نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 9/9/2011
الدين اليوناني خارج السيطرة، هذا هو ما توصل إليه تقرير للمكتب البرلماني المستقل للميزانية في اليونان، وهو مكتب تم انشاؤه حديثا في اليونان. خلاصة التقرير هي أن ديناميكيات الدين اليوناني اخذت في الانحراف عما هو متصور بحيث اصبح خارج السيطرة، فالفائض الاولي (الفرق بين الايرادات العامة والنفقات العامة في الميزانية) في الميزانية لم يتحقق بعد، بل العكس هو ما حدث، حيث تفاقم العجز الأولي في الميزانية، وأن اليونان لن تتمكن من استيفاء التزاماتها حول نسبة عجز الميزانية إلى الناتج لهذا العام، الأمر الذي سيؤدي إلى تأخير تنفيذ برنامج التعديل الهيكلي الموقع من جانب الحكومة مع صندوق النقد الدولي.
ما إن نشر التقرير حتى اثار غضب وزير المالية اليوناني الذي وصف بدوره المكتب بأنه لا يملك القدرات المهنية التي تمكنه من اصدار مثل هذا التقرير، وانه لا يملك المعرفة اللازمة أو الخبرة او المسئولية المناسبة لذلك، وبغض النظر عن رد فعل وزير المالية، فإن الامور على الارض تشير إلى ان اليوناني اصبح في غاية الخطورة وأن أوضاع الدين اصبحت غير قابلة للاستدامة بدون تعديل هيكل هذه الديون، ويقصد بإعادة تعديل هيكل الدين تخفيض معدلات الفائدة او اطالة امد الدين او الغاء جانب من الدين، وهو ما يرفضه دائنو اليونان. اليونان إذن أمام وضع حرج للغاية، فما هي حقيقة أوضاع الديون اليونانية، وما هي الأثار المترتبة على استمرار نسبة الدين اليوناني إلى الناتج المحلي عند مستويات مرتفعة، يتوقع ان تصل إلى 150% هذا العام، وما هي آفاق هذا الوضع، هذا ما سنحاول مناقشته في هذا المقال.
سبق وأن تناولت موضوع الدين اليوناني والآثار التي يمكن ان تحدث في العالم اذا افلست اليونان في أكثر من موضع، ومن وقت لآخر تطفو مشكلة اليونان على السطح، مع تأكيد الكثير المراقبين بأنه طال الزمن ام قصر ليس هناك امام اليونان من خيار سوى اعلان الافلاس، فهي من وجهة نظرهم دولة لا تملك امكانية دفع ما عليها من التزامات على المدى الطويل.
في الفترة الأخيرة عاد موضوع ازمة الدين اليونانية إلى الواجهة مرة أخرى، ولكن بصورة مقلقة جدا هذه المرة، وذلك عندما قطعت اللجنة الثلاثية المشكلة من دائني اليونان وهم صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي والاتحاد الاوروبي محادثاتهم مع الحكومة اليونانية لإقرار الدفعة الثانية من المساعدات التي تم اقرارها لإنقاذ اليونان، وقد اصدر صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي تقريرا مقتضبا في وقت واحد، مثير للشكوك، أوضحا فيه أن اللجنة سوف تعود إلى اليونان في منتصف هذا الشهر لاستكمال المباحثات، على امل ان تقوم السلطات اليونانية باستكمال اعمالها الفنية اللازمة لإتمام المناقشات حول السياسات المطلوبة لإعداد التقييم النهائي للوضع اليوناني، في اشارة إلى عدم رضاء اللجنة عن الأوضاع الحالية لليونان.
من جانبه حذر رئيس البنك المركزي الأوروبي من مغبة ترك الأمور على حالها بدون تدخل سريع في الحالة اليونانية، وطلب بسرعة تطبيق الاجراءات التي تم الاتفاق عليها لمعالجة ازمة ديون اليونان، وكذلك بالإسراع بتقديم حزمة الانقاذ التي تم اقرارها لها مناديا في الوقت ذاته أيضا إلى متابعة أوضاع الاقتصاديات الاوروبية على نحو لصيق بصفة خاصة الميزانيات العامة لها.
أدت المخاوف من تعقد ازمة الديون اليونانية إلى تزايد الشكوك بحدوث أزمة ديون سيادية في اوروبا، ذلك أن هناك شعور قوي سائد حاليا بين المستثمرين بأن اليونان على وشك الافلاس، على سبيل المثال قامت مؤخرا مؤسسة ستاندرد أند بور بتخفيض التصنيف الائتماني للدين اليوناني من BB- إلى B-، وهي التصنيفات التي تعطى للسندات غير المرغوب فيها أو ما يسمى بسندات الخردة Junk Bonds، وقد اشارت المؤسسة إلى احتمال حدوث المزيد من التخفيض للتصنيف بسبب المخاطر التي يمكن ان تصاحب الاجراءات التي ستتخذها الحكومة اليونانية لإعادة هيكلة شروط ديونها. هذا التدهور في تصنيف الديون اليونانية أدى إلى ارتفاع معدلات العائد على السندات اليونانية إلى مستويات فلكية. فقد ارتفع معدل العائد على السندات استحقاق سنة إلى حوالي 70%، والسندات ذات الاستحقاق سنتين إلى أكثر من 50%، وهي، بكل المستويات، تعكس حقيقة ان السندات اليونانية لم تعد تساوي شيئا تقريبا، وان احتمالات الافلاس وفقا لتوقعات السوق هذه تعد مرتفعة جدا.
الأسباب المعلومة لهذه التطورات السيئة متعددة أولها أن معدل النمو المتوقع للناتج المحلي الاجمالي في اليونان في هذا العام سوف يكون اقل مما كان مخططا له. إذ أن الكساد الذي تعيشه اليونان آخذ في التعمق، بسبب تراجع تنافسية الاقتصاد اليوناني في السنوات الأخيرة، وقد أدى هذا الوضع إلى اثارة قلق دائني اليونان، ذلك أن اتساع احتمالات تعمق الكساد بصورة اكبر مما هو متوقع، يجعل استيفاء متطلبات تخفيض العجز مسألة صعبة. ذلك أن التراجع في النشاط الاقتصادي سوف يحمل انعكاسات خطيرة بالنسبة لالتزامات اليونان قبل دائنيها، وتشير التوقعات إلى احتمالات ان يتراجع نمو الاقتصاد اليوناني في عام 2011 بين 4.5% - 5.3% مقارنة بالتوقعات السابقة التي وضعت معدل التراجع في النمو عند 3.9% فقط، أكثر من ذلك فإن الحكومة اليونانية اقرت بأن الكساد ربما يمتد إلى العام القادم ايضا.
السبب الثاني هو أن هناك شكوكا حول قدرة اليونان على الوفاء بالتزاماتها حول تخفيض العجز في الميزانية العامة المستهدف لهذا العام، والذي تم وضعه بواسطة المقرضين الاجانب، فقد أعلنت الحكومة اليونانية بأن نسبة عجز الميزانية إلى الناتج سوف تتزايد بصورة أكبر مما كان متوقعا، وربما تكون في حدود 8.5% أو أكثر العام القادم بدلا من المستوى المستهدف لهذا العام وهو 7.6%، وذلك نتيجة تراجع الايرادات العامة للدولة، حيث تواجه الايرادات من الضرائب مشكلة حاليا بسبب ظروف الكساد التي تمت الإشارة اليها، فالكثير ممن يجب ان يدفعوا الضرائب ليس لديهم الأموال الكافية لذلك، ومشكلة إجراءات التقشف التي اجبرت الحكومة اليونانية عليها هي انها لا تساعد الاقتصاد على النمو وانما تعمل على تراجع نموه. العجز في الميزانية يعني إذن أن الاقتصاد اليوناني يواجه أوضاع اصعب مما كان يتوقع، وأن بعض الاجراءات التقشفية المتفق عليها لا بد من تأجيلها أو عدم تطبيقها من الأساس، وان ما تم الاتفاق عليه من اجراءات سابقا لا يعمل كما كان متوقعا في البداية.
السبب الثالث هو أن هناك بعض الشك في قدرة المستشارة الالمانية انجيلا مركل على الحصول على الموافقات اللازمة في البرلمان الألماني لزيادة صندوق الانقاذ الاوروبي الاسبوع القادم، وذلك نتيجة التطورات التي حدثت في انتخابات المحليات حيث حقق حزب مركل هزيمة في الانتخابات. هزيمة ميركل تعني ان مساعدة الدول المدينة الاخرى في المنطقة، على الرغم من أهميتها لتماسك الاتحاد الاوروبي، أصبح لها انعكاسات خطيرة على المستوى المحلي، وبالتالي اصبح من غير المؤكد اذا كانت خطة انقاذ اليونان سوف تمر، وهو ما يبشر باحتمال انطلاق ازمة مالية أخرى في اوروبا.
السبب الرابع وهو أنه في ظل هذه الظروف لا يتوقع انخفاض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الاجمالي في الاجل القريب، فهناك تكهنات بأنه بالرغم من كل ما سوف تتخذه الحكومة من اجراءات، فسوف ترتفع نسبة الدين إلى الناتج إلى 150%، وهي نسبة غير مستدامة، وتعني أن خطة الانقاذ الحالية لن تكون هي الأخيرة وأن اليونان سوف تحتاج إلى خطة انقاذ جديدة في المستقبل القريب.
السبب الخامس هو أن الاجراءات التقشفية التي يطالب دائنو اليونان الحكومة اليونانية بتطبيقها أصبحت خطيرة جدا من الناحية السياسية، وهناك شكوك في قدرة الحكومة على القيام بهذه الاجراءات، كما أن هناك شكوكا أيضا حول قدرة الحكومة اليونانية على تدبير مبلغ الـ 40 مليار دولار المفترض تحصيلها من عمليات الخصخصة التي اتفق عليها وذلك خلال فترة زمنية قصيرة، حيث أن ذلك يعني ان الحكومة لن تكون قادرة على تنفيذ هذا البرنامج بدون اللجوء إلى حرق اسعار للأصول العامة، وهو ما يعني صعوبة تحقيق الحصيلة المستهدفة من الخصخصة خصوصا في ظل الأوضاع الاقتصادية السيئة التي يمر بها الاقتصاد اليوناني حاليا.
حتى هذه اللحظة ما زالت جهود انقاذ اليونان مهددة، بعد ان فشلت اليونان في اقناع المقرضين الدوليين بقدرتها على السيطرة على العجز في الميزانية وبلوغ المستوى المستهدف لها في 2011، وقد حذر صندوق النقد الدولي من أنه اصبح من الصعب ان يتم تقديم تقرير ايجابي حاليا عن اليونان، لان التزامات اليونان حول خفض الانفاق وخطة الخصخصة لم يتم استيفاءها، الأمر الذي يعكس عدم قدرة اليونان على تحقيق مستهدفاتها وهو ما سوف يثير الجدل بين مقرضيها حول امكانية استمرار تقديم المساعدة لإنقاذ اليونان. غير ان الخطورة في عدم تقديم المساعدة اللازمة للإنقاذ هي أنها يمكن ان تتسبب في نتيجة واحدة وهي افلاس اليونان، واذا افلست اليونان، على صغرها، فإنها يمكن ان تعرض الاسواق المالية في العالم، وبالذات الاوروبية إلى اضطراب عظيم.
لقد بدأت آثار المخاوف من خروج الدين اليوناني عن نطاق السيطرة في الظهور بالفعل على أرض الواقع. فقد شهد هذا الاسبوع انخفاضا كبيرا في اسهم البنوك الاوروبية، بسبب القلق من تعرضها للديون السيادية الاوروبية. بعض البنوك التي انخفضت اسهمها داخلة في نطاق مجموعة البنوك التي ستقاضيها الحكومة الامريكية بتهمة بيع سندات عقارية مرتفعة المخاطر بحوالي 196 مليار دولارا بدون الافصاح عن مكونات غطاءها، وهو ما تسبب في خسارة مؤسستي التمويل العقاري ماني فاي وفريدي ماك حوالي 30 مليار دولارا. هذه الادعاءات زادت أيضا من مخاطر البنوك الاوربية المنكشفة على الديون السيادية بصفة خاصة على اليونان، ويقدر بأن البنوك الاوروبية منكشفة بحوالي 94 مليار يورو في الدين اليوناني، وفي حال حدوث صدمة للديون اليونانية فإن البنوك الاوروبية لن تكون قادرة على تحمل هذه الصدمة، بدون عملية اعادة رسملة ضخمة.
من ناحية أخرى فقد اليورو الكثير من قيمته هذا الاسبوع مع تصاعد التكهنات حول مدى قدرة السلطات الاوروبية على ايجاد حل مستدام لهذه المشكلة، وتوفير التمويل اللازم لميزانيتها، ولقد أصحبت الضغوط على الساسة في الدول الاوربية المدينة ضخمة وتهدد مستقبلهم السياسي، وهو ما قد يعطل من تنفيذ خطط التقشف على النحو المطلوب لتخفيض ضغوط الدين، مما يعني أن الحاجة سوف تبدو بصورة اكبر إلى المزيد من الانقاذ في المستقبل، وان استمرار الخلل المالي في الدول الأوروبية سوف يعني ان عملية الاقتراض المستقبلية سوف تكون مكلفة للغاية حيث سيطالب المستثمرون بمعدلات عائد اعلى وهو ما سوف يجعل من الصعب على هذه الدول استمرار التعامل مع الازمة.
تجدر الاشارة إلى أنه على الرغم من تخصيص المنطقة الاوروبية لتريليون دولار لأغراض الانقاذ الا ان انتشار عدوى الديون السيادية يعني أن هذه المبالغ ربما لا تكون كافية للتعامل مع ازمة الديون الاوروبية في حال انطلاقها، بصفة خاصة اذا لحقت ايطاليا وأسبانيا في ركب الدول المعرضة للإفلاس، بعض التقديرات تضع حجم الأموال اللازمة للتعامل مع أزمة الديون الاوروبية بحوالي 3 تريليون دولارا، لكي تتم عملية انقاذ آمنة للدول المدينة في المنطقة، وحتى اليوم لم تتوصل المنطقة الأوروبية إلى صيغة شاملة للتعامل مع ازمة الدين، وان ما يتم حاليا هو التعامل مع كل حالة على حدة، كما أن ما يطبق حاليا من اجراءات هو مزيج من توفير السيولة واجراءات للتقشف، ولكن اعتبارات النمو المصاحبة للبرامج بصفة خاصة الاستثمار لم يتم التعامل معها بصورة جادة وهو ما يعقد من أوضاع الدول المدينة، اذا لم يتم التعامل مع القيود الهيكلية التي تعاني منها هذه الدول.
الخلاصة تتمثل في أن اليونان مطلوب منها حاليا ان تصحح اخطاء ارتكبتها عبر عقود طويلة من الزمن وفي غضون فترة زمنية قصيرة جدا، وهذا لا يمكن ان يتم بصورة سهلة كما يتصور البعض، وان اليونان سوف تتحمل تكلفة ضخمة في اطار عملية الانقاذ. من ناحية أخرى فإن هذه التطورات المخيفة التي تمر بالأزمة اليونانية حاليا أدت إلى تصاعد التوقعات باحتمالات انتقال العدوى لباقي الدول الأوربية ذات الديون الثقيلة، وهو ما يمكن أن يترتب عليه ازمة مالية طاحنة العالم ليس مستعد لها على الإطلاق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق