلية والخارجية، ولكن ذلك لا يمكن ان يتم حاليا بمعزل عن التعاون والتنسيق ما بين دول العالم الأخرى، وهو ما كان يفتقده العالم في فترة ما بين الحربين، حيث أن من أهم الجوانب الايجابية للهيكل الاقتصادي العالمي حاليا هي ارتفاع درجة التنسيق والتعاون بين دول العالم، على الأقل بين الاقتصاديات الكبرى منها، في إطار تجمع عالمي مؤسسي، على سبيل المثال مجموعة العشرين.

مظاهر الحرب

لفترة طويلة من الزمن تتهم الولايات المتحدة الصين بأنها دولة تحرص على ربط عملتها بالدولار الأمريكي عند معدل صرف منخفض بالنسبة للدولار، واستخدام احتياطياتها من وقت لآخر لأغراض التدخل في سوق النقد الأجنبي بهدف الإبقاء على اليوان الصيني مقوما بقيمة أقل من قيمته الحقيقية، الأمر الذي مكن الصين من تحقيق فوائض ضخمة في ميزان مدفوعاتها وتراكم احتياطياتها حتى بلغت وفقا لآخر التقارير 2.6 تريليون دولارا. فقد اتبعت الصين إستراتيجية التصدير كمحرك للنمو، وذلك بعملة منخفضة القيمة كجزء أساسي من هذه الإستراتيجية، وقد جعلت العملة المنخفضة في القيمة الصادرات الصينية ارخص بالنسبة للمستهلكين في الولايات المتحدة وفي العالم اجمع، بينما جعلت الواردات من الخارج أكثر تكلفة بالنسبة للمستهلك الصيني، وهو ما أجهض القدرات الأمريكية وقدرات الدول الأخرى على التصدي للصين بشكل عام، مما أدى إلى تقوية المركز التنافسي للصين في مقابل كافة دول العالم بما في ذلك الاقتصاديات الناشئة التي تتمتع بنفس المزايا النسبية التي تملكها الصين.

الولايات المتحدة تتهم الصين بأنها تعلن الحرب التجارية رسميا، وتمارسها بالفعل منذ سنوات، من خلال تدخلها السافر في تحديد قيمة عملتها وعدم ترك اليوان يخضع لقوى العرض والطلب، وباستخدام احتياطياتها الدولارية الضخمة، تتدخل الصين، كلما تطلب الأمر، لكي تحافظ على اليوان منخفضا بالنسبة للدولار، ماذا يعني ذلك؟ إن ذلك يعني أن الصين تصنع ميزة تنافسية مصطنعة أو زائفة للسلع التي تقوم بإنتاجها، حتى تصبح هذه السلع رخيصة الثمن بالنسبة للعالم عندما تباع بالدولار، وهو ما يضمن ان تكون صادرات الصين مستمرة في النمو، وتحقق الصين فوائض ضخمة في ميزانها التجاري نظرا أيضا لضغطها على الواردات إليها. إذا كانت عملة الصين حرة كان من المفترض الآن أن يحدث الآتي:

- أن ترتفع قيمة اليوان بصورة كبيرة نظرا للطلب العالمي الشديد على الصادرات الصينية، الأمر الذي افقد الدول الناشئة الأخرى في العالم مثل ماليزيا واندونيسيا .. الخ، الكثير من المزايا النسبية التي تمتلكها وتشترك فيها مع الصين، وهي رخص تكلفة العمالة.

- ان ينخفض الطلب على الصادرات الصينية ويتحول بالصادرات الصناعية إلى دول أخرى تشترك مع الصين في نفس الميزة النسبية، مثل الدول الناشئة في العالم كفيتنام.

- أن يحدث تحول في اتجاه الاستثمار الأجنبي المباشر من الصين إلى الدول الأخرى للاستفادة من الفرص التي يتيحها الاستثمار في هذه الدول.

- ان تتزايد واردات الصين من الخارج مع ارتفاع قيمة عملتها وارتفاع القوة الشرائية لدخول سكانها.

- انخفاض الاختلالات التجارية بين الصين والعالم.

غير ان شيئا من هذا لم يحدث بسبب استمرار الصين في الضغط على عملتها في سوق الصرف الأجنبي.

الصين ترى ان اتهامات الولايات المتحدة لها بالتلاعب بعملتها هي محاولة لإلقاء اللوم على الآخرين بدلا من أن تتحمل خطأها هي، حيث تبحث الولايات المتحدة عن كبش للفداء من وجهة نظر الصين، كذلك ترفض الصين تحميلها اللوم على أنها المتسببة في الاختلالات التجارية العالمية السائدة في الاقتصاد العالمي، بصفة خاصة رفض الصين الادعاءات بأن المدخرات الزائدة للصين أو أن ضعف مستويات الطلب المحلي في الصين هي أسباب العجز التجاري في الولايات المتحدة، حيث أشارت إلى ان المشكلات الاقتصادية الأمريكية هي مشكلات محلية الصنع جاءت نتيجة عمليات الإفراط المستمر في الائتمان، وحديثا بسبب الإفراط في عمليات إصدار الدولار، والتي أدت إلى عدم استقرار الاقتصاد العالمي.

تلعب الصين حاليا لعبة القط والفأر مع الولايات المتحدة والعالم، فهي من جهة تتعهد برفع قيمة عملتها أمام المحافل الدولية مثل مجموعة العشرين، وتتعهد بإجراء الإصلاحات بشكل مستمر في هذا المجال، غير أنها تتجنب ان تلتزم بتلك التعهدات بشكل مستمر أيضا، وتستخدم احتياطياتها الضخمة من اجل شراء العملات الأجنبية، بصفة خاصة الدولار واليورو للحفاظ على قيمة هذه العملات مرتفعة بالنسبة لليوان. وبدلا من استخدام احتياطياتها الضخمة في تطوير أسواقها ورفع مستويات المعيشة لعمالها ومزارعيها، تقوم الصين باكتناز هذه الاحتياطيات في صورة عملات أجنبية لتبعد هذه الاحتياطيات عن اقتصادها المحلي، من خلال شراء أصول أمريكية، بصفة خاصة السندات، وهو ما يساعد على استمرار مستويات الائتمان مرتفعة في الولايات المتحدة.

لمواجهة جانب من هذه الانتقادات أعلنت الصين أنها تخطط لتخفض فوائضها التجارية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي إلى اقل من 4% خلال 3 إلى 5 سنوات القادمة، كذلك حذر رئيس الوزراء الصيني القادة الغربيين قائلا "لا تضغطوا علينا في معدل صرف الرنمينبي"، مشيرا إلى ان شركات التصدير الصينية تحقق حاليا هوامش ربح منخفضة للغاية، والتي من الممكن ان تزول من خلال الإجراءات الحمائية الأمريكية، وإذا حدث ذلك فان الكثير من تلك الشركات سوف يغلق أبوابه، وسوف يعود الملايين من العمال المهاجرين مرة أخرى إلى قراهم، وانه لو واجهت الصين اضطرابات اقتصادية واجتماعية فإن ذلك سوف يكون بمثابة كارثة للعالم.

من جانبها أعلنت الولايات المتحدة عن بدء جولة جديدة من التيسير الكمي بإصدار 600 مليار دولارا، وعلى الرغم من أن الاحتياطي الفدرالي قد أعلن ان الهدف من الخطة هو تسريع معدلات النمو من خلال زيادة مستويات الائتمان المحلي، فإن الشركاء التجاريين للولايات المتحدة ينظرون إلى الخطة من منظار آخر، حيث يعتقدون أنها تهدف إلى تخفيض قيمة الدولار لجعل الصادرات الأمريكية أكثر رخصا، والواردات من الخارج أغلى ثمنا، وأن هذه الخطوة، في ظل الأوضاع الاقتصادية السيئة التي تسود العالم اجمع حاليا، تؤدي إلى اختلال العلاقة بين العملات المختلفة في العالم بصورة تعمدية، وهو ما ينظر إليه على انه عمل من أعمال الحرب، الأمر الذي يستلزم التدخل الفوري للدفاع عن مصالحها التجارية التي يمكن ان تتأثر نتيجة البرنامج الأمريكي.

الصين ترى أن السلوك الأمريكي يمكن أن يؤدي إلى أزمة عالمية أخرى، وقد أعلن رئيس البنك المركزي الصيني، أن الصين سوف تواجه واشنطن من خلال إقامة تحالفات إقليمية للعملة لتسريع عملية الاستخدام العالمي لليوان، التصريح الذي أعلنه رئيس البنك المركزي الصيني فيما يبدو لا يدرك ما ينطوي عليه من آثار في الوقت الحالي، حيث أنه سيؤدي إلى جلب أخشى ما تخشاه الصين، وهو أن يأخذ اليوان قيمته الحقيقية.

من جانية أشار رئيس البنك المركزي الصيني Zhou Xiaochuan أن سياسات التيسير الكمي، وحرص الولايات المتحدة على الإبقاء على معدلات الفائدة عند مستويات منخفضة، تتشابه أيضا مع عمليات التلاعب بالعملة، الأمر الذي يضر بالمصالح التجارية للدولة الناشئة حيث تتدفق رؤوس الأموال بصورة كبيرة نحو هذه الدول، ومثلما تتهم الدول الغربية الصين، فإن هذه الدول ضليعة أيضا في تلك الممارسات.

كانت البرازيل أول دولة تنتقد الخطة الأمريكية بإصدار المزيد من الدولار لشراء السندات الحكومية. البرازيل قلقة على مركزها التنافسي وهي ترى ان عملتها تتزايد بشكل مستمر في مواجهة الدولار، فمنذ 2009 حتى الآن ارتفع الريال البرازيلي بنسبة 39% بالنسبة للدولار، وهو ما يؤثر بصورة سلبية على الصادرات الصناعية للبرازيل إلى الولايات المتحدة. من ناحية أخرى فإن العملات العالمية ترتفع بالنسبة للدولار بعد إقرار خطة التيسير الكمي2، ومن ثم فإن ما كانت الولايات المتحدة تتهم به الصين مرارا وتكرارا بأنها تخفض عملتها بالنسبة للدولار، بما يخل بالتوازن التجاري بين الدولتين على نحو واضح في صالح الصين، أصبحت تمارسه الولايات المتحدة حاليا على نطاق واسع.

من وجهة نظر البرازيل فان هذا الإعلان يمثل خطوة نحو تخفيض قيمة الدولار، بهدف رفع الميزة النسبية للصادرات الأمريكية مقارنة بباقي الدول، وأن هذه الأموال سوف تذهب إلى الدول الناشئة بحثا عن معدلات أعلى للعائد ومن ثم ترتفع قيم عملات هذه الدول، وهو ما يصب في تقليل المزايا التنافسية لصادراتها، ولكن كيف تذهب أموال التيسير الكمي إلى أسواق الدول الناشئة؟ ان المسألة في غاية البساطة، بما ان الاحتياطي الفدرالي سوف يتدخل في سوق السندات لشراء السندات طويلة الأجل بهدف رفع قيمة هذه السندات، ومن ثم تخفيض معدلات العائد عليها، فإن المؤسسات المالية التي ستقوم ببيع هذه السندات لن تعيد استخدام إيراداتها من عمليات البيع في الولايات المتحدة، وإنما ستستخدم هذه الأموال للاستثمار خارج الولايات المتحدة بحثا عن معدلات أعلى للعائد في الخارج، وهو ما يضر بعملات الدول الناشئة.

لتخفيف تعرضها للدولار الأمريكي اشترت الصين 2.3 تريليون ينا في السبع اشهر الأولى من هذا العام، مما أدى إلى رفع قيمة الين، على عكس ما ترغب الحكومة اليابانية، بنسبة 15%، وهو ما أثر على معدل نمو الصادرات اليابانية وخفض من سرعة استعادة النشاط الاقتصادي بها، الأمر الذي استدعى ضرورة التدخل من جانب البنك المركزي الياباني الذي قام ببيع الين بمقتضى عملية تيسير كمي تهدف إلى تخفيض معدل صرفه بالنسبة لباقي العملات الدولية، لامتصاص هذا التأثير من خلال شراء الدولار الأمريكي بهدف خفض معدل صرف الين بالدولار. من ناحية أخرى تعلن الصين أيضا أنها سوف تشتري كميات كبيرة من السندات الأوروبية، بما في ذك السندات اليونانية مرتفعة المخاطر، وذلك في محاولة منها لمنع اليورو من التراجع، الهدف بالطبع ليس حماية اليورو، وإنما وقف اتجاه اليورو نحو التراجع والحفاظ على قيمته مرتفعة في أسواق الصرف الأجنبي، الأمر الذي من يرفع تنافسية الصين في مواجهة منطقة اليورو.

على ما يبدو فإن الاحتياطيات الضخمة للصين أصبحت تمثل سلاحا فتاكا يمكن توجيهه نحو أي عملة لضمان استمرار تفوق الميزة النسبية للصين في مجال إنتاج السلع الصناعية. المشكلة الأساسية التي يمكن ان تواجهها الدول التي تهاجمها الصين، مثل اليابان، هي ان هذه الدول لا يمكنها الرد بتوجيه أسلحتها ضد اليوان الصيني، لأنه عملة غير قابلة للتحويل أصلا، ومن ثم فإنه غالبا ما ستوجه الدول أسلحتها نحو الدولار، مثلما فعلت اليابان.

حتى هذه اللحظة لا يمكن الجزم بأن الصين تستخدم فعلا احتياطياتها لضرب عملات باقي دول العالم بهدف تحقيق أهداف تجارية، ولكنها تبقى سلاحا قذرا للغاية إذا ما تم تفعيله على هذا النحو. لقد وصفت وزيرة الخارجية الأمريكية، السيدة هيلاري كلينتون أثناء الانتخابات الرئاسية الاحتياطيات الصينية، بأنها تمثل الخيار النووي الذي يمكن ان توجهه الصين ضد الولايات المتحدة.

مع موجات التيسير الكمي في الولايات المتحدة واليابان أخذ المستثمرون بالبحث عن معدلات أعلى للعائد في دول أخرى، بصفة خاصة الدول الناشئة، وهو ما أدى إلى تدفقات هائلة من رؤوس الأموال إلى الاقتصاديات الناشئة. على سبيل المثال بلغ صافي تدفقات رؤوس الأموال للاستثمار في محافظ الأوراق المالية في البرازيل 65 مليار دولارا، وهو ما يعد أعلى مستوى لهذه التدفقات خلال الخمس عشر عاما الماضية. بينما بلغت تدفقات رؤوس الأموال بهدف الاستثمار في محافظ الأوراق المالية في كوريا 46 مليارا حتى أغسطس 2010، وهو ما يؤدي إلى تصاعد الضغوط على عملات هذه الدول نحو الارتفاع، ومن ثم التأثير سلبا على تنافسيتها، وهو الأمر الذي وضع صانعي السياسة الاقتصادية في الدول الناشئة تحت ضغط العمل على خفض قيمة عملاتهم، ومقاومة الضغوط نحو الارتفاع في مواجهة عملات مثل الدولار واليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني.

ردود الفعل لطبول الحرب

التحركات التي قامت بها اليابان والولايات المتحدة، وبالطبع الصين، لم تترك للعالم من سبيل آخر سوى بدء حملة من الدفاع عن عملاتها للحفاظ على تنافسيتها. فقد تدخل العديد من دول العالم بما فيهم البرازيل والهند واندونيسيا وإسرائيل واليابان وكوريا وماليزيا والفلبين وماليزيا وسنغافورة وجنوب إفريقيا وسويسرا وتايوان وتايلاند في سوق الصرف الأجنبي، أو قاموا بفرض ضرائب على تحركات رؤوس الأموال، وبدلا من ترك عملاتها ترتفع في سوق الصرف الأجنبي، قامت هذه الدول بالاستجابة إلى تدفقات رؤوس الأموال من خلال التدخل في سوق الصرف الأجنبي لشراء العملات الأجنبية لتفويت فرصة تحقيق عوائد استثمارية أعلى على أراضيها، حيث أن فروق معدلات العائد سوف يفقدها المستثمرون نتيجة ارتفاع معدلات الصرف الأجنبي، أو أن تقوم بفرض ضرائب على تدفقات رؤوس الأموال بحيث يترتب على تحمل المستثمرين لهذه الضرائب ضياع فروق العوائد بين الدول الناشئة ودول الأصل التي تتدفق منها رؤوس الأموال هذه، وباختصار فقد تمثلت ردود أفعال الدول الناشئة لتدفقات رؤوس الأموال إليها في الآتي:

- رفع الضريبة على الاستثمارات المالية، على سبيل المثال أعلنت كوريا الجنوبية أنها سوف تعيد فرض الضريبة على إيرادات المستثمرين في السندات الحكومية بنسبة 14%، كذلك أعلنت تايلاند عن فرض ضريبة بنسبة 15% على مدفوعات الفوائد أو الإيرادات الرأسمالية التي يحققها المستثمرون الأجانب في السندات التايلاندية كما قامت البرازيل بمضاعفة ضريبة تدفقات رؤوس الأموال لكي يساعد ذلك في القضاء على فروق معدلات العائد بين السندات البرازيلية والأمريكية.

- شراء الدولار الأمريكي بواسطة البنوك المركزية

- زيادة الضريبة على المعاملات في المشتقات المالية

- استخدام موارد صناديق الثروة السيادية للتدخل في الوقت المناسب لشراء العملات الأجنبية لتخفيف الضغوط على العملات المحلية.

- تعديل نظم ولوائح التعامل في النقد الأجنبي، بصفة خاصة فيما يتعلق بتوسيع نطاق الرقابة على عمليات البنوك في المشتقات المالية وتدفقات رؤوس الأموال إلى الداخل.

- فرض ضرائب على الاحتفاظ بالسندات بواسطة الأجانب.

من ناحية أخرى تتصاعد التوقعات بأن الولايات المتحدة ربما تلجأ إلى فرض ضريبة جمركية حمائية على وارداتها من الصين لمواجهة تحركات الصين باعتبارها دولة تتلاعب بعملتها، وكرد فعل لذلك أقر مجلس النواب قانونا يسمح للشركات الأمريكية بأن تسعى لفرض ضريبة حمائية ضد الدول التي تخفض قيمة عملاتها وذلك بأغلبية كبيرة، كذلك كان موضوع الممارسات غير العادلة التي تقوم بها الصين احد الموضوعات الساخنة والحاضرة بقوة في انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشيوخ والكونجرس الأمريكي.

غير أنني أكاد أجزم أن مثل الإجراء ربما يكون غير متوقع الحدوث، ما هو متوقع الحدوث أن تستمر الولايات المتحدة في ممارسة أقصى درجات الضغط السياسي على الصين بدلا من اللجوء إلى إجراءات حمائية مثل الضرائب الجمركية أو القيود الكمية. فالتلويح بفرض ضرائب جمركية على الواردات الصينية ليس بالسهولة التي يتوقعها البعض، ذلك أن مثل هذا القرار لا بد وأن يتماشى مع قواعد منظمة التجارة العالمية في هذا المجال، من ناحية أخرى فإن هناك تكاليف إضافية لهذه الخطوة، وهي أنه بغض النظر عن الفجوة في الحساب الجاري التي سيتم سدها من جانب دول أخرى غير الصين، فإن الضريبة على الوردات سوف يترتب عليها رفع أسعار الواردات، ومن ثم مستويات أعلى من الأسعار للمستهلك. ولكن الأهم من هذا كله هو هل سيؤدي ذلك إلى رفع مستويات التوظف في الولايات المتحدة؟ الإجابة بالتأكيد هي لا، نظرا لتراجع القدرات التنافسية الأمريكية مقارنة بالمزايا التنافسية للدول الناشئة. من ناحية أخرى حذرت الصين من أنها لن تقبل أي إجراءات حمائية تفرض ضدها، حيث لن تقف مكتوفة الأيدي حيال، ذلك، وإنما ستقوم باتخاذ ما يلزم من جانبها.

هل تقوم الحرب بالفعل

قبل عقد قمة مجموعة العشرين الماضي في كوريا الجنوبية توقعت أنه لن تقوم حرب للعملات، وان القمة سوف تتعامل مع ضغوط حرب العملات بصورة أكثر عقلانية وبما يحقق مصالح الجميع، ويضمن استقرار تدفقات رؤوس الأموال والسلع على المستوى الدولي، وبالفعل جاءت نتائج القمة وفق ما توقعت، فقد اتفق المؤتمرون على ضرورة إعطاء ادوار اكبر لقوى السوق في تحديد معدلات الصرف السوقية، طبعا المقصود بذلك هو الصين، كما تم التأكيد على أهمية اللجوء إلى الإصلاحات الهيكلية من اجل معالجة الاختلالات التجارية العالمية، في إشارة إلى الولايات المتحدة، وبمعنى آخر تمكنت القمة من تجنب الخوض في الحديث عن الحرب التجارية القادمة، والذي مما لاشك فيه أنه لو حدث، سيكون أسوأ سيناريو للقمة. بانتهاء القمة خفت مخاطر حدوث حرب العملات بصورة جوهرية.

ولكن هل يعني ذلك تلاشي مخاطر اشتعال الحرب، الإجابة هي لا، فمما لا شك فيه أن الأمر سوف يعتمد على عدة عوامل أهمها مسار الأزمة في المستقبل ومدى تحسن الأوضاع أو سوءها، ودرجة التعاون الدولي في هذا المجال، غير أنني أميل إلى أن أرى أن العالم لم يعد بهذا المستوى من الغباء الاقتصادي الذي ساد في فترة ما بين الحربين، وان العالم سوف يفضل مصالحه على المستوى الكلي بصورة أكبر عن تلك التي يمكن أن تتحقق على المستوى القطري، ومن ثم فان فرص واحتمالات قيام الحرب تظل في النهاية محدودة للغاية في وجهة نظري، وبالفعل لقد كانت ردة الفعل الرسمية للإعلان عن نشوب حرب العملات، هي أن العالم سوف يحاول تجنب هذه الحرب، ويركز على العوامل التي تحفز النمو والتعاون الدولي من اجل الخروج من الأزمة، مثل هذه النغمة لم تكن سائدة في أوقات ما بين الحربين.

فمن المؤكد أن الدول التي تضار من حرب العملات لن تقف مكتوفة الأيدي، ولابد أنها ستقدم في النهاية على اتخاذ إجراءات انتقامية إما من خلال تخفيض مماثل أو من خلال فرض ضرائب لمواجهة مثل هذه الممارسات الضارة تجاريا بالنسبة لها، أو أن تتدخل بشكل مباشر لوقف تدفقات رؤوس الأموال إليها، وهكذا شيئا فشيئا تزداد العوائق أمام التدفق التجاري الحر للسلع والخدمات ورؤوس الأموال عبر دول العالم، ويحدث اضطراب تجاري عظيم، تكون نتيجته ضعف استفادة دول العالم من التبادل التجاري الحر، سواء تلك التي خفضت عملاتها أو تلك التي ردت على هذا التخفيض بتخفيض مماثل أو بتقييد التجارة وتدفقات رؤوس مع شركاءها، وفي ظل هذه الأوضاع تفقد دول العالم فرص الاستفادة من المزايا النسبية التي تمتلكها، وكذلك العوائد التي يمكن ان تنشأ عن التبادل التجاري الحر للسلع والخدمات ورؤوس الأموال عبر مختلف دول العالم.

هناك ٣ تعليقات:

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    شكراً دكتور محمد
    انت مفكر تجيد صناعة العلم والمعرفة وليس اكاديمي فقط.

    هل من الممكن توضيح هذه الفقرة
    على ما يبدو فإن الاحتياطيات الضخمة للصين أصبحت تمثل سلاحا فتاكا يمكن توجيهه نحو أي عملة لضمان استمرار تفوق الميزة النسبية للصين في مجال إنتاج السلع الصناعية. المشكلة الأساسية التي يمكن ان تواجهها الدول التي تهاجمها الصين، مثل اليابان، هي ان هذه الدول لا يمكنها الرد بتوجيه أسلحتها ضد اليوان الصيني، لأنه عملة غير قابلة للتحويل أصلا، ومن ثم فإنه غالبا ما ستوجه الدول أسلحتها نحو الدولار، مثلما فعلت اليابان.

    ماذا تقصد: عملة الصين غير قابلة للتحول؟.
    ولماذا لا تستطيع مثلاُ اليابان التدخل في السوق للحفاظ على عملتها امام العملة الصينية. بينما تستطيع الصين فعل ذلك؟.

    ردحذف
  2. أ.د محمد
    هل هناك معلومات عن البنك السويدي المركزي بخصوص خفض سعر الفائدة لأقل من الصفر، أو فائدة بالسالب. وعن النتائج.وهل استمر البنك في سياسته ام تراجع؟

    ردحذف
  3. شكرا استاذ عباس
    عذرا على التأخير في الرد على ملاحظتك. أولا شكرا على اطراءك
    بالنسبة للسؤال الأول المقصود بالعملة غير القابلة للتحويل العملة التي لا يمكن تحويلها الى عملة أخرى، أي لا يمكن بيعها أو بيعها في اسواق الصرف الاجنبي، ولا يتم بالتالي تحديد معدل صرف سوقي لها، وانما تقوم الحكومة بتحديد معدل الصرف هذا من خلال ربطها بعملة دولية (الدولار)، ولا تسمح لهذا المعدل بالتغير. ومن ثم تقتصر المعاملات الخارجية للصين في اليوان الصيني على المعاملات التي تتم في اطار اتفاقيات بين الصين والدول الاخرى، أي أن التحويل بين اليوان وأي عملة أخرى يتم بصورة رسمية (عن طريق البنك المركزي للدولتين).
    بالنسبة للسؤال الثاني، بما ان العملة الصينية غير قابلة للتحويل فإن اليابان لا تستطيع ان تشتري منها كميات كبيرة في سوق الصرف الاجنبي للتأثير على سعرها بالارتفاع لأن اليوان كما قلنا ليس قابلا للتعامل عليه في سوق الصرف الاجنبي بصورة غير رسمية. بينما تستطيع الصين باحتياطياتها الدولارية الهائلة شراء الين، باعتباره عملة قابلة للتحويل، فتزيد الطلب عليه وترفع من معدل صرفه، فتقل تنافسية اليابان بالنسبة للصين، بينما لا تستطيع اليابان ان تفعل نفس الشيء بالنسبة لليوان.
    حتى الآن لم يقع بين يدي أي عملية تقييم لسياسة معدل الفائدة الثابت التي استخدمتها السويد، سواء من قبل البنك المركزي السويدي، أو من قبل باحثين سويديين، ومن المؤكد انني عندما تقع يدي على هذه الدراسات سوف أتناولها بالعرض
    تحياتي

    ردحذف