نشر في جريدة الاقتصادية السعودية بتاريخ الأحد 5/7/2009
تفاجئنا الصحف من وقت لآخر بتقارير مذهلة عن طبيعة الجامعات الخارجية التي يسجل فيها بعض الطلبة الكويتيين الذين يدرسون في الخارج، ملف الجامعات الخارجية أصبح من الملفات الشائكة التي تحتاج بالفعل إلى عناية خاصة من وزارة التعليم العالي، لخطورة النتائج التي تترتب عليه. يوم الاثنين 15/6/2009 صدرت القبس بعنوانها الرئيسي "طوفان الشهادات الوهمية"، وقد أشارت القبس ضمن الملف إلى أنه وفقا للأرقام الرسمية فإن هناك 13711 طالبا يدرسون في جامعات العالم خارج دولة الكويت، بينما أوضحت الصحيفة أن الرقم الحقيقي 34707 طالبا وطالبة. إذا كانت هذه الأرقام صحيحة فإن ذلك يعني أن هناك حوالي 21 ألف طالبا وطالبة مسجلين في جامعات لا تعترف بها وزارة التعليم العالي في الكويت. هذا الرقم يساوي تقريبا عدد الطلبة المسجلين في جامعة الكويت، الشيء المؤكد أن هؤلاء سوف يعودون يوما ما بشهاداتهم التي لا نعلم كيف حصلوا عليها، ومن المؤكد أيضا أنهم وأولياء أمورهم ومن سوف يستعينون بهم سيشكلون جماعات ضغط للاعتراف بتلك الشهادات حماية لمستقبل هؤلاء الخريجين من الضياع بعد أن أضاعوا أحلى سنوات عمرهم في الحصول على تلك الشهادات. بغض النظر عن مدلولات هذا الرقم، فان الإقبال الشديد على التعليم في الخارج يعني أن هناك مشكلة عرض حقيقة لخدمات التعليم العالي في الداخل، بصفة خاصة التعليم العالي الحكومي.
عدد سكان الكويت يقترب حاليا من 3.5 مليون نسمة تخدمهم جامعة حكومية واحدة هي جامعة الكويت. صحيح أن هناك عدد من الجامعات الخاصة الآن في الكويت، إلا أن تلك الجامعات لا يمكن أن تكون بديلا كاملا للجامعات الحكومية. فالجامعة الحكومية تتمتع بالعديد من المزايا أهمها انخفاض تكلفة التعليم على الطالب الملتحق بها، ومن فإنها ثم تمثل البديل المثالي للطلبة ذوي الدخول المنخفضة، كما تخضع لقواعد محددة من حيث نسب القبول وأعداد المقبولين لضمان حدا أدنى من المستوى التعليمي للطالب الذي يتم التحاقه بها، كما تخضع لمعايير محددة فيما يتعلق بنوعية أعضاء هيئة التدريس في الجامعة وبرامج تنمية مستوياتهم العلمية والمهنية، كما تخضع برامجها التعليمية لقواعد محددة من حيث التصميم وفقا للقواعد المتعارف عليها عالميا، فضلا عن سيطرة الدولة بشكل عام على مخرجاتها وتوجهاتها وخططها..الخ. من المؤكد أن جامعة حكومية واحدة لا تكفي دولة الكويت، ذلك أنه باستخدام المؤشرات المتعارف عليها عالميا بالنسبة لعدد الجامعات لكل مليون من السكان فان الكويت تواجه نقصا واضحا في العرض من الجامعات الحكومية العامة.
مشكلة الجامعات الحكومية هي التكاليف الكبيرة المصاحبة لها، خاصة في ظل عدم استقلالية إدارات تلك الجامعات في تعبئة الموارد المالية التي يمكن أن تحصل عليها الجامعة من المجتمع، ولعل مشروع الجامعة الجديدة في منطقة الشدادية أكبر مثال على ذلك، فالميزانية المرصودة للجامعة الجديدة اقل ما توصف به أنها "ميزانية فلكية"، حيث أن المطلع على تكاليف إنشاء الجامعة الجديدة يصاب بصدمة شديدة. البنى التحتية الحالية لجامعة الكويت، من وجهة نظري، ليست بهذا القدر من السوء بحيث يتطلب الأمر إنشاء مقر بديل، لذلك اقترح، تعظيما لاستفادة دولة الكويت من مواردها المالية، أن يتم إلغاء مشروع الجامعة الجديدة في الشدادية، والإبقاء على جامعة الكويت في مقرها الحالي، واستخدام الميزانية الكبيرة المخصصة للجامعة الجديدة في الشدادية في إنشاء عدد من الجامعات الجديدة صغيرة الحجم في المحافظات، وحبذا لو كانت تلك الجامعات جامعات تخصصية، وذلك لتخفيف الضغط على جامعة الكويت من ناحية ولتوفير فرص أكبر للتعليم الجامعي المجاني للعدد المتزايد من خريجي الثانوية العامة الآن وفي المستقبل من ناحية أخرى، ومحاربة الاتجاه نحو التعليم التجاري داخل وخارج الكويت من ناحية ثالثة.
ولأن جامعة الكويت هي الجامعة الحكومية الوحيدة، ونظرا لضيق الطاقة الاستيعابية للجامعة بسبب قيود المكان والموارد، فان الحد الأدنى لنسب الالتحاق بالجامعة الحكومية الوحيدة من خريجي الثانوية العامة يعد كبيرا جدا بالمقاييس العالمية، لذا لا يجد طالب الثانوية العامة الذي يرغب في استكمال تعليمه الجامعي خيارا آخر سوى اللجوء إلى الالتحاق بالجامعات الخاصة في الكويت، أو الخروج للالتحاق بجامعة أو مؤسسة تعليمية خارج الكويت، وهنا تقع الكارثة. الجامعات الخاصة في الكويت تخضع لعملية تقييم دوري من قبل مجلس الجامعات الخاصة، وإن كنت أرى أن الأمر يتطلب جهدا أكبر في عملية التدقيق من خلال مجلس وطني للاعتماد الأكاديمي تخضع له كافة المؤسسات التعليمية في الكويت والخارج سواء أكانت تلك المؤسسات عامة أو خاصة، عندما بدأت مشكلة جودة الجامعات الخارجية التي يلتحق بها الطلبة الكويتيين في الخارج تتفاقم، أرسلت وزارة التعليم العالي لجانا للوقوف على مستويات جودة التعليم في الجامعات الأجنبية. لجان التقييم التي أرسلتها وزارة التعليم العالي من أساتذة جامعة الكويت لتقييم الجامعات الخارجية وقفت على حقائق مذهلة عن تلك الجامعات، لدرجة أن بعضهم وصف الجامعات التي يلتحق بها الطلبة الكويتيين في الخارج "بالدكاكين التي تبيع الدرجات الجامعية الوهمية لمن يدفع". منذ فترة أيضا فوجئنا بتقرير نشرته القبس حول عمليات تزوير لشهادات الدراسات العليا بصفة خاصة الدكتوراه من قبل مقاولين متخصصين في الدراسات العليا لتأمين الشهادة المعترف بها لمن يدفع، أنها أيضا شبكة خبيثة وظاهرة خطيرة تحتاج إلى وقفة جادة من قبل وزارة التعليم العالي.
قوة العمل المتعلمة جيدا والمدربة فنيا على أعلى مستوى هي أساس أي اقتصاد تنافسي في عالم اليوم. ونوعية المؤسسات التعليمية التي ننشئها والخريجين الذي يتخرجون منها هي سلاحنا الذي سنواجه به المستقبل بكل ما يحمله لنا من تحديات. ومما لا شك فيه أن جودة العملية التعليمية هي اخطر القضايا التي تهتم بها المجتمعات المتقدمة على الإطلاق، ربما أخطر من أي قضية أخري، فعلى أساسها تتحدد فرص تلك المجتمعات للنهوض والرقي في المستقبل. عندما اختلت العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة واليابان لصالح الأخيرة أرسلت الولايات المتحدة فرقا لدراسة النظام التعليمي الياباني، لأنها تؤمن بأن الاقتصاد التنافسي في اليابان لا بد وان يرتكز أساسا على نظام تعليمي مرتفع الجودة. ليس هناك إذن أدنى شك في أن التعليم هو عماد الاقتصاد.
موضوع الشهادات الوهمية موضوع في غاية الخطورة والأهمية في ذات الوقت، فكل شهادة وهمية يحصل عليها خريج كويتي هي أيضا مشروع وظيفة حكومية في المستقبل، لأنه من المؤكد أن حملة الشهادات الوهمية سوف يصعب عليهم أن يجدوا سبيلا سهلا لهم في القطاع الخاص، حيث تلعب معايير الكفاءة والإنتاجية الدور الأساسي في عملية التوظيف والبقاء في الوظيفة، وبما أن الوظيفة الحكومية شبه حق تقريبا لكل من يحمل الشهادة التعليمية، فان أروقة الحكومة والقطاع العام إن آجلا أو عاجلا سوف تستقبل هؤلاء كموظفين جدد بها، لتبدأ معهم معاناة الجميع. وبتدقيق النظر سوف نجد أن كل شهادة وهمية هي أيضا مشروع موظف غير كفئ أو غير منتج أو خامل أو ربما موظف فاسد، ببساطة شديدة كل شهادة وهمية حاليا هي مشروع قنبلة موقوتة في الجهاز الحكومي مستقبلا. ومن الممكن أن تحدث الطامة الكبرى عندما يتحول صاحب الشهادة الوهمية إلى مسئول كبير في الدولة، وذلك إذا استطاع، بالواسطة أو بأي وسائل أخرى، أن يتحول إلى مدير على رأس العمل أو ربما مسئول رفيع، فتضيع لديه الأولويات، ويهدر موارد الدولة بسبب عدم كفاءته أو نقص قدراته. أو ربما قد يفكر صاحب الشهادة الوهمية، بصفة خاصة حملة شهادات الدراسات العليا، في الترشيح إلى مجلس الأمة ويضمن مقعده من خلال إحدى الفرعيات ليترأس بذلك لجان تقييم برامج الدولة وخططها وتوجهاتها المستقبلية، ويشترك في القرارات المصيرية للدولة، ويمثل الدولة من خلال اللجان البرلمانية المختلفة بل ويقترح مشاريع للقوانين .. الخ، الأمر جدا خطير.
لا يمكن أن يوصف ما يحدث في الجامعات الأجنبية غير المعترف بها والتي يلتحق بها الطلبة والتي تمنح شهادات وهمية بأقل من أنه جريمة بشعة ترتكب في حق هؤلاء الطلبة أولا وفي حق هذا البلد ومستقبله ثانيا. ولا يمكن التهاون أو السكوت عما يحدث تحت أي ظرف من الظروف أو بأي ذريعة من الذرائع، فالموضوع في غاية الخطورة، ويحمل تهديدات مدمرة بصفة خاصة للقطاع الحكومي في الدولة.
منذ سنتين اشتركت في لجنة مشكلة من وزير التعليم السابق أ.د. عادل الطبطبائي ومكونة من أ.د. فؤاد العصفور ود. عبد الله العويهان و د. محمد الفارس، لوضع الخطوط العامة لمشروع هيئة وطنية للاعتماد الأكاديمي في دولة الكويت لتكون صمام الأمان لضمان جودة مخرجات التعليم ما بعد الثانوي سواء في دولة الكويت أو في الخارج، وقد كان التوجه لدى اللجنة هو أن تتولى الهيئة الوطنية المقترح إنشاءها مهمة اعتماد كافة المؤسسات التعليمية سوءا في الداخل أو الخارج، حيث ستخضع تلك الهيئة الوطنية الجامعات الوطنية والأجنبية لمعايير الجودة التي تضعها الهيئة كشرط لاعتماد المؤسسات التعليمية بكافة أنواعها واعتماد الشهادات التي تصدرها الجامعات التي تستوفي معاييرها فقط، الأمر الذي يمكن الدولة من السيطرة على نوعية مخرجات العملية التعليمة وجودة المؤسسات التي تقدمها وطبيعة الخريجين الذين يتخرجون من تلك المؤسسات سواء داخليا أو خارجيا، وبالفعل أتممنا التقرير، وتوقعنا أن تبدأ على الفور أعمال إنشاء الهيئة الوطنية للاعتماد الأكاديمي، غير أن التقرير مثل غيره، ظل حبيس الأدراج في وزارة التعليم العالي. ملف الشهادات الوهمية يؤكد ضرورة إنشاء الهيئة الوطنية للاعتماد الأكاديمي، فلا يمكن أن تضمن وزارة التعليم العالي جودة خدمات التعليم العالي المقدمة محليا أو خارجيا إلا من خلال هيئة وطنية للاعتماد الأكاديمي، بحيث تخضع الهيئة جميع مؤسسات التعليم العالي لمعايير صارمة للجودة. وبالمناسبة فان بعض دول مجلس التعاون لديها هيئات وطنية للاعتماد الأكاديمي، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وعمان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق