نشر في جريدة القبس يوم الخميس 11/6/2009.
نشرت القبس بتاريخ الاثنين 8/6/2009 أنه قد تم تأجيل النظر في مرسوم قانون الاستقرار المالي لمدة أسبوعين، للمزيد من الدراسة، ودعوة وزير المالية ومحافظ البنك المركزي للرد على الملاحظات على القانون. بهذا الشكل فان الكويت تطبخ قانون الاستقرار المالي على نار هادئة جدا، وهي ليست متعجلة في ذلك. فعلى الرغم من حالة التفاؤل التي سرت عندما قام مجلس الوزراء بإقرار القانون كمرسوم ضرورة، واستبشار الجميع خيرا بأن القانون سوف يعطى أولوية أساسية في عملية الإقرار في الأيام الأولى لانعقاد جلسات المجلس. لكن يبدو انه مازال هناك وقتا طويلا ينتظر القانون لكي يتم إقراره، على الأقل لن يقر إلا بعد انتهاء الإجازة الصيفية، هذا إن تم إقراره بصورته الحالية. بل وربما تنتهي الأزمة المالية قبل إقرار القانون، ليصبح مرسوم الضرورة قانونا عفا عليه الزمن.
قانون الاستقرار المالي على الرغم من محدودية آثاره المتوقعة على القطاع المالي يؤجل إقراره تحت دعاوى حماية المال العام. إذا كنا ننظر إلى مساندة القطاع المالي على أنه هدر للمال العام، فماذا يقول إذن دافع الضرائب الأمريكي أو الأوروبي عندما يرى أن ما تحصله الدولة من دخله في صورة ضرائب تدفعه بسخاء لمساندة مؤسسات القطاع المالي في ظل ظروف الأزمة للحيلولة دون تدهور أداء تلك المؤسسات؟. لماذا تضخ إذن دول العالم تريليونات الدولارات في القطاع لتوفير السيولة اللازمة له؟. لماذا تشتري دول العالم أسهم البنوك والشركات، بل وتلجأ في بعض الأحيان إلى تأميم تلك البنوك، لتصبح الدولة اكبر مساهم فيها؟. هل حكومات العالم الأخرى تتسم بالسفه الاقتصادي؟، بالطبع لا، إن الإجابة في غاية البساطة وهي أن القطاع المالي هو أهم القطاعات الاقتصادية على الإطلاق، هو شريان الحياة الاقتصادي الذي تتحرك به عجلة الاقتصاد المحلي، وبدونه لا يوجد استثمار أو إنتاج أو توزيع أو توظيف أو دخل.
مثل باقي دول العالم فان القطاع المالي في الكويت هو أحد أهم القطاعات، إذا ما استثنينا النفط، ومن ثم فإن حجم القيمة المضافة التي ينتجها هذا القطاع هو من بين الأكبر على الإطلاق في الاقتصاد غير النفطي للكويت. القطاع المالي أيضا هو أكبر موظف لقوة العمل الوطنية، حيث لا يوجد قطاع آخر، غير حكومي، في دولة الكويت يوظف هذه النسب المرتفعة من العمالة الوطنية، على الرغم من فشل كافة الجهود لدفع القطاع غير الحكومي نحو استيعاب المزيد من العمالة الوطنية وتخفيف ضغوط التوظيف على القطاع الحكومي. القطاع الوحيد الذي وفر هذا القدر من الوظائف للعمالة الوطنية هو القطاع المالي. بل إن الشواهد تشير إلى أن القطاع المالي لا يوفر فقط فرصا لتوظيف العمالة الوطنية، بل أيضا يوفر هياكل للرواتب أعلى من تلك التي يوفرها القطاع الحكومي، وهو بهذا الشكل يساعد على التخفيف من حده مشكلة تجزئة سوق العمل في دولة الكويت، ومن ثم تقليل التهافت على القطاع الحكومي الذي أصبحت البطالة المقنعة فيه أحد أهم مشكلات الكفاءة في استخدام موارد الدولة. وقد أثبتت دراسة حديثة في كلية العلوم الإدارية في جامعة الكويت أنه على الرغم من إن البعض فد ينظر إلى القطاع الحكومي على انه الملجأ الأفضل للعمالة الوطنية، فان غالبية الطلبة الذين هم في سبيلهم إلى التخرج أعلنوا أنه يفضلون العمل في القطاع الخاص، وبصفة أساسية في القطاع المالي.
أكثر من ذلك فإن القطاع المالي يمثل حاليا أمل الكويت في مستقبل تتنوع فيه مصادر الدخل بعيدا عن القطاع النفطي، وسبيلا لفك الارتباط بين النشاط الاقتصادي والإيرادات النفطية، حيث يمثل القطاع المالي العماد الأساسي لإستراتيجية النمو الوحيدة المتاحة لدينا الآن نحو المستقبل وهي تحويل الكويت إلى مركز مالي. من البديهي أن المركز المالي لا يمكن أن ينشأ بدون قطاع مالي كبير وقوي وكفئ وفعال وتنافسي. لا يمكن أن تنشئ الكويت مشروعها الاستراتيجي على قطاع مالي ضعيف، لأنه لن يرى النور في ظل عالم ترتفع فيه درجة التنافسية، بصفة خاصة في المجال المالي، بصورة كبيرة. من هذا المنطلق فان القطاع المالي في دولة الكويت في حاجة إلى مساندة جادة وحقيقية تتوافق مع أهمية ومكانة القطاع والدور الذي أصبح يلعبه في الاقتصاد المحلي حاليا، والدور المأمول له أن يلعبه في المستقبل.
قانون الاستقرار المالي ليس كما يظن البعض بأنه سوف يضخ أموالا في القطاع المالي على حساب حقوق المواطن البسيط، على الرغم من أن دول العالم الأخرى تفعل ذلك، ومن ثم فهو لا يؤدي إلى هدر المال العام كما يروج له، لدرجة أن البعض قد ربط بين إقرار القانون وشراء الدولة لقروض الأفراد، أو إلغاءها، وهي مقترحات تمثل هدرا للمال العام في أبشع صوره. قانون الاستقرار المالي المقترح في جوهره يوفر أساسا ضمانات تشجع البنوك على توفير السيولة اللازمة لشريحة محددة من شركات الاستثمار وأيضا للشركات الإنتاجية في القطاع غير المالي، بهدف إقالة الشركات التي تستوفي الشروط من عثرتها، وتشجيع عمليات الاقتراض لتمويل الاستثمار المنتج. البنوك تنتظر القانون لكي تبدأ في التخلص من كميات السيولة التي تحتفظ بها، وتخشى من إقراضها للغير بدون وجود تلك الضمانات الحكومية.
أوضاع البنوك كمؤسسات عاملة في القطاع المالي في دولة الكويت قد تبدو أكثر متانة واستقرارا من أوضاع شركات الاستثمار، التي ينتظر الكثير منها أيضا إقرار القانون لكي يجد منفذا لتوفير احتياجاته من السيولة التي جفت منابعها. الأمر المثير للغرابة أن المتابع للكتابات والتصريحات والتحليلات منذ بدأت الأزمة يلاحظ أن هناك هجوما شرسا على شركات الاستثمار المحلية، لدرجة أن البعض قد أصدر حكما بالإعدام على بعضها، ودعا البعض الآخر لخروج تلك الشركات من السوق. نعم ربما تكون بعض شركات الاستثمار قد أخطأت أو اتبعت ممارسات استثمار أو أنماط أعمال خاطئة، من وجهة نظرنا الآن، ولكن تلك الممارسات لم تكن بمثابة خطأ في مرحلة ما قبل الأزمة المالية العالمية، بل على العكس، كانت تلك الممارسات هي نمط الأعمال السائد في القطاع المالي في العالم أجمع، بما في ذلك أعتى الدول المتقدمة ماليا. إذا كان الأمر كذلك لماذا تتعرض شركات الاستثمار الكبرى لهذا الهجوم الحاد. لمصلحة من أن تسوء أوضاع هذه المؤسسات الهامة. إن علينا أن ندرك أن نموذج الأعمال في قطاع المال قبل أغسطس 2008، يختلف عن نموذج الأعمال الآن. فقد كان القطاع المالي يسير بدون ضوابط رقابية كافية في كل دول العالم، بل وقد كان الجميع يلهث لرفع تلك الضوابط والقيود الرقابية عن القطاع المالي وذلك تحت دعاوى إطلاق المجال للقطاع لكي ينمو بلا حدود نظرا للقيمة المضافة الهائلة التي كان القطاع ينتجها، والأرباح الضخمة التي كان يحققها، والدخول الكبيرة التي كانت تنجم عن نشاطاته، وحجم الوظائف الجديدة التي يسهم في توفيرها. من المؤكد أن هذا النمو غير المنضبط هو الذي تسبب في الكارثة المالية العالمية، لكن الجميع، وفي كل دول العالم، كان يعمل هكذا. شركات الاستثمار لدينا لم تكن إذن استثناءا من تلك القاعدة، ولم يختلف سلوكها عن سلوك أفضل المؤسسات المالية في العالم حتى نصب عليها النار لنحرقها.
شركات الاستثمار، حتى المتعثر منها، في واقع الأمر في حاجة إلى مساندة لكي تستمر في العمل وتصحح من مسارها ومنهاجها وطريقتها في العمل، وتعيد هيكلة أصولها لكي تتمكن من البقاء والاستمرار في أداء أعمالها، وتسهم في نمو هذا البلد على نحو ايجابي. لمصلحة من أن تغلق بعض الشركات أو تخرج من السوق؟. ليس صحيحا أن لدينا شركات استثمار اكبر من طاقتنا الاستيعابية، وأننا يجب أن نضحي بعدد من هذه الشركات، لأن أعدادها أصبحت أكثر من اللازم، فالطاقة الاستيعابية للقطاع المالي في دولة الكويت، وباستخدام كافة المعايير المتعارف عليها عالميا، تشير إلى أن الكويت مازالت في حاجة إلى المزيد من المؤسسات في القطاع المالي، وأن السوق المحلي يمكنه استيعاب أعداد أكبر منها، نظرا لارتفاع درجة التركز في قطاع المال في دولة الكويت بصورة واضحة، سواء كان ذلك بالنسبة للبنوك أو شركات الاستثمار أو شركات التأمين أو شركات النقد الأجنبي.
مؤسسات القطاع المالي تمثل أيضا اللبنة الأساسية التي سوف يرتكز عليها مشروع تحويل الكويت إلى مركز مالي. ومن الناحية العملية فإن المركز المالي في حاجة إلى عدد ضخم من المؤسسات المالية على اختلاف أنواعها لكي يمارس دوره كوسيط في عالم المال على المستويين الإقليمي أو العالمي. نعم مازلنا في حاجة إلى المزيد من المؤسسات المالية، ولكن شريطة أن تعمل في ظل مناخ مالي صحي، ورقابة مهنية عالية من البنك المركزي لضمان عدم انحراف تلك المؤسسات عن أهدافها ولتحقيق دورها المأمول منها في الاقتصاد الوطني. كل شركة ستغلق من شركات الاستثمار ستكون بمثابة خسارة للقطاع المالي من جانب، ولمشروع الكويت كمركز مالي من جانب ثان وللاقتصاد الوطني ككل من جانب ثالث. هذا طبعا لا ينفي حقيقة أننا نحتاج إلى محاسبة من أخطأ، أو أساء استخدام سلطاته، أو دخل في تعارض للمصالح على النحو الذي هدد سلامة الأصول المالية للقطاع.
شركات الاستثمار الوطنية، حتى المتعثر منها، في حاجة إلى مساندة، وليس إلى معاول للهدم. فالجانب الأكبر من هذه الشركات يضيف قيمة مضافة وحقيقية للاقتصاد، ويوظف طاقات بشرية وطنية في فرص توظيف حقيقية وليس في صورة بطالة مقنعة مثلما تفعل الدولة في قطاعها الحكومي، ويستثمر المدخرات في قطاعات الإنتاج المختلفة، ومن ثم يسهم في تحقيق التنويع المأمول للاقتصاد الكويتي. من المؤكد أننا في حاجة إلى وضع الكثير من مؤسسات القطاع المالي على الطريق الصحيح، مثلما تفعل حاليا كافة دول العالم، بحيث تكون الوظيفة الأساسية لتلك المؤسسات هي المساعدة على إنتاج قيمة مضافة وحقيقية وليس تشجيع المضاربة. من المؤكد أيضا أن المرحلة القادمة تتطلب مناخ أعمال أفضل وهيكل تشريعات أقوى وأدوات رقابة أكثر مهنية، وفوق كل ذلك بنك مركزي مسلح بالشكل الذي يمكنه من ممارسة تلك المهمة الصعبة في ضبط إيقاع النشاط المالي. ومن المؤكد أن ممارسة الرقابة على القطاع المالي على النحو السليم، وتهيئة مناخ خال من المخاطر المفرطة، ورفع فرص تحسين أداء المؤسسات المالية سوف يكون أهم التحديات التي سيواجهها البنك المركزي في المستقبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق