نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية يوم الجمعة 23/9/2011.
الفرنك السويسري، أو حصان العملات الأسود كما أفضل أن أسميه،
يتعرض لتطورات عنيفة في الأسابيع القليلة الماضية، حيث تحول من عملة تتحدد وفقا
لقوى العرض والطلب إلى عملة مثبتة باليورو عند حد أدنى لوقف الارتفاع المستمر في
قيمته، وهي ذات السياسات التي تتبعها الدول النامية عندما تحدد قيمة عملاتها. على
مدى أسبوعين أتناول تطورات معدل صرف الفرنك السويسري وتحليل العوامل المسببة لهذه
التطورات في معدل صرف الفرنك، وذلك من خلال استعراض أداء الاقتصاد السويسري على
المستوى الكلي، والمقارنة ما أمكن مع الدول الكبرى في العالم، ثم في الأسبوع
القادم (إن شاء الله) أتناول الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي السويسري لوقف
جماح الفرنك نحو الصعود.
لقد اصبح يطلق مؤخرا على الفرنك السويسري عبارة "المارك
الألماني الجديد"، في إشارة إلى تحول الفرنك السويسر إلى أقوى عملة في العالم،
مثلما هو الحال بالنسبة للمارك الألماني قبل انضمام ألمانيا إلى اليورو، حيث كان
الطلب على المارك الألماني مرتفعا عالميا، خلال الثمانينيات والتسعينيات، وذلك بعد
تراجع مركز الين الياباني على المستوى الدولي، وتصاعد الدور الذي يلعبه الاقتصاد
الألماني على المستوى الدولي.
مؤخرا تزايد الطلب على الفرنك السويسري على المستوى الدولي حيث
أصبح ينظر إليه حاليا على أنه حصن أمان إضافي مثل الذهب، ونتيجة لذلك أخذت معدلات
صرف الفرنك بالنسبة للعملات الرئيسية في الانخفاض (ارتفاع قيمة الفرنك)، بصفة خاصة
بالنسبة لليورو والدولار الأمريكي، كما هو موضع في الشكل رقم (1)، الذي يوضح معدل
صرف الفرنك بالدولار الأمريكي واليورو والين الياباني. فخلال الفترة من أول يناير
2008 حتى منتصف أغسطس 2011، تراجع معدل صرف اليورو بالنسبة للفرنك بنسبة 59%
تقريبا، بينما تراجع معدل صرف الدولار الأمريكي بالنسبة للفرنك بنسبة 55% تقريبا،
في الوقت الذي كان معدل صرف الفرنك بالنسبة للين الياباني أكثر استقرارا، حيث
تراجع معدل صرف الين بالنسبة للفرنك بحوالي 8% تقريبا خلال نفس الفترة.
أدى استمرار ارتفاع الفرنك إلى تزايد الثقة فيه على المستوى
العالمي، خصوصا في ظل ظروف الأزمة، مما أدى إلى استمرار الطلب عليه مرتفعا من جانب
المستثمرين الدوليين، بالطبع ارتفاع قيمة العملة له آثار إيجابية وأخرى سلبية على
الدولة، غير أنه بالنسبة لاقتصاد صغير مثل الاقتصادي السويسري الذي ترتفع درجة
انفتاحه على العالم الخارجي، فإنه مع ارتفاع قيمة العملة تأخذ تنافسية الاقتصاد
السويسري في التراجع.
مع بدء تأثر الاقتصاد السويسري سلبا بارتفاع قيمة عملته،
أخذت السلطات النقدية في التدخل على نحو كثيف في سوق النقد الأجنبي للضغط على قيمة
الفرنك حتى تتراجع، غير أن كافة الجهود التي تم اتخاذها ذهبت هباء واستمر الفرنك
في الارتفاع على النحو الموضح بالشكل تحت ضغط الطلب المتزايد عالميا عليه، ولكن
لماذا يتزايد هذا الطلب العالمي على الفرنك السويسري على هذا النحو؟ وما هي
العوامل التي تفسر هذا الأداء الاستثنائي للفرك؟
هذا النمو المستقر كان مدعما بمعدلات تضخم منخفضة مقارنة
بباقي الدول حيث اتسم معدل التضخم في سويسرا بالانخفاض بشكل عام وكذلك بالاستقرار
النسبي، حيث لم يزد معدل التضخم خلال السنة الماضية عن 1% تقريبا، مستفيدا من
الارتفاع في قيمة الفرنك، وهو ما يساعد على الحفاظ على القوة الشرائية للفرنك.
أما أهم الأمور الملفتة للنظر فهي أداء سوق العمل السويسري
أثناء الأزمة، فقد عانت أسواق العمل في كافة دول العالم من ارتفاع في معدلات
البطالة على نحو كبير من ناحية، ومن ضعف استجابة سوق العمل لجهود توفير الوظائف في
تلك الأسواق من خلال استخدام سياسات التحفيز المختلفة من ناحية أخرى. فوفقا للشكل
رقم (3) الذي يوضح معدلات البطالة الشهرية خلال الفترة من يناير 2008 حتى يونيو
2011، فإن معدلات البطالة في الاقتصاد السويسري ظلت منخفضة حتى أثناء سنوات
الأزمة، وقد بلغ أعلى معدل للبطالة في سويسرا مؤخرا في يناير 2010، ومع ذلك ظل هذا
المعدل اقل من 4.5% تقريبا، قبل ان تميل معدلات البطالة نحو التراجع إلى 2.8% في يونيو
2011، وهو بجميع المقاييس يعد واحدا من أقل معدلات البطالة في العالم.
من ناحية أخرى فقد اتسمت المالية العامة لسويسرا بالاستقرار
الكبير مقارنة بدول العالم الرئيسة، ففي الوقت الذي تعاني منه دول العالم من عجز
في ميزانياتها العامة وتزايد مستويات الدين العام وخروج الدين عن نطاق السيطرة في
العديد من دول العالم بما فيها الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية، حيث
ترتفع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي على نحو يثير قلق المستثمرين
في العالم، يتسم الاقتصاد السويسري بمالية عامة في منتهى القوة، فوفقا للجدول رقم
(1) والذي يوضح أوضاع المالية العامة لسويسرا خلال العقد الماضي، لم تحقق سويسرا
عجزا في ميزانيتها منذ عام 2005، بما في ذلك أثناء فترة الأزمة، وبدلا من ذلك كانت
سويسرا من الدول القليلة في العالم التي تحقق فائضا في ميزانيتها العامة، على
الرغم من محدودية الفائض كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، بينما مالت نسبة الدين
العام إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو التراجع من 25.6% في عام 2000 إلى 20% فقط في
عام 2010، وذلك بفعل الفوائض المحققة في الميزانية، وهي نسبة منخفضة للغاية
بالمقاييس الدولية حاليا.
وأخيرا يلاحظ أن الاقتصاد السويسري قد استفاد من النمو في
التجارة الدولية بعد الأزمة، حيث تحقق سويسرا فائضا في الحساب الجاري لميزان
مدفوعاتها، ومن ثم تتراكم الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي السويسري بصورة تدعم
الثقة فيه كعملة مطلوبة على المستوى العالمي. بهذا الشكل تكونت الظروف الملائمة
لأن يتحول الفرنك السويسري إلى حصان العملات العالمية الأسود، وأصبح أحد الملاذات
الآمنة في العالم بعد الذهب.
غير
أننا قرأنا مؤخرا بأن البنك المركزي السويسري قد ترك سياسة التحديد الحر لمعدل صرف
الفرنك وفقا لقوى العرض والطلب، وتبنى سياسة جديدة لمعدل صرف الفرنك تقوم على
تثبيت قيمة الفرنك بالنسبة لليورو الأوروبي. فما هي هذه السياسة الجديدة لمعدل صرف
الفرنك وماهي آثارها؟ هذا ما سوف نتناوله الأسبوع القادم إن أحيانا الله سبحانه
وتعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق