نشر في صحيفة القبس بتاريخ الأربعاء 28/3/2012
تكثفت في الفترة الأخيرة مطالبات فئات كثيرة في الدولة بزيادة
المرتبات واقتراح إقرار كادر خاص لكل فئة مهنية، بغض النظر عن مدى توافق تلك
المطالبات مع مفهوم الكادر من الناحية الفنية وشروطه ومتطلبات تطبيقه على تلك
الفئات، وقد استندت كافة الفئات المهنية في مطالباتها إلى الزيادات غير الطبيعية
التي حصلت عليها بعض الكوادر في الدولة، وأن العدالة بين الفئات المهنية المختلفة
اختلت بهذا الشكل، الأمر الذي يتطلب ضرورة تصحيح الوضع بإقرار كوادر خاصة لتلك
الفئات أيضا، تحقيقا للعدالة بين كافة العاملين في الدولة.
هذا المنطق للمطالبات بالكوادر بغض النظر عن مدى انطباقها من عدمه على
تلك الفئات، يوضح حقيقة في غاية الأهمية وهي أنه ربما ينظر العاملون في الدولة إلى
ما يحصلون عليه من رواتب وتعويضات ليس على أنها أجر في مقابل إنتاج وزيادة إنتاجية،
وإنما هي أقرب إلى نصيب العامل في الثروة النفطية للبلد، والذي يجب أن يحصل عليه
بغض النظر عن مؤهلاته أو مهاراته أو طبيعة الوظيفة التي يؤديها، ومن هذا المنطلق
فإن الزيادات لتسوية الفروقات بين الفئات المختلفة من العاملين في الدولة تصبح
مستحقة، ولو من خلال فرض الأمر الواقع على الحكومة من خلال الوقفات الاحتجاجية أو
بالتهديد بالإضراب أو حتى بالقيام بالإضراب بالفعل، مثلما حدث في إضراب الجمارك
وإضراب العاملين بالخطوط الجوية الكويتية.
لابد من الاعتراف بأن الزيادات التي حصلت عليها بعض فئات العاملين في
الدولة كانت كريمة للغاية لدرجة تبعث على الإحساس بقدر من عدم المساواة بين الفئات
المختلفة من العاملين في الدولة، ومن المؤكد أنها تمثل الدافع الأساسي الذي يقف
وراء ما يتم حاليا من محاولات لإجبار الحكومة على إقرار زيادات خاصة لباقي
العاملين في الدولة لإحساس بعض فئات العاملين بأن غبنا ما وقع عليهم. حاولت
الحكومة حل المشكلة من خلال إقرار زيادة موحدة لجميع الفئات بمقدار 25% من الراتب،
ولكن بعض الفئات رفضت هذه الزيادة واعتبرتها غير مناسبة لتصحيح الخلل بينهم وبين
الكوادر الأخرى في الدولة.
المشكلة الأساسية التي تترتب على الاستجابة لمثل هذه الضغوط برفع
المرتبات مرة واحدة سوف تحدث أربعة آثار في غاية الخطورة على الأجلين المتوسط
والطويل:
الأول: أنها سوف ترفع من مخصصات الإنفاق العام على الأجور والمرتبات في
الميزانية العامة للدولة وبصورة دائمة، بحيث يتضخم الباب الأول في الميزانية وكذلك
اعتمادات الدولة للرواتب الأخرى، وذلك بسبب عدم قابلية الأجور للخفض تحت أي ظرف من
الظروف، خصوصا إذا كنا نتحدث عن العاملين في الدولة. منم المؤكد أن مثل هذه التطورات
سوف تؤدي إلى زيادة الضغط على المالية العامة للدولة على المدى الطويل.
الثاني: أنها سوف تؤدي إلى زيادة العجز الاكتواري لمؤسسة التأمينات
الاجتماعية، ويتمثل العجز الاكتواري في الفرق بين التزامات مؤسسة التأمينات
الاجتماعية من معاشات تقاعدية، والتي سوف تميل بالطبع نحو التزايد مع أي زيادة
تحدث في المرتبات، وبين ما تجمعه المؤسسة من أقساط تأمين من العاملين في الدولة
المؤمن عليهم لديها، وبما أن الجانب الأكبر من الأقساط التي تجمعها المؤسسة في
أثناء فترة خدمة العامل يتم على أساس مستويات أقل من المرتبات (مقارنة بالمرتبات
عند التقاعد) فإن المؤسسة سوف تصل إلى مرحلة تكون فيها غير قادرة على الوفاء
بالتزاماتها نحو المتقاعدين بدون أن تحصل على المساعدة المالية المناسبة من الدولة.
لقد أثبتت التجربة السابقة أن العجز الاكتواري أمر خطير جدا ومكلف في ذات الوقت
للدولة، فمنذ سنوات قليلة التزمت الحكومة بسداد إحدى عشر مليار دينار لمؤسسة
التأمينات الاجتماعية لسداد العجز الاكتواري، ولا شك أن مثل هذه المبالغ مرشحة
للتزايد في المستقبل وذلك مع أي زيادة في المرتبات التي يحصل عليها العاملون في
الدولة.
الثالث: أن هذه الزيادات في المرتبات في غضون هذه الفترة القصيرة من الزمن
سوف تعني ضخ مئات الملايين من الدنانير سنويا والتي سوف يتحول جانب كبير منها نحو
الاستهلاك لارتفاع الميل المتوسط للاستهلاك بين الأفراد في الدولة بشكل عام، وهو
ما يؤدي إلى تغذية الطلب الكلي في الدولة ومن ثم التضخم. وقد يرى البعض أن أثر زيادات
المرتبات على التضخم لن يكون ملحوظا باعتبار أن الجانب الأكبر لما نستهلكه في
الكويت مستورد من الخارج، ومن ثم فلن تخضع تكاليف إنتاجه للضغوط الناشئة عن زيادة
المرتبات في الكويت. مثل هذا التحليل يكون صحيحا اذا كنا نتحدث عن زيادة طارئة في
الدخول مثل المنحة الأميرية، إلا أننا نتحدث عن زيادة مستمرة في المرتبات سوف تشكل
ضغطا مستمرا على الطلب الكلي داخل الدولة، ومن المعلوم أن التضخم في اقتصاد مفتوح
مثل الكويت يأتي من مصدرين؛ الأول هو التضخم المحلي، والراجع إلى تزايد أسعار
السلع والخدمات المنتجة محليا نتيجة لارتفاع تكاليف إنتاجها او لتزايد الطلب
عليها، والتضخم المستورد الذي يتسرب إلى الدولة مع أسعار السلع التي يتم استيرادها
من الخارج. وعندما ترتفع أسعار السلع المحلية بصورة مستمرة فإن هذه الزيادات السعرية
سوف تطال أيضا السلع المستوردة من الخارج لتعويض الوكلاء والمستوردين عن ارتفاع
تكاليف أداء الأعمال في الدولة ولمجاراة الزيادات التي تحدث في الأسعار بشكل عام محليا.
إن الكثير من العاملين في الدولة ينسون في خضم سعيهم الحثيث نحو زيادة
المرتبات أن الزيادات الكبيرة في الأجور والتعويضات الأخرى سوف تنعكس للأسف الشديد
سلبا عليهم لاحقا، فمن الواضح أن العاملين في الدولة او نقاباتهم يعيشون ما نطلق
عليه في علم الاقتصاد، حالة الوهم النقدي Money Illusion،
أي أن العاملين يهتمون بالدرجة الأولى بما سيدخل جيوبهم من مرتبات من الناحية
الإسمية دون أن يقيموا أثر ذلك على ما سيدفعونه لاحقا من تلك الزيادات في صورة
ارتفاع في المستوى العام للأسعار وزيادة تكاليف المعيشة. فبعد فترة قليلة من زيادة
المرتبات سوف تبدأ الأسعار في الارتفاع، وتتراجع بالتبعية القوة الشرائية لما يحصل
عليه العاملون من مرتبات وتعويضات أخرى، ويكتشف العاملون أن ما حصلوا عليه من
زيادات في الأجور قد ذاب مع ارتفاع تكاليف المعيشة، وأن أوضاعهم لم تتحسن بعد
الزيادة، بل ربما تسوء تلك الأوضاع اذا تجاوزت نسبة الزيادة في الأسعار نسبة
الزيادة في الرواتب التي حصل عليها العاملون في الدولة.
من هنا سوف يعاود العاملون في الدولة مطالبة
الحكومة بزيادة المرتبات لمواجهة الارتفاع في تكلفة المعيشة، واذا استجابت الدولة لتلك
الدعوات فإن ستصب المزيد من البنزين على نار التضخم المشتعلة، فترتفع الأسعار
وتتراجع القوة الشرائية للمرتبات، ومن ثم تتصاعد الدعوات مرة أخرى بزيادة المرتبات
وهكذا، فإن حالة الوهم النقدي التي يعيشها الكثير من العاملين في الدولة سوف لن
توقف المطالبات بزيادة المرتبات في المستقبل في الدولة وسوف تستمر اعتمادات
المرتبات في الميزانية العامة للدولة في التصاعد بمعدلات كبيرة قد لا تقوى الميزانية
على تحملها على المدى الطويل، أو ربما يتم استيفاءها ولكن على حساب ما تخصصه
الدولة لوظائفها الأساسية من تقديم السلع والخدمات العامة مثل الصحة والتعليم والبنية
التحتية، وهي تطورات سوف تكون تأثيراتها في غاية الخطورة على تنافسية الاقتصاد
الكويتي وقدرته على النمو.
الرابع: أن هذا التصرف من جانب الحكومة يتناقض تماما مع
استراتيجياتها التي أعلنت عنها في خطة التنمية متوسطة المدى، حيث يشير الهدف
الثاني في الخطة إلى ضرورة أن يقود القطاع
الخاص التنمية وفق آليات محفزة، وذلك من خلال سعي المخطط إلى تهيئة الظروف والبيئة المواتية و الآليات المحفزة ليمارس هذا القطاع دوره المرتقب
بتقليص هيمنة القطاع العام تدريجيا وزيادة مساهمة القطاع
الخاص، ومما لا شك فيه أن الزيادات الجوهرية التي تتم حاليا في أجور وتعويضات
العاملين في الدولة لا تصب في تحقيق هذا الهدف، لأن القطاع الخاص لا يمكنه مجاراة
الحكومة في هذه الزيادات الكبيرة في المرتبات، ومن ثم لن يتمكن القطاع الخاص أن
يمارس دوره المرتقب في توظيف العمالة الوطنية وخلق فرص عمل لها خارج القطاعين
الحكومي والعام بمثل هذه المستويات من المرتبات، لسوء الحظ أن العكس هو المتوقع أن
يحدث، حيث سوف تشجع المستويات المرتفعة حاليا للمرتبات والتعويضات العاملين في
القطاع الخاص للهجرة والتحول نحو القطاع الحكومي.
الحل لا يجب إذن أن يكون بالزيادات العشوائية
في مرتبات العاملين في الدولة، وإنما بالزيادات المدروسة على نحو صحيح أخذا في
الاعتبار ثلاثة عوامل أساسية وهي: الزيادات الطبيعية التي يحصل عليها العمال في
صورة علاوات دورية وارتفاع مستوي الأجور والتعويضات بفعل الانتقال بين الدرجات
الوظيفية المختلفة، والزيادة التي تحدث بالفعل في تكلفة المعيشة نتيجة ارتفاع
الأسعار، والتكلفة طويلة المدى لهذه الزيادات في الأجور والمرتبات على أوضاع
الميزانية والمالية العامة للدولة.
من ناحية أخرى فمن الواضح أن الزيادات
العشوائية في المرتبات والكوادر أحدثت قدرا من الخلل بين الفئات الوظيفية والمهنية
المختلفة في الدولة على النحو الذي يشعر الجميع بعدم المساواة بين ما يؤديه من جهد
وما يحصل عليه من تعويض مقابل، وذلك مقارنة بالجهد الذي يبذله الآخرون والمقابل
الذي يحصلون عليه، وهو ما يقتضي حتمية مراجعة التوصيف الوظيفي للمهن والوظائف
المختلفة في الدولة وإعادة تعريف الوظائف والمهن بصورة علمية وتصنيفها بين ما
يستحق أن يدرج على كادر خاص وبين من لا يستحق، وذلك استرشادا بالتصنيفات المتعارف
عليها دوليا في هذا المجال.
وأخيرا فإن الاتجاه الخطير الذي حدث مؤخرا
باعتماد البعض لألية الإضراب للضغط على الحكومة لتحقيق المطالبات بزيادة المرتبات
أو إقرار الكوادر يعد تطورا غير محمود في معالجة مشكلة التفاوت المالي بين مختلف
فئات العاملين في الدولة، وأن الاستجابة الحكومية غير المدروسة لمثل هذه التطورات والرد
المناسب عليها سوف تفتح باب جهنم على الحكومة، فما من فئة وظيفية في الدولة إلا
وتؤدي عملا يمكن أن يؤثر سلبا على المجتمع وبنفس الدرجة التي تحدثها إضرابات
العاملين في الجمارك والخطوط الجوية الكويتية، أو ربما أكثر، إنه ملف معقد للغاية،
ولكن الحاجة إلى التعامل معه بصورة علمية أصبحت أكثر إلحاحا اليوم أكثر من أي وقت
مضى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق