نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية بتاريخ الجمعة 16/9/2011
شهد الاقتصاد الامريكي في الشهر الماضي تطورات سلبية على نحو يثير القلق، فقد أخذت معدلات النمو في التراجع، حيث تتسم عملية استعادة النشاط الاقتصادي من الكساد الحالي بأنها الأسوأ في التاريخ الأمريكي، وبالصورة التي تنبئ باحتمال انزلاق الاقتصاد الأمريكي مرة أخرى الى الكساد، كما جاءت بيانات تقرير سوق العمل لشهر أغسطس مخيبة للآمال، حيث لم يوفر سوق العمل أي وظائف اضافية، وأصبح من الواضح أن البطالة تستعصي على الحل، حيث ظل معدل البطالة عند مستويات مرتفعة، في الوقت الذي تراجع فيه تصنيف الولايات المتحدة الائتماني بعد أن اتسعت هوة الخلاف بين الحزبين الرئيسيين حول رفع سقف الدين الامريكي، وأظهرت استطلاعات الرأي أن شعبية الرئيس أوباما بلغت أدنى مستوى لها، وأصبح من الواضح أن استمرار الأوضاع على هذا النحو سوف يؤدي إلى نتيجة واحدة وهي وضع رئيس جديد مكان الرئيس أوباما في الانتخابات القادمة بعد 14 شهرا تقريبا.
في محاولة يائسة لإنقاذ الوضع كشف الرئيس أوباما في الأسبوع الماضي النقاب عن خطته التي أطلق عليها لاحقا "قانون الوظائف الأمريكية" والتي حملت الكثير من التفاصيل حول آفاق رفع مستويات التوظف في الاقتصاد الأمريكي. الخطة التي قدمها الرئيس أوباما أربكت الجمهوريين بصورة شديدة، فمن ناحية هم لا يستطيعون رفضها في ظل الجمود الواضح لمعدلات البطالة نحو التراجع حاليا، ومن ناحية أخرى فقد حملت الخطة الكثير من الافكار التي سبق أن رددوها لمعالجة الأوضاع الاقتصادية. الرئيس الأمريكي حمل الجمهوريين المسئولية في حال رفض الخطة متهما إياهم بأنهم المسئولين عن ضعف أداء الاقتصاد الامريكي حاليا، ومنبها أعضاء الكونجرس بأن خلافات الحزبين أصبحت عميقة الى الدرجة التي تحتاج الى صناديق التصويت لكي تفصل فيها، ولكن ذلك لن يتم الا بعد 14 شهرا من الآن، والرئيس لا يستطيع الانتظار لهذه الفترة الطويلة، ولذلك هدد الرئيس الأمريكي بأنه سوف يوصل القضية الى الشعب الأمريكي في كافة أنحاء الولايات المتحدة.
كان رد فعل الجمهوريين على الخطة متحفظا بصورة شديدة هذه المرة، حتى يتمكنوا من بحث كيفية يمكن توجيه السهام القاتلة لها دون ان يؤدي ذلك الى تدمير سمعتهم أمام الناخب الأمريكي، ولكن ما هي خطة الرئيس أوباما لتوفير المزيد من الوظائف للأمريكيين؟ وما هي الآثار المحتملة لتنفيذ هذه الخطة؟ بل وما هي فرص تنفيذها؟ هذا ما سنحاول أن نتناوله بالتحليل في هذا المقال.
احتوت خطة الرئيس أوباما لتوفير الوظائف على عدة مكونات ما بين زيادة في الإنفاق وتخفيضات في الضريبية ومنح أرصدة ضريبية لتحفيز المشروعات على توفير الوظائف، يقدر اجمالي تكلفتها بحوالي 447 مليار دولارا، وتفاصيلها كالتالي:
· اقتراح تخفيضات ضريبية تبلغ تكلفتها 175 مليار دولارا وتشمل توسيع نطاق التخفيضات الضريبية التي تم اقرارها العام الماضي، بما يحقق خفض الضرائب على العاملين بحوالي 160 مليار دولارا، وهو ما يضمن أن تحصل كل أسرة على حوالي 1500 دولارا تخفيضات ضريبية، والسماح للمزيد من الأمريكيين بإعادة تمويل قروضهم العقارية على أساس معدل 4% وهو ما سوف يوفر على كل أسرة حوالي 2000 دولارا. بالطبع تفترض الخطة أن هذه التخفيضات الضريبية سوف تضاف إلى جيوب المستهلكين وتتحول بالتالي إلى إنفاق استهلاكي.
· توفير المزيد من الوظائف بتكلفة 140 مليار دولارا، وذلك من خلال منح المشروعات الخاصة رصيدا ضريبيا إضافيا Tax credit بمبلغ 4000 دولار في مقابل تشغيل كل محارب من المحاربين القدامى، وذلك برفع الرصيد الضريبي من 5600 الى 9600 دولارا، لتشجيع قطاع الاعمال على تشغيل الجنود المسرحين من الجيش، كما سوف تمنح المشروعات التي توظف عاطلا قضى أكثر من 6 أشهر في حالة بطالة رصيدا ضريبيا بمبلغ 4000 دولارا، كذلك تقديم مساعدات لحكومات الولايات والمحليات للاستمرار في الاحتفاظ بالعمال المحليين والحيلولة دون التخلص من 280000 مدرس من وظائفهم في المدارس العامة، واعادة تأهيل 35000 مدرسة عامة ودعم المختبرات وتحديث فصول الانترنت في أمريكا، وتوجيه المزيد من الاستثمارات المباشرة في البنى التحتية من خلال صيانة الطرق وخطوط السكة الحديد والمطارات والأنهار.
· تقديم تخفيضات ضريبية للمشروعات الصغيرة بحوالي 70 مليار دولارا، وذلك من خلال خفض الضرائب على المرتبات لحوالي 98% من المشروعات الى النصف، ومنح إعفاء ضريبي كامل للموظفين الجدد، وكذلك على الزيادات التي تحدث في مرتبات للعاملين الحاليين.
· فتح مسارات العودة للعاطلين بتكلفة 62 مليار دولارا، وذلك كجزء من خطة مد تأمين البطالة لمنع حوالي 5 مليون أمريكي من فقدان الدعم، حيث تشمل الخطة إصلاحات مبتكرة لمنع عملية التخلص من العمال ومنح الولايات مرونة أكبر في استخدام صناديق تأمين البطالة لدعم الباحثين عن الوظائف، ومنع المشروعات من التمييز ضد العاطلين عند التعيين، وتوسيع فرص التوظف للعمال منخفضي الدخول من خلال صناديق دعم التوظيف وبرامج التدريب والوظائف الصيفية وعلى مدار العام للشباب.
فور الاعلان عن الخطة تباينت توقعات المحللين حول آثار تنفيذها على مستويات البطالة في أمريكا، وأن هذه الترتيبات المقترحة أضعف من أن تحل مشكلة البطالة على مستوى الولايات المتحدة وبالطبع من مساعدة الاقتصاد على استعادة نشاطه على نطاق واسع مرة أخرى. حيث تشير التوقعات الى أنه في حال تعاون الجمهوريين مع الرئيس لتنفيذ الخطة، يمكن أن تنتج ما بين مليون الى مليون ونصف فرصة عمل جديدة في السنة القادمة، معنى ذلك أن الأثر المتوقع على معدل البطالة ربما لا يكون كبيرا مثلما هو متوقع، ومن ثم ربما تنخفض البطالة بمعدل 1% - 1.8% فقط. غير أن هذا الخفض، إن حدث، سوف يعد تطورا هاما في حلحلة معدل البطالة ليخترق حاجز الـ 9% نزولا، وهو ما قد يعني أن الحزب الجمهوري سوف يقدم على طبق من ذهب الفرصة كاملة لإعادة انتخاب الرئيس. ذلك أن تراجع معدلات البطالة سوف يمنح أوباما الفرصة لمواجهة ناخبيه ببعض المؤشرات الناصعة عن أداء الاقتصاد الأمريكي في أثناء فترة حكمه ونتيجة لسياساته الاقتصادية الناجعة، من ناحية أخرى فإن موافقة الجمهوريين على الخطة سوف تعني أن الحزب الذي وقف ضد المزيد من الإنفاق للسيطرة على العجز في الميزانية ومن ثم نمو الدين العام كانت مواقفه السابقة مجرد ألاعيب سياسية ولا تعكس مبدأ أصيلا يتبناه الحزب في هذه القضية، وأن ما أثاره بعض أعضاء الحزب من صراخ حول السياسات الاقتصادية لأوباما هو نوع من النفاق سياسي، ولكن يبقى السؤال الحرج وهو، من سيسمح لأوباما بتنفيذ الخطة بأكملها؟
ردود الفعل حتى الآن تشير إلى أن قادة الحزب الجمهوري لا يدعمون الخطة، بل إن البعض كان أكثر حدة في انتقاده لها، كما أبدى البعض تحفظه عليها مشيرا الى أن الكونجرس لا يمكن أن يتحمل أعباءها، وهو ما يثير الكثير من علامات الاستفهام حول مدى استعداد الجمهوريين للتعاون مع الرئيس في هذا الوقت الحرج بالنسبة له، غير أن رفض الخطة سوف يحمل أخبارا سيئة للجمهوريين لأن مضمون هذا الرفض سوف يعني الآتي:
· أن الحزب يقف في وجه توفير المزيد من فرص العمل أمام الامريكيين، وأنه بالفعل المسئول عن استمرار معدلات البطالة مرتفع على النحو الحالي كما يدعي الرئيس أوباما.
· أن رفض الخطة من جانب الجمهوريين سوف يضع الحزب في مأزق أمام الجمهور الأمريكي، لأن جانبا كبيرا من المقترحات التي قدمها اوباما سبق تقديمها من جانبهم في الماضي.
· أن رفض الخطة يمكن أوباما من ان يدعي بأنه يحاول التوصل الى حلول وسط بينما يصر خصومه على الألاعيب السياسية مما قد يضعف موقفهم في الانتخابات القادمة.
يوم الاثنين الماضي أرسل أوباما خطته الى الكونجرس مصحوبة برسالة قوية يدعوهم فيها إلى أن يدعوا السياسة جانبا، منوها في كلمته من الحديقة الوردية في البيت الأبيض الى أن الشيء الوحيد الذي يمكن ان يوقف الخطة هو ألاعيب السياسة، وأن أمريكا لا تستطيع أن تتحمل المزيد منها مجددا، وأن هذا هو الوقت اللازم لإعادة الاقتصاد الأمريكي الى العمل مرة أخرى، وأن الوقت قد حان لفعل شيء وليس مجرد الحديث عنه.
كما أوضح الرئيس أن لديه خطة لخفض الإنفاق وذلك في إطار خطة رفع سقف الدين، كما يخطط الرئيس لإجراء تعديلات بسيطة في الرعاية والدعم الصحي، كما أنه سيطلب إجراء إصلاحات ضريبية للتأكد من أن الأغنياء والشركات الكبرى تدفع حصتها العادلة من الضرائب. على الجانب الآخر وعد أوباما بأنه سوف يقدم خطة طموحة لمعالجة عجز الميزانية لتغطية تكاليف مقترحاته وتحقيق استقرار الدين العام على الأجل الطويل.
أوجه الاعتراض الحالية على الخطة تتمثل في أن معالجة مشكلة البطالة تحتاج إلى برنامج إنفاق حكومي ضخم وليس تخفيضا في نفقات الرعاية والاعانات الصحية، وأن خفض الرعاية الصحية والدعم الصحي لن يحل المشكلة، وقد يجد معارضة بين الديمقراطيين الذين ينظرون الى أن هذه الخدمات لا تلقى التمويل المناسب، فكيف يتم خفض تمويلها. من الواضح أن خطة الرئيس ستواجه معارضة الجمهوريين الذين يحاولون سد الطرق أمام الادارة الحالية. فقد صرح جون بونر أن الجمهوريين يقدرون جهود الرئيس وأن الكونجرس سوف يراجع بنود الخطة الأساسية بالنظر الى التكلفة الحقيقية التي ستتكلفها، ولكن الجمهوريين ينظرون إلى الخطة ببعض الشك، بل إن هناك من يرفض المقترحات التي تقدم بها أوباما، رغم أن بعضها منتقى أساسا من مقترحاتهم هم في الماضي، وهو ما يعني أن من قدموا هذه المقترحات في الماضي لا يؤيدونها اليوم لأنها قدمت من جانب خصومهم هذه المرة.
في خطاب الى الرئيس أوباما ذكر قادة الجمهوريين بأنهم سوف يدرسون الآثار الاقتصادية قصيرة وطويلة الأجل للمقترحات، وأن الكونجرس سوف ينظر إلى التعديلات والأفكار الجديدة التي يمكن أن تحقق النمو الاقتصادي وفتح الوظائف بصورة فعالة، وذكروا أنه ربما يكون لديهم رؤية مختلفة حول ما هو مطلوب لرفع مستوى التوظف في القطاع الخاص في الولايات المتحدة، على الرغم من إيمانهم بأن الافكار التي طرحها أوباما تستحق أن تؤخذ في الاعتبار، في إشارة إلى أنه في حالة موافقة الجمهوريين على الخطة فإن ذلك ربما يقتصر على عدد قليل من المقترحات التي طرحها أوباما.
حرص أوباما على أن يرسل رسالة واضحة الى الجمهوريين بأنه في حال رفض خطته فإنه سوف ينقل هذه الرسالة الى كافة أنحاء امريكا، ولدعم موقفه أطلق الرئيس حملة تحت اسم "قانون وظائف الامريكيين"، والتي تم إنشاء موقع الكتروني لها، كما أن الخطة الاعلامية للخطة سوف ترتكز على أن خطة أوباما مدفوعة بالكامل ولا تكلف الميزانية أعباء اضافية، وذلك اذا ما تم اغلاق ثغرات قانون الضرائب الحالي ومطالبة الأمريكيين الأغنياء بدفع حصتهم العادلة من الضرائب وأن الاقتصاد الأمريكي كان ضحية الرئيس بوش الابن، وأن الجمهوريين كحزب غير حريصين على مصلحة الولايات المتحدة، وفي المقابل التأكيد على أن أوباما شخص متفائل معتدل التفكير إصلاحي ومتواضع ماليا، والتحذير من أن وقت اللعب السياسي انتهى، وأن الوقت الحالي هو التوقيت المناسب لإقرار هذه الخطة، وأنه ما إن يتم اقرارها سوف يعود الامريكيون الى العمل.
المشكلة الاساسية هي أن أوباما ومعارضيه ينظرون من نفس المنظار وهو الانتخابات القادمة، فهل سينتهي هذا السيرك السياسي الذي تشهده أمريكا منذ فترة؟ الاجابة هي لا، وأن الأعداء التقليديين سوف يستخدم كل منهم كافة أوراق التصعيد لكي يؤمن مقعد الرئاسة القادم لحزبه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق