الأربعاء، مايو ٠١، ٢٠١٣

قبرص في مهب الريح


أعدت كتابة هذا المقال مرتين، مرة قبل رفض البرلمان القبرصي الضريبة على المودعات المصرفية، وقد كان محور مقالي عن خطة الإنقاذ المقترحة لقبرص، والثانية بعدما جاءتني أخبار رفض الضريبة على المودعات في البنوك القبرصية، والتي غيرت اتجاه الموضوع بشكل جذري. منذ وقت طويل والعالم ينتظر الصورة التي ستكون عليها حزمة إنقاذ قبرص، والتي كان من الواضح أنها تطبخ على نار هادئة، وأن الاتحاد الأوروبي ليس متعجلا في مساندة قبرص، حتى نهاية الأسبوع الماضي عندما تم الإفراج عن معالم برنامج الإنقاذ الذي قدمته الترويكا (البنك المركزي الأوروبي، واللجنة الأوروبية، وصندوق النقد الدولي).
من الوهلة الأولى كان من الواضح أن البرنامج مليء بالألغام التي تجعل جانبا منه غير قابل للتطبيق، أو ربما سيواجه بمقاومة شعبية عارمة، على نمط المقاومة التي واجهتها اليونان مع فرض برامج التقشف لإعادة استقرارها الاقتصادي، وأعتقد أن حزمة إنقاذ قبرص هي أقسى حزمة إنقاذ تم تقديمها حتى الآن إلى الدول المضطربة ماليا في منطقة اليورو، فقد استند البرنامج إلى إجراءات طموحة تستهدف تحقيق استقرار القطاع المالي (المصرفي)، وكذلك إجراءات في الجانب الخاص بالمالية العامة Fiscal لإجراء الإصلاحات اللازمة لدعم تنافسية قبرص وضمان استدامة نموها على نحو متوازن.
تمثلت أهم مكونات حزمة إنقاذ قبرص في الآتي:
سوف تحصل قبرص على 10 مليارات يورو والتي تمثل تكلفة عملية الإنقاذ ولكن بشرط أن يكون ذلك مصحوبا ببرنامج للإصلاح الاقتصادي في قبرص سوف يشرف عليه صندوق النقد الدولي. هذا المبلغ أقل بكثير من الاحتياجات الحقيقية لقبرص والتي تقدر بحوالي 17 مليار يورو، أو ما يساوي ناتجها المحلي الإجمالي في 2012، منها 10 مليارات لإنقاذ البنوك القبرصية، و 7 مليارات لتمويل عجزها المالي، لكن قبرص تحتاج إلى إطفاء خسائر البنوك أولا لضمان سلامة أهم قطاعاتها الاقتصادية.
سوف تفرض ضريبة بمعدل 6.75 في المائة على أصل المودعات في البنوك والتي تقل عن 100 ألف يورو، وبمعدل 9.9 في المائة على المودعات التي تزيد على 100 ألف يورو، وذلك في مقابل حصول المودعين على أسهم في البنوك القبرصية وحوافز أخرى، والتي ترجح احتمالات حصولهم في المقابل على عوائد مالية في المستقبل، وذلك لتشجيعهم على الاستمرار في الاحتفاظ بمودعاتهم في البنوك القبرصية. وتقدر الحصيلة المتوقعة من هذه الضريبة بحوالي 5.8 مليار يورو. ويهدف الاتحاد الأوروبي من وراء هذه الضريبة إلى تخفيض جاذبية القطاع المصرفي القبرصي حتى ينكمش حجمه إلى مستويات تتناسب مع تلك السائدة في المتوسط في منطقة اليورو.
سوف تفرض قبرص ضريبة إضافية (لم يتم تحديدها في الوقت الحالي) على الفوائد على المودعات في البنوك القبرصية.
سوف تقوم قبرص برفع معدل ضريبة الشركات بـ 2.5 في المائة لتصل إلى مستوياتها في ايرلندا 12.5 في المائة.
سوف تلتزم قبرص بخفض نسبة القطاع المصرفي إلى ناتجها المحلي الإجمالي إلى متوسط يتماشى مع دول منطقة اليورو بحلول عام 2018، حيث تصل نسبة هذا القطاع في ديسمبر 2012 وفقا لبيانات البنك المركزي الأوروبي واليورو ستات إلى 713 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي (بعض التقديرات تضع هذه النسبة حاليا بحدود 800 في المائة)، وهي نسبة مرتفعة جدا بالمقاييس الأوروبية، (حوالي 300 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي).
فضلا عن ذلك سوف تتولى الحكومة القبرصية تطبيق برنامج للخصخصة بهدف تقليل حاجتها للمساعدة المالية، ويستهدف برنامج الإنقاذ تخفيض عجز الميزانية إلى حوالي 4.5 في المائة من الناتج المحلي فقط، ويأمل الاتحاد الأوروبي أن يؤدي الالتزام بهذه الحزمة والسياسات المصاحبة لها إلى أن يصبح الدين العام القبرصي مستداما، وأن يظل عند المستويات المتوقعة له في عام 2020 عند نسبة 100 في المائة، وكذلك زيادة قدرة الاقتصاد القبرصي على النمو. بهذا الشكل أكاد أجزم أن الحزمة سوف تخلق مشكلات لقبرص أكثر مما ستفيدها، وأن هذه الحزمة لن تكون هي آخر حزمة تقدم لقبرص.
ولكن لماذا هذا التشدد الواضح على قبرص؟ لماذا لم تعامل قبرص على نحو مشابه لمثيلاتها من الدول الأعضاء الأخرى في اليورو مثل اليونان وإسبانيا وإيرلندا؟ في رأيي أن الإجابة تكمن في طبيعة المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها النظام المالي الأوروبي لو تم تأخير عملية الإنقاذ لهذه الدول مقارنة بالوضع في قبرص، فالاتحاد الأوروبي يحسب تكاليف وأعباء عمليات الإنقاذ، وقبرص دولة صغيرة، وحتى لو تطور الأمر إلى إعلان إفلاسها فإن ذلك لن تكون له الآثار ذاتها للدول الأوروبية الأخرى مثل اليونان، من ناحية أخرى فإن جانبا جوهريا من المودعات في البنوك القبرصية يعود إلى مودعين من خارج الاتحاد الأوروبي، بصفة خاصة من روسيا، كما أن نظامها المصرفي تثور حوله تكهنات بأنه يستخدم في تسهيل عمليات الغسيل الدولي للأموال.
من الواضح أن أخطر ما في الحزمة هو الضريبة على مودعات البنوك في قبرص، ولكن السؤال الأساسي هو لماذا هذه الضريبة على البنوك بالذات؟ هناك أربعة أسباب على الأقل لذلك؛ الأول يتمثل في الحجم الضخم للجهاز المصرفي القبرصي بالنسبة للناتج المحلي، والمودعات لدى البنوك تعتبر أكبر الأصول المتاحة في قبرص تحت يد الحكومة القبرصية التي يمكن أن تفرض عليها الضرائب، معنى ذلك أن فرض مثل هذه الضريبة سوف يضمن حصيلة مالية وفيرة بالنسبة إلى الناتج، الأمر الذي يقلل من الحاجة إلى المساعدة المالية لقبرص. السبب الثاني هو أن جانبا كبيرا من هذه المودعات لا يعود إلى مودعين في الاتحاد الأوروبي والذين يمكن أن يضاروا من هذه الضريبة. السبب الثالث هو أن قبرص قدمت نفسها للمودعين على أنها جنة ضرائب للمودعات، وأن هناك ادعاءات بأن عمليات ضخمة لغسل الأموال تتم من خلال البنوك القبرصية. السبب الرابع هو أن هناك حاجة إلى تخفيض حجم القطاع المصرفي إلى الناتج المحلي الإجمالي بما يتوافق مع متوسط هذه النسبة في الدول الأوروبية كما سبقت الإشارة. بهذا الشكل فإن فرض هذه الضريبة يعد بمثابة تحميل لأصحاب هذه المودعات بجانب من تكلفة عملية إنقاذ قبرص.
كان من المفترض أن يتم إقرار هذه الحزمة من جانب البرلمان أولا حتى يباشر صندوق النقد الدولي عمله، غير أنه وأثناء كتابة المقال جاءني خبر رفض البرلمان القبرصي لضريبة الودائع المثيرة للجدل، والتي وضعت كشرط أساسي لتقديم المساعدة بـ 10 مليارات يورو. ما ساعد على تأمين التصويت ضد الضريبة هو أن الرئيس و 19 عضوا آخرين من حزب التجمع الديمقراطي أعلنوا امتناعهم عن التصويت، بينما صوت باقي البرلمان 56 عضوا ضد الخطة، على الرغم من حث مدير البنك المركزي القبرصي للبرلمان بأن يوافق على الضريبة، وتحذيره من أن أي إطالة لمرحلة إغلاق البنوك يمكن أن يترتب عليها هروب المدخرات من قبرص، وأن الاستمرار في إغلاق البنوك سوف يدمر مصداقية النظام المصرفي القبرصي، وأن قبرص في حاجة إلى استرداد الثقة ببنوكها في الوقت الحالي أكثر من أي شيء آخر.
جاء رفض الضريبة، على الرغم من قيام الحكومة بتقديم نسخة معدلة من الضريبة على الودائع والتي تعفي المودعات أقل من 20 ألف يورو من الضريبة، من منطلق إحساس أعضاء البرلمان بأن الترويكا لم تكن عادلة مع قبرص في فرض هذا البرنامج القاسي، حيث تسبب الإعلان عن فرض الضريبة إلى التكالب على السحب من البنوك وخلو ماكينات السحب الآلي من السيولة حاليا، ولحسن الحظ فإن البنك المركزي كان قد مدد فترة عطلة البنوك حتى يوم الخميس القادم، وهناك تأكيدات بأنها ستمدد حتى الثلاثاء، وإلا كنا قد شهدنا أضخم عمليات تحويل لرؤوس الأموال من قبرص.
مع هذا الرفض للخطة الأوروبية أصبحت الخيارات المتاحة أمام قبرص محدودة فإما أن تعاد المفاوضات مرة أخرى، وهو ما يعمل عليه الاتحاد الأوروبي حاليا، وإما أن تلجا قبرص إلى روسيا طالبة المساعدة لبنوكها، وهو أمر غير محتمل نجاحه، أو أن تلجأ قبرص إلى استخدام أموال المعاشات وهو أمر يضر بالمواطن العادي في سن التقاعد، أو أن تعلن قبرص إفلاسها.
باختصار يتوقع أن تشهد البنوك القبرصية حالات نزوح ضخمة للودائع حال إعادة فتح البنوك، وأنه إذا لم تتوصل قبرص مع الاتحاد الأوروبي لصيغة توافقية للإنقاذ فمن المؤكد أننا سوف نشهد حالة إفلاس أخرى في العالم يعقبها خروج أول دولة من منطقة اليورو، على الرغم من أن الجميع يعلنون أنهم لا يريدون ذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق