الخميس، فبراير ٠٣، ٢٠١١

الشارع ينتفض في مصر


لطالما راهن الكثير من المراقبين، وأنا منهم، على القدرة غير العادية للشعب المصري على الصبر على تحمل معاناته مع حكامه، واستعداده لتجرع المزيد من صعوبة العيش والقهر السياسي، دون أن يحرك ساكنا، فقد أمضى الشعب المصري عشرون عاما من تاريخه لبناء مقبرة لحاكمة حتى يحقق لنفسه الخلود، موهما شعبه بأن روحه التي ستصعد إلى السماء عند وفاته من جانبي الهرم، هي التي ستحميهم من بعده، وتكفل لهم الأمن والسلام إلى الأبد. بصبر الشعب المصري، تمكن الحكام من بناء أهرامات وتماثيل ومعابد وتحف ما زالت تذهل الدنيا حتى اليوم. كما حفر الشعب المصري قناة السويس بالسخرة، دون ان يفهم لماذا يفعل ذلك، ولا ما هية المنافع التي ستعود عليه من مثل هذا المشروع الضخم، آلاف الأرواح أزهقت تحت لهيب الحر والسوط، حتى تم الانتهاء من حفر القناة بأظافر الفلاحين المصريين، لم يبد شعب في العالم هذا الصبر في التعامل مع حكامه، مثلما فعل الشعب المصري.

آخر انتفاضة شعبية عشتها في مصر كانت في يناير 1977، حينما اندلعت المظاهرات في كافة أنحاء مصر للاحتجاج على حزمة الإصلاح الاقتصادي التي اقترحت الحكومة تطبيقها في هذا الوقت، برئاسة عبد المنعم القيسوني رئيس المجموعة الاقتصادية في ذلك الوقت، تنفيذا لبرامج الإصلاح الاقتصادي التي أبرمتها الحكومة المصرية مع صندوق النقد الدولي، والتي كان من بينها رفع أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية بهدف تخفيض الدعم، والحد من العجز في الميزانية العامة للدولة. استمرت المظاهرات على مدى 36 ساعة في كافة أنحاء مصر، ووضعت نظام الرئيس الراحل أنور السادات في هذا الوقت في مهب الربح، حتى تراجع النظام بإلغاء حزمة الإصلاح المقترحة، فهدأ الشارع وتم امتصاص غضب الجماهير، وعادت الحياة إلى طبيعتها، بعد ان كانت طائرة الرئيس تقف على أهبة الاستعداد في مطار أسوان لنقله إلى الخارج.

منذ 2004 والشارع المصري يتظاهر من وقت لآخر مطالبا بالتغيير، ولكن على نطاق محدود جدا. يوم الثلاثاء قبل الماضي أطلق مجموعة من شباب مصر دعوة للتظاهر تحت عنوان "يوم الغضب"، وهو الشعار الذي رفعوه على برامج التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك وتويتر، واجتذبت الدعوة تعاطف الآلاف في البداية الذين تظاهروا للتعبير عن غضبهم مطالبين بالتغيير.

يوم الجمعة التالي رفع الشباب سقف انتفاضتهم داعين إلى التظاهر يوم الجمعة الماضي بعد الصلاة، تحت شعار "جمعة الغضب" التي دعوا فيها الجميع إلى التظاهر ضد النظام، مستفيدين من الزخم الذي يمكن استغلاله من خلال حشد أكبر عدد من الناس في مناسبتين الأولى هي الصلاة الأسبوعية، والثانية هي العطلة الأسبوعية، وتحولت مصر كلها بين عشية وضحاها إلى ساحة مستباحة لعصابات السطو المسلح والمنظم، وهي ظاهرة جديدة تماما لم تعرفها مصر في تاريخها. مصر التي طالما دائما ما كان يطلق عليها واحة الأمان في العالم، تحولت إلى أخطر بقاع الدنيا أمنيا، لولا يقظة شبابها وتكتل مواطنيها في الدفاع عن مالهم وعرضهم، وتكوينهم للجان شعبية لتملأ الفراغ الأمني الذي يثير ألف علامة استفهام.

السؤال الذي لم أجد له جوابا حتى هذه اللحظة هو، من يحرك هذه الجموع الصاخبة عبر أنحاء الجمهورية كلها وبهذه الدرجة العالية من التنظيم؟ من المؤكد أنه لا يمكن ان يكون أي من القوى السياسية الفاعلة على الساحة وراء ذلك، فالشعب المصري لا يؤمن بالأحزاب السياسية وليس عضوا فاعلا فيها، بما في ذلك الحزب الوطني نفسه، لأنه يعلم أنه لا أمل يرجى من وراء الممارسة السياسية من خلال تلك الأحزاب، وأنا متأكد أنه لو قام الرئيس حسني مبارك اليوم وقدم استقالته من الحزب، فإن الحزب الوطني سوف ينهار في اليوم التالي، لأن الأحزاب السياسية في مصر لم تأخذ بعد صفتها المؤسسية التي تضمن لها الاستدامة بعيدا عن مفاتيحها من الأشخاص.

أعود إلى سؤالي، انفجار الشارع على هذا النحو المدوي كان ردة فعل لسلسلة طويلة من الأخطاء عبر سنوات طويلة، كان آخرها التزوير المنهجي للانتخابات والذي طالما كان يمارسه الحزب الوطني على نطاق واسع. في موسم الانتخابات الأخيرة، طرأت على المراهقين السياسيين في الحزب الوطني من رجال الأعمال فكرة ساذجة، وهي أنه لم يعد هناك أي داع لوجود المعارضين لهم تحت قبة البرلمان، وانه من الأفضل، لتسيير مصالحهم بصورة أيسر هذه المرة، أن يكون البرلمان كله من الحزب الوطني. مراهقو الحزب الوطني، الذين رفضوا أن يكون لهم معارضين تحت قبة البرلمان، كان عليهم هذه المرة ان يواجهوا هذه المعارضة في الشارع.

لقد سئم الشارع وهو يشاهد التصاعد المستفز لطبقة رجال الأعمال في مصر، وإصرارهم على الإمساك بكل الخيوط؛ الأعمال والإعلام والسياسة والمجتمع في ذات الوقت، ذلك أن الإمساك بكافة خيوط اللعبة هو السبيل الأسهل والأسرع لتسهيل الأعمال، ومن ثم ثراء أسرع وأرباح أكثر، وبالطبع، في ظل الفساد، ضرائب اقل. هذا الصعود غير المنظم لطبقة رجال الأعمال أدى إلى الاتساع السريع للفوارق الطبقية بين السكان، وبعد ان عاش الشعب المصري لفترة طويلة من الزمن على شكل طبقة وسطى تقريبا، خصوصا بعد سياسات حركة يوليو الاشتراكية التي نفذها عبد الناصر، والتي قضت على الرأسمالية المصرية، التي كانت تنفذ بشكل منهجي في ذلك الوقت باعتبارها تمثل احد مبادئ الحركة، وهو "القضاء على الإقطاع (الملكيات الكبيرة للأراضي، باعتبار ان الزراعة كانت النشاط الرئيسي لمصر والأرض كانت عنصر الإنتاج الرئيس في الدولة) وسيطرة رأس المال على الحكم"، في الوقت الذي تراجعت فيه المستويات المعيشية لباقي الطبقات في ظل تصاعد مستويات التضخم وانخفاض مستويات الدخول، دون رد فعل مناسب من جانب الحكومات المتعاقبة.

هناك تعليقان (٢):

  1. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  2. الله يحفظ مصر وأهلها
    الشعب المصري يستحق حياة أفضل

    من يحرك هذه الجموع الصاخبة عبر أنحاء الجمهورية كلها وبهذه الدرجة العالية من التنظيم؟

    قال تعالى (وايدة بجنود لم تروها)

    وقال تعالى (ياايها الذين امنوا اذكروا نعمة الله عليكم اذ جائتكم جنود فأ رسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا).

    بعد أن تهدء الأمور، سيستغرب الشباب أنفسهم، كيف قاموا بهذا التنظيم العجيب؟ هم أيضاَ لا يعرفون الإجابة، وكيف ولماذا عملوا كذا وكذا.

    ربما هي قوة اودعها الله في الانسان، تتعلق بصراع الخير والشر، فإذا تمكن الشر والظلم واحكم قبضته الحديدية تتفجر هذه القوة في الانسان ويتصرف بسلوكيات مذهلة ومحيرة لينتصر الخير والعدل.
    ولهذا يقول الحكماء (من رحم الليل يولد الفجر).
    يقول سحانه وتعالى "فان مع العسر يسرا). أي كلما تعسرت الأمور جاء الفرج.

    ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فٌرِجَت وكان يظنُّها لا تُفرجُ

    شكراً دكتور محمد
    في البحرين الكل يتعابع مصر، وقلوبهم مع الشباب، ونسأل الله أن يجعل مصر آمنة ويعم فيها كل الخير.

    ردحذف