الجمعة، يناير ٢١، ٢٠١١

الاقتصاد أولا هو أهم دروس زلزال تونس

نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية بتاريخ الجمعة 21/1/2011
حبس العالم العربي أنفاسه يوم الجمعة الماضي وهو يتابع تطور الأوضاع في الشقيقة تونس، والتي تلاحقت بصورة سريعة وعلى نحو لم يخطر على بال أحد، حيث أجبرت الأحداث الرئيس بن علي على ترك تونس، وانفتحت بذلك الأوضاع الداخلية، حتى وقت كتابة هذا المقال، على كافة السيناريوهات الممكنة، السيئ منها والجيد، وذلك في ظل تراجع سيطرة الدولة على مجريات الأحداث في الشارع التونسي. فهل ستفرز الأحداث نظاما سياسيا أفضل يملك سلطة مركزية قوية قادرة على السيطرة على الأوضاع وتوجيهها نحو الاتجاه السليم لمصلحة الناس وليس لصالح النخبة، أم أن الأوضاع يمكن ان تنفلت على نحو يجعل من عملية السيطرة على الأوضاع الداخلية مسألة غير ممكنة، الأمر الذي قد يفتح الباب على المجهول، حتى هذه اللحظة كافة السيناريوهات مفتوحة.

كما يعلم الجميع انطلقت شرارة الأحداث بانتحار الشاب العاطل عن العمل محمد بو عزيزي. فكأي شاب حاول بعد الحصول على شهادته الجامعية أن يجد وظيفة في القطاع الرسمي للدولة Formal، لكنه لم يفلح في أن يجد لنفسه فرصة عمل في سوق تضيق فيه فرص العمل على نحو واضح، ويعاني من معدلات مرتفعة للغاية للبطالة، تعد من أعلى المعدلات في العالم العربي، في الوقت الذي لا يبدو فيه ان صانع السياسة الاقتصادية يبذل الجهد المفترض للتعامل مع هذه المشكلة كما ينبغي، من خلال توجيه الموارد اللازمة لخلق فرص عمل كافية لاستيعاب الداخلين الجدد إلى سوق العمل، وذلك بما يضمن لهؤلاء العمال فرصة الحصول على وظيفة شريفة، تحقق لهم دخل مناسب يضمن لهم حياة كريمة ويقيهم شرور الحاجة والعوز. من ناحية أخرى أدى انتشار الفساد إلى إجهاض مبادرات القطاع الخاص، حيث توجهت الاستثمارات الخاصة إلى المجالات غير المنتجة، أو التي لا توفر وظائف يمكن ان تساعد في تخفيض حدة البطالة، أو تمثل بديلا لعملية خلق الوظائف من خلال القطاع الحكومي في تونس، مثل الاستثمار في العقار وذلك لتجنب التعرض لتأسد النخبة عليها والتهديد بتعطيل مصالحه إذا لم يدفع الإتاوة.

عندما أغلقت الأبواب أمام محمد في القطاع الرسمي للدولة، حاول أن يجد له موردا للرزق بصورة غير رسمية، أي في سوق العمل في القطاع غير الرسمي Informal sector، والذي عادة ما يقدم المساعدة للعاطلين عن العمل لتدبير تكاليف معيشتهم حتى يتمكنوا من الانضمام إلى القطاع الرسمي. القطاع غير الرسمي في الاقتصاد هو قطاع اقتصادي يتسم بشكل عام بعدم التنظيم من قبل الدولة، وللقطاع غير الرسمي سوق غير رسمي للعمل، ومن أمثلة الوظائف التي تنتشر في مثل هذا السوق أن يعمل الشخص بائعا للسمك أو الخضار أو موزعا للسلع الاستهلاكية على المنازل، أو سمسارا، أو حمالا أو غير ذلك من الوظائف التي لا تتطلب توافر مؤهلات محددة، وغالبا ما يزدهر هذا السوق غير الرسمي عندما تفشل الحكومات في أن توفر كمية كافية من الوظائف التي تتناسب مع احتياجات الداخلين الجدد إلى سوق العمل، أو عندما تضيق فرص العمل في الريف فتزداد الهجرة الداخلية إلى الحضر بحثا عن العمل، ويكون هذا السوق هو المحطة الأولى لهؤلاء المهاجرين حتى يجدوا فرصة العمل المناسبة في القطاع الرسمي.

الميزة الأساسية في القطاع غير الرسمي انه يمكن ان يستوعب عددا كبيرا جدا من المشروعات البسيطة وبرأس مال محدود، وبدون متطلبات رسمية للحصول على تراخيص .. الخ، مشكلة القطاع غير الرسمي أنه لا يخضع للنظم والقواعد التي تطبقها الدولة على القطاع الرسمي، ويعمل وفقا لقواعد خاصة به غالبا ما يتم تطويرها داخل هذا القطاع وبعيدا عن سيطرة الدولة. ولذلك غالبا ما يفتقد هذا القطاع لمعايير محددة للجودة أو آليات معلومة لصياغة أو تنفيذ العقود، أو متطلبات محددة لخصائص قوة العمل التي ستعمل فيه، أو قوانين للحد الأدنى للأجور أو للتأمينات الاجتماعية، أو نظام للتراخيص .. الخ، ولذلك غالبا ما تحارب الحكومات مثل هذا القطاع لأنه يولد ناتجا لا يدخل ضمن الحسابات القومية للدولة، ولا يدفع بالتالي عنه ضرائب أو رسوم أو غير ذلك من الإيرادات التي تحصل عليها الحكومات في القطاع الرسمي. غير أنه في حال ارتفاع معدلات البطالة، خصوصا إذا كانت الدولة لا تقدم للعاطلين عن العمل إعانات بطالة توفر لهم حد أدنى من العيش الكريم، ينبغي على الحكومات ان تغمض عينيها عن مثل هذا القطاع حتى تقي نفسها من المشاكل الناجمة عن تراكم الضغوط التي تنشأ عن انتشار البطالة في القطاع الرسمي، إذ يمثل هذا السوق صمام الأمان لتنفيس الضغوط الناجمة عن ارتفاع معدلات البطالة في السوق الرسمي للعمل.

حاول محمد بو عزيزي أن يجني قوت يومه من خلال بيع الخضراوات في القطاع غير الرسمي، رغم انه حاصل على شهادة جامعية، ولكن يبدو أنه حتى مع تفاقم مشكلة البطالة كان هناك أيضا إصرارا من جانب الدولة على بسط سيطرتها على القطاع غير الرسمي، فطلب من محمد مغادرة السوق، لأنه ليس لديه ترخيص بمزاولة هذه المهنة. برغم توسلات محمد لمقابلة المسئولين حتى يسمح له بمزاولة هذا العمل الذي لا يتماشى مع مؤهلاته حتى يؤمن قوت يومه، إلا أن توسلاته ضاعت سدى، وحيل بينه وبينهم. بعد ان بلغ بمحمد اليأس في أن يجد من يستمع إليه، أشعل النار في نفسه، ليذهب ضحية سوء الأوضاع، وقسوة النظام البيروقراطي على أمثاله. القصة المؤثرة لمحمد أشعلت فتيل الأزمة في ظل أوضاع عامة تحرم الناس من حقوقهم السياسية وأمانهم الاقتصادي في ذات الوقت.

قد يكون الناس مستعدون للتنازل عن جانب من حريتهم السياسية وآفاق الاختيار المتاحة أمامهم، ولكنهم بالتأكيد غير مستعدين للتنازل عن لقمة العيش. أمام ضغوط البطالة تحول انتحار بوعزيزي إلى كرة ثلج هائلة تتضخم بسرعة إلى الحد الذي وجد النظام فيه نفسه أمام تيار جارف لا يمكنه السيطرة عليه، وتطورت الأوضاع في البلد إلى نقطة اللا عودة، لدرجة أنه لم تفلح قوى الأمن في السيطرة على حالة الغليان التي سادت الشارع ولا أن تحيد به عن تصميمه على التغيير فانهار النظام على النحو الذي يعرفه الجميع.

يفترض أن السياسات الاقتصادية الكلية في أي دولة في العالم تهدف أساسا إلى تحقيق هدفين رئيسين، الأول هو العمل على رفع مستويات التوظف ومواجهة مشكلة نقص معدلات التشغيل للموارد، وبصفة خاصة تشغيل عنصر العمل، والهدف الثاني وهو تحقيق استقرار الأسعار ومحاربة التضخم، ومن بين هذين الهدفين يحتل هدف محاربة البطالة الأولوية الأسمى، ومن المعلوم أن البطالة هي أهم المشاكل التي يمكن ان تتعرض لها دولة ما، وكما يقول روبرت بيرتون "أن الجمود والعطالة هو أم البؤس". فعندما ترتفع معدلات البطالة ولا يجد الناس فرصة للعمل تنقطع السبل بالشخص، ومن ثم، في حال عدم تقديم الدولة المساعدة الاجتماعية للعاطلين، لا يتمكن هؤلاء من توفير احتياجاتهم اللازمة لتغطية نفقات معيشتهم، ونتيجة لهذه الضغوط تنتشر الكثير من الأمراض مثل الأمراض النفسية والعقلية وتكثر حالات الانتحار وتزيد معدلات الجريمة، وتنتشر الأفكار المتطرفة، وتزداد حالات التفكك الأسري، وينفتح الباب واسعا أمام الإرهاب، وتزداد فرص عدم الاستقرار السياسي، ومن ثم الكثير من القلاقل التي يمكن أن تنشأ عن ذلك، ولهذا السبب ينظر الاقتصاديون إلى البطالة على أنها اخطر القضايا الاقتصادية على الإطلاق.

الأحداث التاريخية تثبت أن استمرار أي نظام رهن بتطور الأوضاع الاقتصادية على النحو المناسب، فطالما أن الأوضاع الاقتصادية في حالة طبيعية، وليس هناك ضغوط على الناس، فإنهم غالبا ما يتغاضون عن النظام السياسي إذا قيد من حرياتهم أو قلص من فرص اختيارهم، ولكن عندما تسوء الأوضاع الاقتصادية، فإن الناس لا يمكنها ان تتحمل قهرا سياسيا، وأوضاعا اقتصادية متدهورة في ذات الوقت. ولذلك نجد أن انتفاضة الناس على النظم غالبا ما تكون مصحوبة بتدهور الأوضاع الاقتصادية على الأرض تدهورا شديدا لدرجة تدفع الناس إلى الانتفاض بعد ان يكون قد فاض بها الكيل، ولذلك غالبا ما يطلق على مثل هذه الانتفاضات الشعبية "ثورة الجياع".

ضبط الاقتصاد والحفاظ على مستوى رفاهية الناس هو إذن الروشة الاقتصادية السحرية لأي نظام أوتوقراطي حتى يحظى بقبول الناس الانتقاص من حريتهم في سبيل الحفاظ على رفاهيتهم، والشعوب في كل أنحاء الدنيا ليست مستعدة ان تفقد الاثنين معا. هذا طبعا لا ينفي حقيقة أن الشعوب في كل دول الدنيا تستحق حكما عادلا ونزيها يعمل لصالحهم ويوجه كل طاقته لخدمتهم وتوفير فرص معيشة أفضل ورفاهية أعلى لهم.

مشكلة النظم الأوتوقراطية أنها غالبا ما تكون مصحوبة بظاهرتين لصيقتين، الأولى هي الفساد، وذلك نتيجة محاولة النظام تكوين سد حماية له أو لنظامه يحول بينه وبين السقوط، وغالبا ما يطلق على هؤلاء عبارة النخبة، وقد يفرط النظام في التغاضي عن الممارسات التي تقوم بها تلك النخبة فيتجذر الفساد في كافة أنحاء الدولة. والثانية هي تدهور الأوضاع الاقتصادية على المدى الطويل، نظرا لغياب مفاهيم التنافسية الدولية عن نظم الحكم وتحول اهتمام النظام عن هذه القضية الحيوية، وتوجيه الموارد بصورة أساسية نحو تكريس الأوضاع الحالية للنظام بأي ثمن، وسد أي دعوى للتغيير تحت أي ذريعة. عندما تشتد الأوضاع الاقتصادية سوءا بالغالبية العظمى من الشعب، وهي ترى أن ثروات النخبة تتضخم، في الوقت الذي لا يجد فيه المواطن فرصة عمل كي يحيا حياة كريمة فإن بوادر انهيار النظام تكون قد بدأت في البروز على السطح.

لسوء حظ الحكومات الأوتوقراطية أنه لم يعد في قدرتها حاليا فرض سيطرتها أو رقابتها على وسائل الإعلام التي يستطيع المواطن أن يصل إليها، وذلك بعد ان تحول العالم بفضل ثورة الانترنت إلى شاشة صغيرة لا تتجاوز مساحتها حجم مسطح شاشة حاسوب صغير. إلا إذا لجأ النظام إلى فرض التعتيم الكامل على شعبه وحرمانهم من أي فرصة اتصال بالعالم الخارجي، مثلما يفعل النظام الشمولي في كوريا الشمالية، حيث يتحكم في كل صغيرة وكبيرة تصل إلى الناس، ومن ثم يفرض سيطرة كاملة على ما يشاهدونه على التلفاز أو يسمعونه في محطات الراديو أو ما يقرأونه في الصحف والمجلات، ولذلك لم يكن من المستغرب أن تبث محطات التلفاز في كوريا الشمالية نبأ انتصار فريقها القومي على البرازيل في كأس العالم لكرة القدم الماضي، واحد/صفر، في الوقت الذي خرج فيه الفريق مهزوما 2/1، لأن الماتش جرت له عملية مونتاج ليصل إلى الناس بالطريقة التي يرغب الحاكم شعبه في أن يراها.

والآن هل يتوقع ان يترتب على الانتفاضة الشعبية في تونس تغيرات جوهرية على الساحة السياسية العربية، وهل ستمثل تونس حالة تمتد عدواها إلى باقي الدول العربية؟ قد يبالغ البعض في وصف الآثار التي سوف تترتب على أحداث تونس، وأنها بداية انتزاع الشعوب لحريتها بأيديها إلى آخر هذا الكلام الذي نقرأه بكثرة في الصحف وعلى الانترنت أو نشاهده على التلفاز. أختلف تماما مع هذا الحكم، حيث أرى أنه ربما تسدل أحداث تونس الستار على مسلسل نظم الحكم التي تسخر فقط لاستمرار الرئيس الحاكم بأي ثمن، ولكنها لن تتطور أكثر من ذلك، فلا الأوضاع العربية ولا الأوضاع السياسية الدولية سوف تسمح لمثل هذه النتائج بأن تتحقق، مهددة باختلال التوازن المصنوع في المنطقة. فعلى الرغم من ترحيب الدول الغربية، مثل الولايات المتحدة، بحق الشعب التونسي في اختيار ممثليه بحرية، وضرورة قيام الشعب التونسي بحكم نفسه، إلا أن مثل هذه الدعوات لا شك أنها ستنفذ ضمن ضوابط متعارف عليها لدى القوى الكبرى في العالم، والتي ليس من بينها أن يأتي الشارع بأي نظام للحكم.

ما أريد التأكيد عليه هو أن أهم الدروس المستفادة من الأزمة التونسية هي أنه لا يمكن تجاهل الأوضاع الاقتصادية وتكريس الاهتمام بالاستقرار السياسي فقط على حساب الاستقرار الاقتصادي، وأن الاستقرار الاقتصادي واستدامته أهم بكثير من استقرار سياسي على السطح، بينما تغلي الأوضاع في الداخل، وأن الشغل الشاغل لنظم الحكم يجب أن ينصب في توجيه موارد الدولة نحو خدمة الوطن ورفع تنافسيته وزيادة قدرته على توفير الوظائف أو باختصار شديد أن الاقتصاد لا بد وأن يأتي أولا في سلم أولويات الحكومات لضمان استقرارها السياسي.














ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق